بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (القواعد الحِسان في تفسير القرآن)
الدّرس الرّابع والخمسون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبهِ أجمعين، اللهمَّ اغفر لشيخنا وللحاضرين والمُستمعين، قال الشيخ عبد الرّحمن بن ناصر السّعدي رحمهُ الله تعالى، وأسكنهُ فسيحَ جنانه: أصولٌ وقواعدُ في تَفْسيرِ القرآن:
القاعدة الرابعة والخمسون: كثيراً ما يَنْفي الله الشيءَ لانْتِفاءِ فائدتهِ وثَمرتهِ المَقصودةِ مِنه، وإنْ كانتْ صورتهُ مَوجودة.
وذلكَ أنَّ الله خَلقَ الإنسانَ وركَّبَ فيهِ القوى، مِنَ السّمعِ والبَصرِ والفُؤادِ وغَيرها، ليعرفَ ربَّهُ ويَقومَ بِحقّهِ، فهذا هو المقصودُ مِنها، وبِوجودِ ما خُلقَت لهُ تَكْمُلُ ويَكمُل صاحِبَها.
وبفقدِ ذلكَ يكونُ وجودُها أضرَّ على الإنسانِ مِن فَقْدِها، فإنّها حُجَّة الله على عبادهِ، ونِعمتهُ التي توجدُ بِها مَصالحُ الدّين والدنيا، فإمّا أنْ تَكونَ نِعمةً تامّة إذا اقْتَرنَ بِها مَقْصودُها، أو تَكونُ مِحْنةً وحُجَّةً على صاحِبها إذا اسْتَعْمَلها في غيرِ ما خُلقتْ له..
– الشيخ: اللهم سلِّم سلِّم، يا الله
– القارئ: ولهذا كثيراً ما يَنْفي الله تَعالى في هذه الأمورِ الثلاثة مِن أصنافِ الكفّارِ والمُنافِقين..
– الشيخ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ؛ لأنّهم لمْ يَنْتَفِعوا بهذه الحواس والقُوى والنِّعم!
– القارئ: كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [المائدة:103]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ، وقال تعالى..
– الشيخ: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] نعوذ بالله.
– القارئ: ولهذا قالَ تَعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]
فأخبرَ أنَّ صورها مَوجودة ولكن فَوائِدَها مَفْقودة، قال تعالى..
– الشيخ: يَسْتَفيدونَ مِنها، يَعني المنافِع العاجِلة الدنيويّة، عِنْدَهم عُقول ماديّة دُنْيويّة، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، الآن يَعني هذا المعنى، يَتَمثَّلُ بحالِ الكفّار الذينَ فُتِحت لهم أبوابُ العِلم المادي، العلم الدّنيوي، فُتِحتْ لهم الأبواب، صارَ عِنْدهم قُدَرٌ هائِلة عجيبة، فهذه، عِنْدَهم عُقولٌ وذكاءٌ وفِكر، فَيَتَفكرونَ في هذه المخلوقاتِ ولا يَهْتَدونَ بِها، يَتَفكّرونَ فيها للوصولِ إلى المنافعِ الماديّة العاجِلة ولا يَهْتَدونَ بِها، فَمعَ هذا الذّكاء ومع هذه الفِكَرِ، يَكْفرونَ بخالقِ هذا الوجود، والملاحِدة مِنهم يَقولون هذا الوجود ليسَ لهُ صانِع، هذا وُجدَ صُدْفة، فَعِنْدَهم مِنَ الذكاءِ الأمرُ الهائِل الخارِق، وهم أجهلُ الناسِ بأظهرِ الأشياءِ، سبحان الله، وتَعالى عَمّا يَصِفون.
فلذلكَ الله وسمَ الكافرينَ والمنافِقينَ بِعدمِ السمعِ والبَصر، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]
– القارئ: أحسن الله إليك، وقال تعالى: فإنها لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]
– الشيخ: أعوذ بالله
– القارئ: وقال تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ جداً.
وقالَ تَعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151]، فأثبتَ لهم الكفر مِن كُلِّ وَجه؛ فلمْ يَكن دَعْواهُم الإيمانَ بِبعضِ ما يَقولون: آمنّا بهِ مِنَ الكتبِ والرُّسل، بمُوجِب لهم الدّخولَ بالإيمان؛ لأنَّ إيمانَهم بِهم مَفْقودٌ فائِدتُه، حيثُ كذَّبوهم في صِحّةِ رسالةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وغَيرهِ مِنَ الرُّسلِ الذين لم يؤمنوا بِهم، وحيثَ أنّهم أنْكَروا مِن بَراهينِ الإيمانِ ما هو أعظمُ مِنَ الطريقِ الذي أثْبَتوا بهِ رسالةَ مَن ادَّعوا الإيمانَ بهِ، وكذلكَ قولهُ تَعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، لمَّا كانَ الإيمانُ النّافع هو الذي يَتّفقُ عليهِ القلبُ واللسان، وهو المُثمرُ لكلِّ خيرٍ، وكانَ المنافِقونَ يَقولونَ بألسِنَتِهم ما ليسَ في قلوبِهم، نَفى عَنهم الإيمانَ لانْتِفاءِ فائدتهِ وثَمرتهِ.
ويُشبهُ هذا: تَرْتيبُ الباري كثيراً مِنَ الواجباتِ والفُروضِ على الإيمانِ، كقولهِ تَعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، وقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41] إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41]، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4]
وذلكَ أنَّ الإيمانَ الصّادق يَقْتَضي أداءَ الفرائضِ والواجبات، ويَقْتَضي اجْتِنابَ المُحرَّماتِ فما لم يَحصل ذلكَ فهو إلى الآن لم يتمَّ ولمْ يَتَحقّق، فإذا وجِدت هذه الأمورُ تَحقّق، ولهذا قالَ تَعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً
وكذلكَ لمّا كانَ العِلمُ الشّرعي يَقْتَضي العملَ بهِ، والانقيادَ لِكتبِ الله ورُسلِه، قالَ تَعالى عَن أهلِ الكتابِ المُنْحَرفين: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:101]
ونَظيرُ ذلكَ: قولُ موسى عليهِ السلام، لمّا قالَ لهُ بَنو إسْرائيل: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، فَكما أنَّ فقْدَ العِلمِ جَهلٌ ففَقْدُ العَملِ بهِ جَهْلٌ قَبيح.
القاعدة الخامسة والخمسون.
– الشيخ: الله المستعان، لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله، هذه القاعدة المُتقدِّمَةُ كما دلَّ عليها الشرعُ يَدلُّ عَليها العقل، فالشيءُ إذا عُدِمت فائِدتهُ صارَ وجودهُ كَعَدمهِ؛ لأنَّ المقصودَ مِنَ الأشياءِ هي الثّمرات والمنافِعُ والفوائِد، فهذا أمرٌ مَعقولٌ عِند كُلِّ العُقلاء، فَمَن تَعلَّم عِلماً ولم يَسْتَفِد مِنهُ أصبحَ كَمن لم يَتَعلَّمهُ، كَمن لم يَتَعَلَّمْهُ.
وهذه الشّواهدُ التي ذَكرها الشيخ ظاهِرة، السّمعُ والبَصرُ والعقل، إذا لم تُؤدّي وظائِفها وَتَتِم مَنْفَعتُها ومَقْصودها، أصبحَ وجودُها كَعَدمِها، ولهذا صدقَ قولهُ تَعالى في المنافقينَ والكافِرين: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَعلى العاقِل المسلم أنْ يَصرف قُواه الحسيّة والعَقليّة فيما خُلقَ لهُ، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]
فالمُوفَّقُ مَن يَصْرفُ قُواه الظاهِرة والباطنة، يَصْرفها فيما خُلِقَ لهُ، فأمّا الكفّارُ فأمرُهم ظاهِرٌ، فَهمْ مُعطِّلونَ لهذه الغاية كلَّ التّعطيل، والمسلمونَ فيهم وفيهم، فيهم الكُمَّل المُوفَّقون الذين اسْتَعْمَلوا قُواهُم كُلَّها وأوقاتَهم كُلّها فيما خُلِقوا لهُ، هؤلاءِ شأنُ الكُمَّلِ مِنَ الناس، ومِنْهم دونَ ذلكَ، ودونَ ذلكَ، ودونَ ذلك.
فَعلى المسلمِ أنْ يُجاهد، يُجاهد نَفْسهُ للقيامِ بِما خُلقَ لهُ، يُجاهد نَفْسه على ألَّا يَسْمعَ إلّا الخير، ولا يَنْظر إلّا فيما أباحَ الله، أو ما شَرعهُ الله، ولا يَتَكلّم إلّا بالخير، فإذا استُعمِلت هذه القُوى في الباطِلِ صارت ضَرراً عليه، فالنّاسُ في هذه الأمور إمّا أنْ يَستَعمِلوها في الحقِّ وهذا هو المَطلبُ الأعلى، أو يَستَعمِلوها في الحرامِ والإثمِ وهذا هو الضّررُ العظيم، وإمّا أنْ يَستَعمِلوها فيما لا يَنْفعُ فَتكونُ ضَياعاً، تَكونُ ضياعاً لم يَنْتَفِعوا بِها ويَخسَرون، فَمن لم يَستعمل قُواهُ وما أوتيَ مِن حُظوظ، لم يَستَعمِلها فيما يَنفع، وفيما يُحبّهُ الله خَسِرَ هذه النِّعَمَ، وهذه الأسباب النّافعة.
إلى هنا يا عبد الرحمن.
– القارئ: أحسن الله إليك.