بِسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح رسالة (أُصُولٌ عَظيمةٌ مِن قَواعدِ الإسلامِ) لابن السّعدي
الدّرس الثّالث
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعدُ؛ قالَ الشيخُ عبدُ الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمهُ اللهُ تعالى:
القاعدةُ الثالثةُ:
الإيمانُ بالله هو الأصلُ الذي دعتْ إليه جميعُ الرُّسل وبه الرُّقيُّ الحقيقيُّ في الدُّنيا والآخرة، جميعُ الكتبِ التي أنزلَها اللهُ..
– الشيخ: الإيمانُ بالله هو أصلُ الأصولِ، فمن كفرَ بالله لم ينفعْهُ الإيمانُ بغيرهِ، الإيمان بالله يتضمن الإيمان بسائر أصول الإيمان، لأنَّ الإيمانَ بالملائكة والكتبَ والرُّسل، إنما تُعنى بخبره سبحانه وتعالى، فالملائكةُ من عالم الغيب والرُّسلُ إنَّما يظهرُ صدقُهم بالآيات التي يُقدِّرُها الله وتكون برهانًا على صِدقِهِم.
كذلك اليوم الآخر من الغيب، فأصلُ أصولِ الإيمان هو الإيمان بالله، وأصلُ الكفرِ كله هو الكفرُ بالله.
– القارئ: جميعُ الكتبِ التي أنزلَها الله، وجميعَ رسولٍ أرسلَه اللهُ الأصلَ الذي أسدَتْ إليه، والدعوةُ التي دعتْ إليها، هو الإيمانُ بالله والإيمانُ بوجودِه وإيجادِهِ المخلوقاتِ..
– الشيخ: والإيمانُ بوجودِهِ..
– القارئ: الإيمانُ بوجودِهِ وإيجادهِ المخلوقات والإيمانُ بما له من الأسماء الحسنى، وصفاتِ الكمالِ والإذعانُ الكاملُ لعبوديَّته والافتقارِ إليه.
القرآنُ العظيمُ الذي هوَ..
– الشيخ: في هذه الجملةِ أشارَ إلى ان الإيمان بالله يتضمنُ الإيمانُ بربوبيتِه وإلهيتِه وكماله بما لهُ من الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العُلى، كلُّ هذا يندرجُ في الإيمان بالله؛ من الإيمانِ باللهِ: الإيمانُ بما لهُ من الأسماءِ والصفات، من الإيمانِ بالله: الإيمانُ بأنَّه ربُّ كلِّ شيء ومليكَه، وأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ سبحانهُ وتعالى، من الإيمان بالله: الإيمانُ بأنَّه الإلهُ الحقُّ الذي لا يستحقُّ العبادة سواه، كلُّ هذا يندرجُ بأنواعِ التوحيد، كلها تندرجُ في الإيمانِ بالله.
– القارئ: القرآنُ العظيمُ الذي هو أجلُّ الكتبِ وأعظمِها والمُهيمنِ عليها، حثَّ على هذا الأصلِ بالطرق كلها، ففيهِ من أسماءِ الله الحسنى أكثرَ من ثمانينَ اسمًا معرفتُها ومعرفةُ معانيها تملأُ القلوبَ إيمانًا ونورًا ويقينًا وعلمًا وعرفانًا، هو أفضلُ ما حصَّلته القلوبُ وأرقُّ الاعتقاداتِ النافعةِ؛ قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136]
وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]
– الشيخ: تضمَّنَت مثلُ هذه الآية تضمَّنَت الأمرَ بالإيمانِ باللهِ وكتبهِ ورسلهِ ويدخلُ في ذلكَ: "الإيمانُ بالملائكةِ والإيمانُ بالرسلِ والإيمانُ باليوم الآخرِ". لأنَّ طريقَ العلم بالملائكة، واليوم الآخرِ وما سوى ذلكَ من الغُيوبِ طريقُ ذلك هو ما أخبرتْ به الرُّسلُ، وما نزلتْ به الكتبُ، فالإيمانُ باللهِ وكتبِه ورسله، يشتملُ على سائرِ أصولِ الإيمانِ، وجميعِ مسائلِ الإيمان.
– القارئ: وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد:19]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:82]، في مواضعَ كثيرةً يُرتبُ عليها خيراتِ الدنيا والآخرة، ويرتبُ على عدمِ الإيمانِ جميعُ الشُّرورِ الدنيويةِ والأخرويةِ.
ويخبرُ أنَّ الأعمالَ والتعبَّداتِ كلَّها ناشئةٌ عن الإيمانِ، فمن امتلأَ قلبُهُ من الإيمانِ باللهِ، كانت قوةُ عبوديتهِ للهِ بحسَبِ ذلكَ الإيمانِ الذي في قلبِهِ، وكذلك أعمالُ الأسبابِ النافعةِ التي تنفعُ الأفرادَ والشعوبَ.
– الشيخ: اللهُ المُستعان. الإيمانُ بالله هو الأصلُ، والعملُ أثره الأعمال، والأعمالُ أعمالُ القلوبِ وأعمالُ الجوارحِ، أعمالُ القلوب من حبِّ الله وخوفِهِ ورجائِه والتوكُّلِ عليه والحبِّ والبغضِ فيه هي من آثارِ الإيمان. وكذلك الأعمالُ الظَّاهرةُ بحسبِ ما يقومُ بقلبِ العبدِ من صِدْقِ الإيمانِ تصديقًا ويقينًا وانقيادًا يكون أثرُ ذلك في أحوالِه وأعمالِه الظاهرةِ والباطنة.
– القارئ: وكذلكَ أعمالُ الأسبابِ النافعةِ التي تنفعُ الأفرادَ والشعوبَ لا يُمكن للعبدِ أن يقومَ بها على وجهِ الكمالِ والصِّدقِ والإخلاصِ والبناءِ على الأصولِ النافعةِ إلا بالإيمانِ.
فالإيمانُ أصلُ الخير الديني والدنيوي، وبه تُوزنُ الأمورُ صالحَها وطالحَها، وإذا أردتَ تفصيلَ هذه الجملِ العظيمةِ والتمثيلَ لها على وجهٍ يعترفُ به أهلِ العقولِ والألبابِ، فالأمورُ التي يحصلُ بها الرُّقيُّ الحقيقيُّ والسعادةُ والفلاحُ، الاعتقاداتُ الصحيحةُ والأخلاقُ المُزكِّيةُ للقلوبِ.
– الشيخ: لا إلهَ إلا الله، الشيخ يُردِّدُ كلمةَ الرُّقيّ لأنَّ الناسَ صاروا يتكلمونَ عن الرقي، يتكلمونَ عن الرقي كثيرًا، والذين يتكلمون عن الرقي -كما يقصدون- الرقيَّ المادِّيَّ في شؤونِ الحياةِ ينظرونَ ويعتبرونَ الأممَ هذهِ التي صارَ لها ما صارَ من الحضارةِ يُسميها الجهلةُ يُسمونها "الدولَ الراقيةَ" يسمونها الراقية.
وحصل لها الرُّقيُّ بالعلمِ، أي ُّعلمٍ؟ العلمُ الدنيويُّ الذي نُعبِّرُ عنه بالعلمِ المادي. والشيخُ رحمه الله يقول: إنَّ الرقيَّ يعني والرِّفعَةَ والعزَّ والكرامةَ والرقيَّ الحقيقيَّ إنما يتحققُ بالإيمانِ بالله والعمل الصالحِ المبني على ذلك الإيمانِ، "الإيمانِ باللهِ ورسلِه" فهو يريدُ أن يقولَ: ليس هذا الذي حصلَ للكفار هو الرُّقيُّ كما يظنُّ الجاهلون، ليس هو الرُّقيُّ والرِّفعةُ والتقدمُ لا، فكلُّ تفوقٍ ماديٍّ لا يقومُ على الإيمانِ بالله ورسلِه فمآلُه إلى البوارِ فمآلُه إلى الدمارِ، مآلُه إلى الشقاءِ، مآلُ أهله إلى الشقاءِ في الدنيا والأخرة.
الشيخ يريد أن يُرسِّخَ هذا المعنى ويُنكرَ ما يقوله ويتكلمُ به الجاهلون عُمي البصائرِ من الإعجابِ بهذه الأممِ ويُطلقونَ عليها الألقابَ "ألقابَ التفخيمِ والتعظيمِ"، الأممُ المُتقدمةُ والأمم الرَّاقيةُ والمتحضِّرةٌ، ويُضفُون عليه ألقابًا يُبجِّلُونَها ويُعظِّمونها. وينظرونَ إلى المسلمينَ بسببِ ضعفهم في هذه الأمورِ يرونهم يعني مُتخلِّفينَ كما يُسميهمُ الكفار، الكفار يُسمُّونَ الأممَ الإسلاميةَ الأممَ المُتخلِّفةَ، وقد يتحاشَونَ هذا يقولون: "الأممُ الناميةُ" وما أشبهَ ذلك من كلماتِ الخداعِ والتضليلِ. ولا ريبَ أنَّ العزَّ الحقيقيَّ والسعادةَ الحقيقيةَ إنما تكونُ بالإيمانِ بالله ورسلِه وبالعملِ الصالح الذي ندبَ اللهُ إليه في كتابهِ وفي سُنَّةِ رسولِه.
– القارئ: فالأمورُ التي يحصلُ بها الرُّقِيُّ الحقيقيُّ والسعادةُ والفلاحُ الاعتقاداتُ الصَّحيحةُ والأخلاقُ المُزكيةُ للقلوبِ المُطهِّرةِ للأرواحِ الباعثةِ للهممِ والعزائمِ إلى كلِّ خيرٍ، والأعمالُ الصالحةُ النافعةُ في الدينِ والدنيا، وهذه الأمورُ مُتلازمةٌ لا يتمُّ بعضُها إلا ببعضٍ، وبتمامِها السَّعادةُ والفلاحُ، فإذا اعتقدَ العبدُ ما أخبرتْ به الرسلُ عن اللهِ تعالى، وأنَّ لهُ الكمالَ المُطلقَ من جميعِ الوجوهِ بكلِّ وجهٍ واعتبارٍ، وأنَّ الأشياءَ وجودُها وبقاؤُها وكمالُها باللهِ تعالى، ومنه تستمدُّ..
– الشيخ: وأنَّ الأشياءَ وجودُها وبقاؤُها وكمالُها إنما هو من الله وإلى اللهِ. فمنه الإيجادُ إيجاد الأشياءِ فليس لشيءٍ وجودٌ إلا بإيجادِ اللهِ له. ومنهُ الإمدادُ للبقاءِ بإبقاءِ ذلك الموجودِ وبإتمام أحوالِه، فمنه الإيجادُ والإمدادُ للإبقاء وبتقنينِ ذلكَ الموجودِ.
أعد الفقرة.
– القارئ: وأنَّ الأشياءَ وجودُها وبقاؤُها وكمالُها باللهِ تعالى، ومنه تستمدُّ كلَّ شيءٍ فعَلِمَ أنَّ الله هو الخالقُ وحدَه وما سواهُ مخلوقٌ. وهو الرازقُ المُحسنُ وما سواه مرزوقٌ مُضطرٌّ إلى إحسانِ ربِّه وكرمِه من كلِّ وجهٍ، وهو المُدبِّرُ المُصرِّفُ للعالمِ العلوي والسُّفلي.
– الشيخ: لا إله إلا الله
– القارئ: وهو المُدبِّرُ المُصرِّفُ للعالمِ العلوي والسُّفلي بحكمِهِ وعلمِه وعنايتِه وحُسْنِ تدبيرِه.
– الشيخ: لا إلهَ إلا الله، نعم، لا إلهَ إلا الله
– القارئ: قال تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]. وقال تعالى: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، يسمعُ الأصوات..
– الشيخ: لا إلهَ إلا الله
– القارئ: لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، يسمعُ الأصوات. قال تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد:10]، ويرى جميعَ ما حواه العالمُ العلويُّ والسفليُّ، لا يخفى على نظرهِ أدقُّ المخلوقاتِ في أخفى الأمكنةِ، وهو مع ذلك واسعُ الرحمةِ والجودِ والكرمِ والبرِّ والامتنانِ، يفيضُ الإحسانُ إلى مخلوقاتِه آناءَ الليلِ والنهارِ، يدُه بالخيرِ سحَّاءَ الليلِ والنهار، قال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [هود:56]. ومُوصلٌ إليها من برِّهِ واحسانِه جميعَ ما تحتاجُه في وجودِها وبقائِها وتمامِ أحوالها. وهو معَ ذلكَ قد أمرَ المخلوقاتِ أنْ تُنيبَ إليه.
– الشيخ: وكذلكَ كما أنه هو الذي يُمدُّ الأشياءَ بما تحتاجُ إليه من وجودٍ وبقاءٍ وكمالٍ كما تقدمَ، فإنه سبحانه وتعالى فاوتَ بين الأشياءِ في وجودِهِا وفي طبائعِها وفي كمالِها، في تفاوت في اختلاف كثير، اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، وفي العبادِ القويُّ والضعيفُ، والطويلُ والقصيرُ، ويختلفونَ في الخِلْقةِ كذلك، وحكمةُ العامة حكمةُ العامةِ هي الابتلاءُ. "الابتلاء" الله يبتلي العبادَ بما على الأرضِ وبما يجري من الحياةِ والموتِ كما بيَّنَ ذلك: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]. في ثلاثةِ مواضعَ ليبلوكَم. فكلُّ هذا الوجود يعني حكمتُه الابتلاءُ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، وخلقَ الجنَّ والإنسَ ليعبدُوهُ سبحانَهُ وتعالى.
– القارئ: وهو مع ذلك قد أمرَ المخلوقاتِ أن تُنيبَ إليه وتسألَهُ حاجَتها وتفزعَ إليه في جميعِ مهمَّاتِها ومُلِمَّاتِها، فيُجيب الداعين ويكشف ُكرباتِ المكروبين، ويُزيل الضرَّ عن المُضطرِّين ويسوقُ الألطافَ وأنواعَ البرِّ لعبادِه المُنيبين.
فمتى اعتقدَتْ القلوبُ هذه الاعتقاداتِ الصحيحةِ في ربِّها وإلهِهِا فلا بدُّ أن تُنيبَ إليه بالخوفِ والرجاءِ والمحبةِ، وتمتلئَ من تعظيمِه والإيمانِ به، وتطلبُ السعيَ في كلِّ أمرٍ يُرضيه، وتتجنبَ كلَّ أمرٍ يسخطُه فيضطرُّها هذا الأمر إلى الإخلاصِ الذي هو روحُ الأعمالِ فالمُخلصُ للهِ تنبني أعمالُه الظاهرةُ والباطنةُ على أن يكونَ الداعي لها والباعثُ عليها هو الإيمانُ باللهِ، وغايتُها الذي تنتهي إليهِ وتسعى إليه طلبُ رضَاه والتنعُّمُ بثوابِه وخيراتِه.
– الشيخ: هذا أصلٌ عظيمُ الإخلاصُ، الاخلاصُ والعملُ هذا هو الذي تقومُ عليه كلُّ الأعمالِ فهو روحُها وهو قِوامُها كما أنه لا قوامَ لأبدانِ الإنسان والحيوانِ إلا بالروحِ، فلا قِوامَ بالأعمالِ إلا بالإخلاصِ للهِ، فلهذا قال الفضيل بن عياض في معنى: أَحْسَنُ عَمَلًا قال: أحسنُ العملِ أحسنُه: أخلصُه وأصوبُه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصُه وما أصوبُه؟ قال: إنَّ العملَ اذ كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبلْ وإن كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبلْ حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالصُ أن يكون للهِ والصوابُ أن يكون على السُّنَّةِ، فهذا كلامٌ عظيمٌ مُعبِّرٌ مُفسِّرٌ لقوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. فأحسنُ العملِ هو ما كان أكمل إخلاصًا وصوابًا.
– القارئ: فالمخلصُ لله تنبني أعمالُه الظَّاهرةُ والباطنةُ على أن يكونَ الداعي لها، والباعثَ عليها هوَ الإيمانُ بالله. وغايتُها الذي تنتهي إليه وتسعى إليه طلبُ رضاه والتنعُّمُ بثوابِه وخيراتِه. وبذلكَ يزولُ عن القلوبِ جميعَ الأخلاقِ الرَّذيلةِ من الرِّياء والنِّفاقِ والعُجْبِ ومساوئِ الأخلاق وتتحلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ من الحبِّ والإخلاصِ والطمعِ في فضلِ الله والخوفِ من عقابه والصِّدقِ الكاملِ في طلبِ مرضاتِه.
– الشيخ: اللهُ يُصلحُ القلوبَ، الله المستعانُ. يعني الخللُ ما يأتي إلا من ضعفِ الإيمان بالله وكتابِه ورسولِه، فمنشأُ الكمالِ في الأحوالِ والأعمالِ، منشؤُه صدقُ الإيمانِ بالله وكتبِه ورسلِه.
والنقصُ إنما يأتي. والناسُ فريقانِ منهم المؤمنُ، ومنهم الكافرُ، الكافرُ قد فقدَ الإيمانَ وبفقده للإيمانِ قد فقدَ كلَّ خيرٍ فقد كل خيرٍ. وما يُمتعُ به في الدنيا ما هو إلا ابتلاءٌ واستدراجٌ. وأما من آمنَ باللهِ وتحقَّقَ له أصلُ الإيمان بالله فهو بحسبِ حالِه.
فالمسلمونَ والمؤمنون بينهم تضامنٌ عظيمٌ في إيمانهم، فالإيمانُ بالقلوبِ مثلُ النورِ، وكما أن النورَ منه ما هو كالشمسِ ومنه النور الضئيلُ الذي يعني كالشرارةِ الضعيفةِ ولهذا جاءَ في أهلِ النارِ الذين يخرجون من النارِ (من قالَ لا إلهَ إلا الله وفي قلبِه مثقالُ ذرةٍ أو حبةٍ أو خردلةٍ).
– القارئ: وتتحلَّى بأخلاقٍ جميلةٍ من الحبِّ والإخلاصِ والطمعِ في فضلِ اللهِ والخوفِ من عقابِهِ والصِّدقِ الكاملِ في طلبِ مرضاتِه، والإنابةِ التامة إلى ربِّها في رغباتِها ورهباتِها، لأنها تعلمُ أن لا ملجأَ ولا منجا ولا مولىً ولا نصيرَ إلا ربَّها ومليكَها. ويكونُ محبَّتُها للخيرِ الذي يُقرِّبُها إلى مولاها مُقدَّمةٌ على كلِّ محبةٍ، وترى أنَّ قوتَها وغذاءَها وكمالَها بهذهِ الإنابةِ، وهذا الافتقارُ، وتعطِفُ بهذا التعبُّدِ على عبادِ اللهِ فتحبُّ للمسلمينَ ما تُحبُّ لنفسها من الخيرِ وتسعى لذلكَ بحسبِ مقدورِها، ثم إذْ أصابتْها النكباتُ، وحلَّتْ بها المُصيباتُ، فزعتْ إلى ربِّها ليكشفَ ضرَّها ويُثيبها على ما قُدِّرَ عليها.
– الشيخ: حالُ المؤمنِ إن أصابتْهُ سرَّاء شكرَ واتقى ربَّهُ واستقامَ على طاعتِه، وإنْ اصابته ضرَّاءُ صبرَ وعلمَ أنَّ ذلكَ كلهُ منه وإليه، فلا يبطرُ إذا توالتْ عليه النعم، إذا أصابتْهُ النعمْ، ولا يأسى ويجزعُ ويتسخَّطُ اذ ابتُليَ بالمصائبِ لأنه يؤمن بأن ذلك كلَّهُ من الله: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23] فلا بطرَ ولا جزعَ، بل صبرٌ وشكرٌ.
– القارئ: ثم إذا أصابتْها النكباتُ وحلَّتْ بها المُصيبات فزعَتْ إلى ربها ليكشفَ ضرَّها ويُثيبَها على ما قدَّرَ عليها، وتطمعَ غايةَ الطمعِ في فضلِ ربِّها ورجاءِ رحمتِه وطلبِ ثوابَه، وبهذا المعنى الذي تتصفُ به، وهذه العقيدةُ النافعةُ تهونُ عليها المُصيباتُ وتخف عنها المكروهاتُ لما تعلمُه من حكمةِ الله وإسناد الأمورِ إلى تدبيرِه وقدرتِه، ولما ترجُوه من تفريجِ كربِها، لأنها تعلمُ أن لا يُفرجُ الكرباتِ ولا يزيلُ الشِّداتِ إلا هو سبحانَه.
– الشيخ: الله أكبر الله أكبر، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] ليسَ إلَّا الله، لا يُجيبُ المضطرَّ ويكشفُ السوءَ ويخلقُ الخلقَ الأجيالَ ويجعلُ بعضهم خلفاءَ في الأرضِ إلا اللهَ.
– القارئ: لأنها تعلمُ لا يُفرجُ الكرباتِ ولا يُزيل الشداتِ إلا هوَ ولما ترجوهُ من الثوابِ الذي رتَّبَهُ على المكارهِ والصبرِ عليها، وأما من لم يحصلْ له هذا الإيمانُ فإنَّهُ عندَ المصائبِ والمُلمَّاتِ يجري له من الآلامِ القلبيةِ والفظائعِ الروحيةِ والزلَّاتِ العظيمةِ ما لا يمكنُ التعبيرُ عنه، وربما أنَّ بعضَ هؤلاءِ تصلُ بهم الحالُ إلى إتلافِ نفسِه، أو إلى زوالِ عقلِه لعدمِ ما يستندُ إليه ويرجُوه.
كما أنَّ المؤمنَ الحقيقيَّ يتلقَّى المكارهَ والمصائبَ بالصبرِ والقوةِ والطمأنينةِ للأسبابِ التي أشرنَا إليها، فإنَّه يتلقَّى أوامرَ ربِّه بالقوةِ والعزيمةِ الصادقةِ، ويُؤدي حقوقَه وحقوقَ خلقِه بالكمالِ والتمامِ بحسب استطاعتِه، ومع ذلكَ فإنه يعلمُ أنه لا يمكن أن تتمَّ له العبوديةُ وأداءُ الحقوقِ الواجبةِ والمُستحبةِ والمصالحِ الكليةِ والجزئيةِ إلا بالسعي بالأسبابِ الدنيويةِ النافعةِ، وبالقيامِ بالقوةِ المعنويةِ الماديةِ، فانبعثَتْ هِمَّتُهُ لداعي الإيمانِ وداعي العقلِ وداعي الفطرةِ إلى ذلك، وأبدى ما يقدرُ عليه في تحصيلِ ذلكَ، وعلمَ أنَّ المقاصدَ لا تتمُّ إلا بالوسائلِ وأن الوسائلَ التي تتعيَّنُ على المصالحِ مما أمر..
– الشيخ: تُعِينُ
– القارئ: أحسنَ الله اليك.
وأنَّ الوسائلَ التي تُعينُ على المصالحِ ممَّا أمرَ اللهُ به، وممَّا رتَّبَ عليه الثوابَ وعلى الاستهانة به العقابَ، فدخلَ في هذا جميعُ الأسبابِ الموجودةِ والتي ستحدثُ بعد ذلك، فعلِمَ بذلكَ أن الإيمانَ المذكورَ هو الباعثُ على تحصيلِ خيرِ الدنيا والأخرة، وأنَّ من لا يرجو ثوابًا من اللهِ، ولا يخشى منهُ عقابًا، ولا له إيمانٌ يستندُ إليه، أنَّه ضعيفُ الهمةِ ضعيفُ العزمِ النافعِ وإنما عزماتُه في تحصيلِ لذاتِه البهيميةِ وشهواتِه السفليةِ وطمعِه الدنيء. فربما كانت قوتُه في هذهِ الأمورِ وأسبابهِ الماديةِ في تحصيلِها فوقَ ما يتصوَّرُه المُتصوِّرُ ويُعبِّرُ عنه المُتكلِّمُ، ولكن الإيمانَ يستندُ إليه، ولا غايةَ حميدةَ.
– الشيخ: ولكن لا
– طالب: ولكن لا إيمانَ
– الشيخ: إي؛ لا إيمانَ
– القارئ: ولكن لا إيمانَ يستندُ إليهِ ولا غايةً حميدةً يرتجِيها ولا حياةَ أبديةً يعملُ لها.
– الشيخ: هذا التوصيفُ لا يصدقُ إلا على الكافرِ، الكفارُ هم اللي هكذا، لا يرجونَ ثوابًا ولا يخافون عقابًا لأنهم لا يؤمنون َبالمعادِ لا يؤمنون. إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ*أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يونس:7-8]
هذا التوصيفُ ينطبقُ على الكفارِ وبعضِ المؤمنينَ يأخذ قدرًا من هذهِ الأحوالِ ويُبتلى، ففي المُنتسبين للإسلامِ يعني من يُشابه أو يتشبَّهُ أو يُشابهُ الكفارَ في بعضِ هذهِ الأحوالِ، ولهذا صارَ المنتسبون للإسلامِ على مراتب فمنهم: "ظالمٌ لنفسهِ" وهذا صنفٌ واسعٌ كثيرٌ لأنَّ ظلمَ الناسِ بالمخالفاتِ أيضًا يختلفُ، والذنوبُ فيها الكبائرُ والصغائرُ وتفاوتُ الناسِ في حالِهم مع الذنوبِ وفي حالِهم مع الطاعاتِ، وتفاوتُ الناس شيءٌ لا يُحصيه ولا يُحيط به إلا الله.
– القارئ: ولكن لا إيمانَ يستندُ إليهِ، ولا غايةً حميدةً يرتجِيها، ولا حياةً أبديةً يعملُ لها فمن كانت هذهِ حالُه، لم ينلْ في هذه الحياةِ طِيبَها ولا نجحَ في تحقيقِ سعادتِها بقطعِ النظرِ عن الحياةِ الأخرى، فإنه ليسَ له في الآخرةِ من خلاقٍ ولا نصيبٍ، وبهذا يتضحُ لنا..
– الشيخ: هذا التوصيفُ هو المُنطبقُ على الكفارِ
– القارئ: وبهذا يتضحُ لنا ما عليه المُعرضونَ الآنَ عنِ الله..
– الشيخ: إي. وهمُ الكفارُ
– القارئ: وأنَّ هذهِ المناظرَ وما مُتِّعوا به من الحياةٍ ما هي إلا لذاتٌ مؤقتةٌ تحتَها ما شئتَ من الآلامِ والأكدارِ، وأنه لا غايةَ لها، وأنَّ المؤمنينَ باللهِ مهما تنقَّلَتْ بهم الأحوالُ وتطورَتْ بهم الأمورُ، فإنهم خيرٌ من هؤلاءِ وأحسنُ عاقبةً.
– الشيخ: هذهِ مهمةٌ، يعني أفسقُ الناسِ من المسلمينَ ما دام معه أصلُ الإسلامِ والإيمانُ باللهِ هو خيرٌ من الكافرِ، مهما بلغَ في التفوقِ المادي أو كان أيضًا عنده جانبُ أخلاقٍ، فأخلاقُه لا تنفعُه إنما يتمتعُ بها وينالُ بها. يعني كثيرٌ من الكفارِ عندهم بعضُ الأخلاقياتِ التي يغترُّ بها جهلَةُ المسلمين، وهم لا يتخلَّقون بها عن إيمانٍ، لم تصدرْ تلكَ الأخلاقُ عن إيمانٍ بل لمصالح. فالذي يتحلَّى بالصدقِ أو يلتزمُ بالصِّدقِ في مُعاملته، في تجارتِه، في بيعِه، يريد ترويجَ تجارتِه، هذا ينفعُه ذلك في دنياه ولا ثوابَ له في الآخرةِ، لأنه لم يصدرْ في هذه المُعاملة وفي تحرِّي الصدق، لم يصدرْ عن إيمانٍ ورجاءٍ لمثوبةِ اللهِ، ويفعلُ ذلك طاعةً لله.
فالكفارُ يعني يوجدُ عندهم أخلاقياتٌ وأخلاقٌ حسنةٌ، لكن لا يرتقونَ بها إلى الكمالِ الحقيقي إنما هو متاعٌ، متاعٌ في الدنيا. فكثيرٌ من الجهلةِ إذا رأى عندَ بعض الكفارِ أمورًا يستحسنُها، يُفضِّلُ الكفارَ على المسلمين، هذا غلطٌ. فالمسلمُ على خيرٍ وأن حصلَ ما حصلَ منه من نقصٍ وتقصيرٍ، فمعه الأصلُ معه الأصلُ: "الإيمانُ باللهِ ورسولِه واليومِ الآخرِ".
– القارئ: وأنَّ المؤمنينَ باللهِ مهما تنقلت بهم الأحوالُ، وتطورَتْ بهم الأمورُ، فإنَّهم خيرٌ من هؤلاء، وأحسنُ عاقبةً، فلو وُفِّقَ المؤمنونَ للقيامِ الكاملِ بالإيمانِ على الوصفِ الذي ذكرنا لحازُوا الحياةَ الطيبةَ في هذهِ الدنيا والحياةَ التي هي أطيبُ منها في دار القرارِ. وأزيدُك أيضًا: وأنَّ الإيمانَ الذي وصفْنا هو الإيمانُ الذي يحثُّ صاحبَهُ على كلِّ خلقٍ جميلٍ، ويزجرُه عن كل خلقٍ رذيلٍ.
– الشيخ: الحياةُ الطيبةُ ليست مخصوصةً ولا مقصورةً ولا في توفرِ أسبابِ المنافعِ والمصالحِ الماديةِ. الحياةُ الطيبةُ حاصلةً لكلِّ من صحَّ إيمانُه واستقامَ على هدى اللهِ، فهو يعيشُ بحياةٍ طيبةٍ، وان فاتتْهُ كثيرٌ من متعِ الدنيا وملذَّاتها وفقدَ كثيرًا من أسبابِها.
– القارئ: فالإيمانُ يدعُو صاحبَهُ إلى الصدقِ في الأقوالِ، والصدقِ في معاملتِه الخلقَ، فمن لم يكن مؤمنًا هذا الإيمانَ لم تكن مُطمئنًا من أقواله ولا من مُعاملاتِه، وربَّما راعاكَ في شيءٍ وكذلك في أشياءَ وهو الذي يحثُّ على النصحِ للهِ ورسولِه وكتابه وأئمةِ المسلمينَ وعامَّتِهم.
فإيمانُ العبدِ يوجبُ أن يبذلَ في هذه الأمورِ كلَّ ما يستطيعُه من النصحِ ويقدرُ عليه، ومن لم يكن كذلكَ فأنتَ غيرُ آمنٍ من غشِّهِ إن نصحكَ فيما يظهرُ ويُبينُ، فما الذي يمنعُه أن يغشَّكَ في ما يظنُّ أنه لا يُبين؟ ليس معه من الإيمانِ ما يعصمُه من هذا الخلقِ الرَّذيلِ. الإيمانُ المذكورُ يحملُ صاحبَه على الصبرِ والقوةِ والشجاعةِ والإقدامِ في المواضعِ التي يُحجِمُ عنها ضعفاءُ النفوسِ الذين لا إيمانَ معهم، فالمؤمنُ لقوةِ إيمانِه وتوكُّلِه على اللهِ ورجائِه لثوابِه وعلمِه أنَّ الثوابَ الدينيَّ والدنيويَّ والأُخرويَّ يكونُ بحسبِ ما قامَ به من واجباتِ الإيمانِ ومُكمِّلاتِه، وما قامَ به من الجهادِ ويسهلُ عليه القيامُ بالأعمالِ الشاقَّةِ ويهونُ عليه ما يلقَى من الأهوالِ والمُعارضاتِ، ولا يأخذُهم في ذلك لومُ اللَّائمينَ وقدْحُ القادحِينَ ولا يصعبُ عليهِ ما أصابَه من جراءِ ذلك من المصائبِ، وكلَّما قويَ الإيمانُ كانَ قيامُه بهذه الأمورِ أعظمَ وأتمَّ. أما منْ لم يكن معه ذلك الإيمانُ الصحيحُ فمن أينَ له الثباتُ على الصَّبرِ وعلى المُقاوماتِ الشَّاقةِ؟
نعم قد يكون له صبرٌ بعضَ الأوقاتِ في تحصيلِ أغراضِه السُّفليةِ وشهواتِه النفسيةِ، وقد يكونُ عندَه من الشجاعةِ والقوةِ في تحصيلِ ذلك ولكن حالَه ما أرذلَها وأخطرَها وأقلها بقاءً، فإنَّ الوسائلَ تابعةٌ لمقاصدها، فأين من كانت مقاصدُه أجلُّ المقاصدِ "نصرُ الدينَ وإعانةُ المؤمنينَ وقمعُ أعداءِ الدينِ ومُقاومةُ الباطلِ وتحصيلُ الفلاحِ الأبدي والسعادةِ السرمديةِ والقيامُ بحقوقِ الله كليها وجُزئيها".
أين هذا ممَّن نهايتُه إدراكُ رئاسةٍ مُؤقتةٍ ولذاتٍ فانيةٍ مشوبةٌ بالأكدارِ، وكان عاقبتُها الهلاكُ والبوارُ، فوالله إنَّ بين حالَيها لكَمَا بين المشارقِ والمغاربِ..
– الشيخ: حالَيها
– طالب: حالَيهِما
– الشيخ: صح. حالَيهِما
– القارئ: فو الله إنَّ بين حالَيهِما لكما بين المشارقِ والمغاربِ.
الإيمانُ المذكور يحملُ صاحبه إلى العدلِ وينهاهُ عن الظلمِ فإنَّهُ يعلمُ أنَّ إيمانَه لا يتحقَّقُ إلا بذلك، وأنَّ من عدِمَ الإيمانَ فأينَ العدلُ الذي يتأسَّسُ عليه؟ فما تأسَّسَ العدلُ إلا بالإيمان باللهِ واتباعِ الرسلِ والكتب السماويةِ وإلا فطبيعةُ الإنسانِ الظلمُ والفوضويةُ لا في جماعاتِهم ولا في أفرادِهم.
– الشيخ: كما سبقَ أن كفارَ الأممِ الكافرةِ قد يكونُ عندَهم أخلاقٌ من صدقٍ وعدلٍ وإحسانٍ، ولكن لم يقمْ على الإيمانِ بالله، ومن يكونُ عندَه عدلٌ في شيءٍ يكون عندَه ظلمٌ في جانبٍ، مثل ما هو جاري الآن في هذهِ الدولِ الكافرةِ التي تدَّعي ويُدَّعى لها التقدمَ والرُّقيَّ، عندهم جوانبُ من العدلِ لكنهم يمارسونَ من الظلمِ ما يعني ما يضمحلُّ ما عندَهم من العدلِ، فهم يعدلون في أمورِهم الخاصةَ ويظلمونَ غيرهم، يعدلونَ في قومِهم وفي أممِهم وفي شعوبِهم في الجملة -أقول في الجملة- ويظلمونَ الآخرينَ.
فهم يرتكبونَ في ظلمِ الآخرينَ أفظعَ أنواعِ الظلمِ من انتهاكِ الحرماتِ وسفك الدماءِ وأخذِ الأموال والخيراتِ وانتهاكِ الحرماتِ. والله المستعان. الحمد لله، باقي كثير؟
– القارئ: باقي صفحة ثم القاعدةُ الرابعةُ
– الشيخ: طيب كمِّلْ هذا
– القارئ: فطبيعةُ الإنسانِ الظلمُ والفوضويةُ لا في جماعاتهِم ولا في أفرادِهم، وأما ما لم يتأسَّسْ على العدلِ فليسَ من الدينِ، وكيف تأمنُ من لا إيمانَ له، أن يظلمَك في دمِكَ ومالِكَ فإنَّ النفوسَ مجبولةٌ على محبةِ الأثرةِ إن لم يكن معها إيمانٌ يردعُها وعلمٌ صحيحٌ وعدلٌ يحجُرُها، الإيمانُ الموصوفُ بما ذكرْنا.
– طالب: …
– الشيخ: نعم. قُلْها قُلْها
– القارئ: وكيف تأمنُ من لا إيمانَ له أن يظلمَكَ في دمِك..
– الشيخ: كيف تأمنُ، لا، كيف تأمنُ من ظلمِه؟ يعني أن لا يظلمَك، كيف تأمنُ عدمَ الظلمِ؟ يعني مطلوبٌ أم كيف تأمنُ من ظلمِه؟ كيف تأمن من؟
إذا قلتَها "لا" فلا بدَّ أن تكون "لا" زائدةً. يمكن أنها تُناسب لكنها إذا جاءَتْ فتكونُ زائدةً في هذا السياقِ لأن المعنى: "كيف تأمنُ من ظلمِه".
– القارئ: وكيف تأمنُ من لا إيمانَ له أن يظلمَكَ في دمِك ومالِك. فإنَّ النفوسَ مجبولةٌ على محبةِ الأثرةِ إن لم يكن معها إيمانٌ يردعُها وعلمٌ صحيحٌ وعدْلٌ يحجُرها، الإيمانُ الموصوفُ بما ذكرْنا، كما أنَّهُ يدعو أهلَه إلى الأخلاقِ الحميدةِ، وينهاهُم عن الأخلاقِ الرَّذيلةِ ويحثّثهمْ على الآدابِ الحسنةِ فكذلكَ يحثُّهمْ-في سقط بعدها- الدينيةِ.
– طالب: هنا ينبغي: "على مُقتضى الأخوَّةِ"
– الشيخ: "الدينية"، تمام. ما شاءَ الله
– القارئ: فكذلكَ يحثُّهمْ على مُقتضى الأخوَّةِ الدينيةِ، والحقيقةِ الإسلاميةِ عليه من فنونِ الصناعاتِ، وأنواع المخترعاتِ الحديثةِ، واستعدادٍ للأعداءِ بجميعِ الوسائلِ النافعةِ على حسبِ الحالِ المُقتضيةِ، وإلى الكسلِ والضعفِ وألَّا يكونوا كلًا على غيرِهم.
– الشيخ: النسخة هذه يبدو أنها مُستقيمةٌ، أفضل، تُصحَّحُ النسخةُ الأخرى على ضوءِ..
– طالب: …
– القارئ: كذلك يحثُّهم على ما تقتضيهِ المصلحةُ، وعلى جمعِ كلمةِ المسلمينَ واتفاقِهم -في سقط-.
فالمؤمنونَ بالمعنى الحقيقي يقومونَ بهذهِ الأمورِ لداعي الدينِ، إذا قامَ غيرُهم فيها للأمرِ الثاني فقط، ولكن لمصلحةٍ دنيويةٍ أن يسبقَهم هؤلاء القومِ في تحصيلِ الفنونِ العصريةِ التي فيها المقاومةُ والاقتدارُ على المُهاجمةِ وعندَ المسلمين من الدواعي وطلبِ المصلحةِ ما ليسَ عندَ غيرِهم. واللومُ مُوجَّهٌ إلى المؤمنينَ فليسَ عندَهم عذرٌ عندَ اللهِ ولا عند خلقِه ولا تعذرُهم نفوسُهم الأبيةُ، ولا أخلاقُهم وتعاليمُهم.
– الشيخ: اش يقول اش يقول؟
– القارئ: كذلك يحثُّهم على ما تقتضي المصلحةُ وعلى جمعِ كلمةِ المسلمينَ واتفاقِهم على -فيه سقط يا شيخ-..
فالمؤمنونَ بالمعنى الحقيقي يقومونَ بهذهِ الأمورِ لداعي الدينِ –أيضًا في سقط-، إذا قامَ غيرُهم فيها للأمرِ الثاني فقط، ولكن لمصلحةٍ دنيويةٍ أن يسبقَهم هؤلاء القومِ في تحصيلِ الفنونِ العصريةِ التي فيها المقاومةُ والاقتدارُ على المُهاجمةِ وعندَ المسلمين من الدواعي وطلبِ المصلحةِ ما ليسَ عندَ غيرِهم. واللومُ مُوجَّهٌ إلى المؤمنينَ فليسَ لهم عذرٌ عندَ اللهِ ولا عند خلقِه.
– الشيخ: اللومُ على المؤمنينَ المُقصِّرين فيما يستطيعونَه. أما إذا حصلَ ما حصلَ من النقصِ نتيجة عجزِ وتقصيرِ الأخرينَ فلا يضرهم. الضررُ في تركِ الواجبِ مع القدرةِ عليه، وتركِ الفضائلِ مع تيسُّرِها هذا هو المُوجبُ للَّومِ، وما حصلَ على المسلمينَ من نقصٍ هو نتيجةُ أمورٍ مُشتركةٍ. منه ما يتعلَّقُ -هذه الأمورِ التي يُشير إليها الشيخُ- منها ما يتعلَّقُ بمجموعِ الأمة أو بالدولةِ والحكوماتِ لأنَّ كلَّ نوعٍ أو طبقةٍ من الأمةِ عليها من الواجباتِ ما يُناسبُها وعندَها من القُدَرِ ما ليس عند غيرِها، فإذا حصلَ للأمةِ نقصٌ، وحصلَ فيها ضعفٌ، وفاتها بعضُ الأمورِ التي يجب أن تكونَ فهذا يتعلَّقُ بمن فرَّطَ بالواجب ِكلٌّ بحسبِه.
الواجباتُ أنواعٌ منها واجباتٌ تتعلقُ بمُعينٍ مثلَ ما يكون من فروضِ الأعيانِ، منها فروض كفايةٍ مثلًا يكون الشخصُ لا يستطيعُ القيامَ بهذا لكن عليه أن يفعلَ ما يستطيعُ من هذا الواجبِ، فالواجبُ الكفائيُّ يجبُ على المجموعِ لا يجبُ على واحدٍ مُعيَّنٍ أو أفرادٍ معينينَ.
– القارئ: فليس عندَهم عذرٌ عندَ اللهِ ولا عندَ خلقِه ولا تعذُرهم نفوسُهم الأبية ولا أخلاقُهم ولا تعاليمُهم الدينيةُ الإيمانيةُ إذا كان الإيمانُ الحقيقيُّ يدعو إلى هذهِ الفضائلِ ويزجرُ عن جميعِ الرذائلِ اتضحَ أنه الطريقُ الوحيدُ والصِّراطُ الأقومُ للسَّعادةِ الحقيقيةِ والرقي الحقيقي. وأنَّ ما نراه في بعضِ الأممِ الفاقدةِ للإيمانِ ليسَ إلا كالسرابِ حتى إذا جاءَه المُنصفُ وحقَّقَ أمرَه لم يجدْه شيئًا، حتى قالَ بعضُ مُنصفيهم في هذا المقام..
– الشيخ: المقصودُ أنَّ ما حصلَ للأممِ الكافرةِ من مظاهرِ الحياةِ زهرةِ الحياة هو من قديمٍ -من الأصلِ- أنَّ الكفارُ يُبتَلَون بزهرةِ الدنيا: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131]
يجبُ على المسلمينَ ألَّا ينظُروا ولا يُعجَبُوا ولا يهولُهم ما يحصلُ للكفارِ، زُينَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، زُينَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212]. هذا هو المحسوسُ الآن، الكفارُ يسخرونَ من المؤمنينَ، يسخرون من المؤمنينَ بإيمانِهم وبأعمالهم الصالحةِ، ويسخرون أيضًا منهم من جهةِ ما فاتَهم من الحظوظِ الدنيويةِ. وما يفوتُهم من حظوظِ الدنيا لا يضرُّهم عندَ الله شيئًا.
– القارئ: حتى قالَ بعضُ مُنصفِيهم في هذا المقامِ أنَّ الناس َكانوا ولا زالُوا يطلبونَ الحقَّ ولم يكونوا في زمانٍ أبعدَ عنه في هذا الزمانِ، يريدُ بذلكَ: "قومَه"، فما هم عليه من مظاهرِ السعادةِ الدنيويةِ فإنَّ حشوَهُ الآلامُ الشاغلةُ لقلوبِهم أجمعينَ ما يرحمُهم لأجلِه المُقصِّرون عنهم، ويُزهدُ الراغبين في مثلها لهم، ويصدَّهم عن اتباعِهم والسببُ بعدُهم عن الإيمانِ والحقِّ ونزوعُ أنفسهم إلى الباطلِ وهرولتِهم خلفَ دواعي الشهوةِ. والسببُ الأصليُّ في ذلك كلِّه خلوُّ نفوسِهم من الركونِ إلى الإلهِ الواحدِ خالقِ الجميع ورازقِ الأحياءِ ومُقدر الأسبابِ لمكاسبِهم، فهذهِ الأحوالُ والظواهرُ التي لم تُبنَ على الإيمان. هل يقول صحيحُ العقلِ أنها حياةٌ سعيدةٌ؟ والقلوبُ قلقةٌ والنفوسُ محترقةُ، وإنما الراحةُ..
– الشيخ: يقولُ الله في الكفارِ والمنافقين: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا [التوبة:55] فهي عذابٌ، هم معذبونَ بنفسِ ما أوتوا، يُعذبون بالتهالك ِعليها والسعي فيها وما يرتكبونَه من المشاقِّ العظيمةِ في تحصيلِ هذه الحظوظِ. وكذلكَ يُعذَّبُون بما يفوتُهم منها، فهم بين شقاءَين: شقاءُ للوصولِ إلى هذه المطالبِ، وشقاءٌ ينتجُ عن ما يفوتهم من تلكَ المطالبِ.
– القارئ: فهذهِ الأحوالُ والظواهرُ التي..
– الشيخ: قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] الله المستعان. الله يرزقنا وإياكم الاستقامة، نعم؛ اختم
– القارئ: فهذهِ الأحوالُ والظواهرُ التي لم تُبنَ على الإيمانِ هل يقولُ صحيحُ العقلِ أنَّها حياةٌ سعيدةُ؟ والقلوبُ قلقةٌ والنفوسُ مُحترقةٌ، وإنما الراحةُ والحياةُ الطيبةُ راحةُ المؤمنينَ الذين اكتسبوا راحةَ الضمائرِ وطمأنينةَ السرائرِ والرضا الحقيقي مع السعي الجميلِ في طلبِ المنافعِ والمكاسبِ، فالمؤمنُ حيث تجدُهُ تجدُ هذا الوصفَ مُنطبقًا عليه، فهو سعيدٌ وإن كان بين الأشقياءِ، حكيمٌ وإن وُجِدَ بين السفهاءِ. وأما من أخذَ وصفَ الإيمانِ اسمًا ولم يتحققْ به عقدًا ولا خلقًا ولا أدبًا فلم تُضمَنْ له الحياةُ الطيبةُ.
القاعدة الرابعة.
– الشيخ: إلى هنا يا أخي حسبُكَ، نعم يا محمد، الله المُستعان.
المهمُّ أنَّ الشيخَ رحمه الله في هذه الأصولِ يقرِّرُ –يبينُ- أساسَ الفلاحِ والسعادةِ والحياةَ الطيبة وكما قلنا ليست الحياةُ الطيبةُ في نيل الشهواتِ وبلوغِ الطموحاتِ الدنيويةِ يعني من يطلبُ الملكَ والرئاسةَ هو يرى السعادةَ، يرى السعادةَ في نيلِ هذا المطلبِ وليس كذلك. هذه السعادةُ إذا نالَها يقترنُ بها من أسبابِ الشقاءِ ما يقترنُ بها، وإن نالوها، مثلُ ذلكَ الأبياتُ الحسنةُ:
ولستُ أرى السَّعادةَ جمعَ مالٍ *** ولكـنَّ التقـيَّ هو السَّعيدُ