بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس التّسعون
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين، أمَّا بعدُ: فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: (الجوابُ الصحيحُ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ) يقولُ رحمَهُ اللهُ تعالى:
فصلٌ: وَإِذَا أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُم: ظَهَرَ فِي عِيسَى حُلُولُ ذَاتِهِ وَاتِّحَادهُ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ أَجَلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ – لَوْ كَانَ مُنَاسِبًا لِحُلُولِهِ فِيهِ – أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمَسِيحُ، بَلْ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ غَيْرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْهُ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- وهذانِ اتخذَهما اللّهُ تعالى خليلينِ وليسَ فوقَ الخُلَّةِ مرتبةٌ، فلو كانَ يحلُّ في أجلِّ ما خلقَهُ اللّهُ تعالى مِن الإنسانِ لكونِهِ أجلُّ مخلوقاتِهِ لحلَّ في أجلِّها من هذا النوعِ وهو الخليلُ ومحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ.
وَلَيْسَ مَعَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ الْمَأْخُوذَ مِن مَرْيَمَ..
– الشيخ: ما هو المأخوذ يظهر أنَّ المخلوق من مريم، لعلّه المخلوقُ من مريم.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَلَيْسَ مَعَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ الْمَخلوقَ مِن مَرْيَمَ إِذَا لَمْ يَتَّحِدْ بِاللَّاهُوتِ عَلَى أَصْلِهِم.
– الشيخ: إِذَا لَمْ يَتَّحِدْ.
– القارئ: نعم أحسنَ اللهُ إليكم، إِذَا لَمْ يَتَّحِدْ بِاللَّاهُوتِ عَلَى أَصْلِهِم أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَلِيلِ وَمُوسَى عليهما السلامُ.
– الشيخ: أن الجسد المخلوق من مريم أنّه؟ المخلوق من مريم وش بعدها؟
– القارئ: وَلَيْسَ مَعَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجَسَدَ المخلوقَ مِن مَرْيَمَ إِذَا لَمْ يَتَّحِدْ بِاللَّاهُوتِ عَلَى أَصْلِهِم أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَلِيلِ وَمُوسَى -عليهما السلامُ-.
وَإِذَا قَالُوا: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً، فَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا -عليهما السلامُ- لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً، وَمَنْ عَمِلَ خَطِيئَةً وَتَابَ مِنْهَا فَقَدْ يَصِيرُ بِالتَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ، وَأَفْضَلَ مِمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ تِلْكَ الْخَطِيئَةَ، وَالْخَلِيلُ وَمُوسَى أَفْضَلُ مِن يَحْيَى الَّذِي يُسَمُّونَهُ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِيَّ.
وَأَمَّا قَوْلُهُم: وَلِهَذَا خَاطَبَ الْخَلْقَ، فَالَّذِي خَاطَبَ الْخَلْقَ هُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عليهِ السلامُ-، وَإِنَّمَا سَمِعَ النَّاسُ صَوْتَهُ لَمْ يَسْمَعُوا غَيْرَ صَوْتِهِ، وَالْجِنِّيُّ إِذَا حَلَّ فِي الْإِنْسَانِ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ يَظْهَرُ لِلسَّامِعِينَ أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الْآدَمِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يَعْلَمُ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ الْآدَمِيِّ.
– الشيخ: تارةً وتارةً الظاهر أنَّ الممسوسَ يتكلَّم تارةً يعني نفس الجنِّي يعني يحرِّكُ الممسوسَ فيتكلَّمُ بكلامه المعتاد وبصوته، وتارةً يتكلَّم الجنيّ على لسانه فطلع كلام ما هو بكلام فلان، وربّما حتّى الصوت يطلع صوت آخر. الظاهر أنه يعني ما هو دائماً لا هذا ولا هذا.
– طالب: لكن يا شيخ أحسن الله إليك في الغالب يتكلَّم على لسان أو يتلبَّس به في الغالب.
– الشيخ: هو يتلبسه، نعم.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَالْمَسِيحُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمْ يَكُنْ يُسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا مَا يُسْمَعُ مِنْ مِثْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى لِسَانِ النَّاسُوتِ هُوَ جِنِّيًّا أَوْ مَلَكًا لَظَهَرَ ذَلِكَ، وَعُرِفَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْبَشَرَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؟
– الشيخ: على زعمِهم يعني.
– القارئ: فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَظَهَرَ ظُهُورًا أَعْظَمَ مِنْ ظُهُورِ كَلَامِ الْمَلَكِ وَالْجِنِّيِّ عَلَى لِسَانِ الْبَشَرِ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ.
– الشيخ: سبحان الله العظيم سبحان الله عمَّا يقولون، الظالمون والمفترون.
– القارئ: وَأَمَّا مَا شَاهَدُوهُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَدْ شَاهَدُوا مِنْ غَيْرِهِ مَا هُوَ مِثْلَهَا وَأَعْظَمُ مِنْهَا، وَقَدْ أَحْيَا غَيْرُهُ الْمَيِّتَ وَأَخْبَرَهُ بِالْغُيُوبِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَمُعْجِزَاتُ مُوسَى –عليهِ السلامُ- أَعْظَمُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ أَوْ أَكْثَرُ، وَظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، كَمَا دَلَّتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى نُبُوَّةِ غَيْرِهِ، وَرِسَالَتِهِم، لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِلَهِيَّةِ. وَالدَّجَّالُ لَمَّا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ لَمْ يَكُنْ مَا يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ دَلِيلًا عَلَيْهَا، لِأَنَّ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ مُمْتَنِعَةٌ، فَلَا يَكُونُ فِي ظُهُورِ الْعَجَائِبِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ الْمُمْتَنِعِ.
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى: فصلٌ:
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، الَّذِينَ تَنَبَّوْا عَلَى وِلَادَتِهِ مِنَ الْعَذْرَاءِ الطَّاهِرَةِ مَرْيَمَ.
– الشيخ: أعد، وقد أيش؟
– القارئ: قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، الَّذِينَ تَنَبَّوْا عَلَى وِلَادَتِهِ.
– الشيخ: الذين؟ تَنَبَّئوْا أيش؟
– القارئ: تَنَبَّوْا أحسنَ اللهُ إليك كذا.> بدون همزة أحسن الله إليك.
– الشيخ: تَنَبَّوْا.
– القارئ: نعم أحسن الله إليك.
تَنَبَّوْا عَلَى وِلَادَتِهِ مِنَ الْعَذْرَاءِ الطَّاهِرَةِ مَرْيَمَ، وَعَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي الْأَرْضِ، وَصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذِهِ النُّبُوَّاتُ جَمِيعُهَا عِنْدَ الْيَهُودِ مُقِرِّينَ وَمُعْتَرِفِينَ بِهَا وَيَقْرَؤُنَهَا فِي كَنَائِسِهِم، وَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْهَا كَلِمَةً وَاحِدَةً.
فَيُقَالُ: هَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا يُنَازِعُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ وُلِدَ مِن مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ قَطُّ، وَأَنَّ اللَّهَ تعالى أَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتِ، وَأَنَّهُ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي النُّبُوَّاتِ الَّتِي عِنْدَ الْيَهُودِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْمَسِيحِ، كَمَا فِي النُّبُوَّاتِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ.
فصلٌ:
قَالُوا: وَسَبِيلُنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنْ بَعْضِ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ تَنَبَّوْا عَلَى السَّيِّدِ الْمَسِيحِ، وَنُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ، قَالَ عِزْرَا الْكَاهِنُ حَيْثُ سَبَاهُم بُخْتَنَصَّرُ الْفُرَيدِيُّ.
– الشيخ: أو الفُرَيدي، في تعليق عالْفَرِيدِيُّ؟
– القارئ: مكتوب، نعم أحسن.
– الشيخ: بُخْتَنَصَّرُ هو ملكُ الفرسِ، طاغيةٌ من الطواغيتِ سلَّطَهُ الله على بني إسرائيل، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا[الإسراء:4-5]
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكُم، إِلَى أَرْضِ بَابِلَ إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً: يَأْتِي الْمَسِيحُ وَيُخَلِّصُ الشُّعُوبَ وَالْأُمَمَ، وَفِي كَمَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَتَى السَّيِّدُ الْمَسِيحُ.
وَقَالَ […..] النَّبِيُّ عَنْ وِلَادَتِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ:
يَقُومُ لِدَاوُدَ ابْنٌ هُوَ ضَوْءُ النُّورِ يَمْلِكُ الْمُلْكَ وَيَعْلَمُ وَيَفْهَمُ وَيُقِيمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ وَيُخَلِّصُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِم، وَيَبْقَى بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِغَيْرِ مُقَاتِلٍ وَيُسَمَّى الْإِلَهَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ابْنٌ لِدَاوُدَ لِأَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ: يَقُومُ لِدَاوُدَ ابْنٌ.
فَيُقَالُ: أَمَّا قَوْلُ عِزْرَا الْكَاهِنِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي الْمَسِيحُ وَيُخَلِّصُ الشُّعُوبَ وَالْأُمَمَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ إِتْيَانِ الْمَسِيحِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَتَخْلِيصِ اللَّهِ تعالى بِهِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ إلى أن بعثَ.
– الشيخ: كلُّ مَن آمنَ تخليصُ كلِّ مَن آمنَ لا تخليص كلِّ الشعوب والأمم، مثل قوله تعالى: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ[إبراهيم:1]
فالرسولُ أخرجَ من الظلماتِ إلى النورِ من مَن أَذِنَ اللهُ بتوبتِه وهدايته واستجابته، أمَّا من لم يؤمنْ فهو باقٍ في الظلماتِ لم يخرجْ إلى النورِ، فعيسى خلَّصَ مَن آمنَ به.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، وَتَخْلِيصِ اللَّهِ بِهِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ إِلَى أَنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْمَسِيحِ، مُتَّبِعًا لِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَبْدِيلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى خَلَّصَهُ بِالْمَسِيحِ -عليه السلامُ- مِنْ شَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا خَلَّصَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُوسَى -عليه السلامُ- مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَمَنْ حَرَّفَ وَبَدَّلَ فَلَمْ يَتَّبِعِ الْمَسِيحَ، وَمَنْ كَذَّبَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَمَنْ كَذَّبَ الْمَسِيحَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُقِرًّا بِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَلَكِنَّ هَذَا النَّصَّ وَأَمْثَالَهُ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَسِيحٌ يُنْتَظَرُ.
– الشيخ: الدَّجَّال.
– القارئ: وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ يَتَّبِعُونَهُ وَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ «حَتَّى يَقُولَ الشَّجَرُ وَالْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ» وَهَكَذَا يُقَالُ فِي النُّبُوَّةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا عَن أَرْمِيَا النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ-.
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى: فصلٌ: قَالُوا: وَقَالَ أَرْمِيَا النَّبِيُّ عَنْ وِلَادَتِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ: يَقُومُ لِدَاوُدَ ابْنٌ، هُوَ ضَوْءُ النُّورِ يَمْلِكُ الْمُلْكَ، وَيَعْلَمُ وَيَفْهَمُ وَيُقِيمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ فِي الْأَرْضِ، وَيُخَلِّصُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَيَبْقَى بَيْتُ الْمَقْدِسِ بِغَيْرِ مُقَاتِلٍ، وَيُسَمَّى الْإِلَهَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ابْنٌ لِدَاوُدَ لِأَنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ: (يَقُومُ لِدَاوُدَ ابْنٌ).
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ قَالَ فِيهِ: وَيُخَلِّصُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ، وَمِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَهُوَ كَمَا فَسَّرْنَا بِهِ التَّخْلِيصَ الَّذِي نَقَلَهُ عَن عِزْرَا الْكَاهِنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْمُهُ الْإِلَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ اللَّهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأمَّا لَفْظُ الْإِلَهِ اسْمٌ سُمِّيَ بِهِ كَمَا سُمِّيَ مُوسَى -عليه السلامُ- إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَكَانَ أَجَلَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ وَيُسَمَّى الْإِلَهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعْرَفُ بِمِثْلِ هَذَا، وَلا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسَمَّى الْإِلَهَ، وَلَقَالَ: يَأْتِي اللَّهُ.
– الشيخ: لا إله إلَّا الله، بل يُقَالُ إنَّ الله هو الإله، نعم بعده.
– القارئ: وَلا يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسَمَّى الْإِلَهَ، وَلَقَالَ: يَأْتِي اللَّهُ بِنَفْسِهِ فَيَظْهَرُ.
وَقَالَ: يَمْلِكُ الْمُلْكَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ مَا زَالَ وَلَا يَزَالُ مَالِكًا لِلْمُلْكِ سُبْحَانَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: يَقُومُ لِدَاوُدَ ابْنٌ هُوَ ضَوْءُ النُّورِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِابْنَ الَّذِي مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ الَّذِي اسْمُ أُمِّهِ مَرْيَمُ هُوَ النَّاسُوتُ فَقَط، فَإِنَّ اللَّاهُوتَ لَيْسَ هُوَ مِنْ نَسْلِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النَّاسُوتَ الَّذِي هُوَ ابْنُ دَاوُدَ، يُسَمَّى الْإِلَهَ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا اسْمٌ لِلنَّاسُوتِ الْمَخْلُوقِ لَا لِلْإِلَهِ الْخَالِقِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَهُوَ ضَوْءُ النُّورِ لَمْ يَجْعَلْهُ النُّورَ نَفْسَهُ، بَلْ جَعَلَهُ ضَوْءَ النُّورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَوِّرُ كُلِّ نُورٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ ضَوْءُ النُّورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرَاجًا مُنِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ خَالِقًا، فَكَيْفَ إِذَا سُمِّيَ ضَوْءَ النُّورِ؟
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ الْقَائِمَ إِلَّا ابْنَ دَاوُدَ، وَابْنُ دَاوُدَ مَخْلُوقٌ، وَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى هَذَا الْمَخْلُوقِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدِ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ الْبَشَرِيِّ لَبَيَّنَ أَرْمِيَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ إِمَّا صَرِيحَةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ فِي نَقِيضِ ذَلِكَ، أَوْ مُجْمَلَةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِخْبَارَهُمْ بِإِتْيَانِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ مُمْكِنٌ، وَمَعَ هَذَا يَذْكُرُونَ فِيهِ مِنَ الْبِشَارَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ مَا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ.
وَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِمَجِيءِ الرَّبِّ نَفْسِهِ وَحُلُولِهِ أَوِ اتِّحَادِهِ بِنَاسُوتٍ بَشَرِيٍّ فَهُوَ: إِمَّا مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَمَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَقُولُونَ: يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ.
وَإِمَّا مُمْكِنٌ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ فَإِمْكَانُهُ خَفِيَ عَلَى أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِتْيَانُ الرَّبِّ بِنَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ إِتْيَانِ كُلِّ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ إِتْيَانُهُ بِاتِّحَادِهِ بِبَشَرٍ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِلَهِيَّةِ، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى يَدَيْهِ إِلَّا مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يُكَلِّمُ مُوسَى -عليه السلامُ- وَلَمْ يَكُن مُوسَى يَرَاهُ، وَلَا يَتَّحِدُ لَا بِمُوسَى وَلَا بِغَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَظْهَرَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى نُبُوَّةِ مُوسَى مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ عَلَى يَدِ الْمَسِيحِ.
فَلَوْ كَانَ هُوَ بِذَاتِهِ مُتَّحِدًا بِنَاسُوتٍ بَشَرِيٍّ لَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يُخْبِرُونَ بِذَلِكَ إِخْبَارًا صَرِيحًا بَيِّنًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَكَانَ الرَّبُّ يُظْهِرُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَمْ يُظْهِرْ عَلَى يَدِ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ، فَكَيْفَ وَالْأَنْبِيَاءُ لَمْ يَنْطِقُوا فِي ذَلِكَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ، بَلِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ مَخْلُوقٌ وَلَمْ تَأْتِ آيَةٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا تَدُلُّ الْآيَاتُ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ –عليهِ السلامُ-.
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى: فصلٌ.
– الشيخ: إلى هنا يا أخي جزاك الله، رحمه الله، الله المستعان، الله المستعان، لا إله إلَّا الله.