(9) فصل في بعض أنواع الفراسة

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس التّاسع

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، اللَّهم متِّعْ شيخَنا على طاعتِكَ واغفرْ لنا ولهُ وللمسلمينَ. قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
فَصْلٌ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْفِرَاسَةِ: مَا أَرْشَدَتْ إلَيْهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْ الْمَكْرُوهِ بِأَمْرٍ سَهْلٍ جِدًّا، مِنْ تَعْرِيضٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
فَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي، فقَالَ: انْطَلِقْ، فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إلَى الطَّرِيقِ، فَانْطَلَقَ، فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إلَيْهِ.
فَقَالُوا: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي.
فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، اللَّهُمَّ أَخْرِجْهُ.
فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى مَنْزِلِك، فَوَ اَللَّهِ لَا أُوذِيك أَبَدًا».
فَهَذِا وَأَمْثَالُهَا هِيَ الْحِيَلُ الَّتِي أَبَاحَتْهَا الشَّرِيعَةُ. وَهِيَ تَحَيُّلُ الْإِنْسَانِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ عَلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ وَأَذَاهُ، لَا الِاحْتِيَالُ عَلَى إسْقَاطِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَاسْتِبَاحَةِ مَحَارِمِهِ.
وَفِي "الْمُسْنَدِ" وَالسُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ وَلْيَنْصَرِفْ».
وَفِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْ ذِكْرِ الْمَعَارِيضِ الَّتِي لَا تُبْطِلُ حَقًّا، وَلَا تُحِقُّ بَاطِلًا كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلسَّائِلِ «مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ».
وَقَوْلِهِ لِلَّذِي ذَهَبَ بِغَرِيمِهِ.

– الشيخ: قال، […] ما هي "بقالوا" يعني السائل سأل الرسول: ممن أنتم؟ قال: من ماء، بس [فقط] في تعليق؟
– القارئ: لا، التعليق بس ذكر اسم الرجل، قال: اسمه سفيان، وأخرجه الطبري في تاريخه وابن هشام في السيرة.
ما يكون بحكم أن معه أبا بكر يا شيخنا؟

– الشيخ: وش [ماذا] تقول؟
– القارئ: يعني يقول أبو بكر معه.
– الشيخ: لا، الظاهر أنَّه هذا تعريض، يسأل يقول: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ مَاءٍ.
 

– القارئ: وَقَوْلِهِ لِلَّذِي ذَهَبَ بِغَرِيمِهِ لِيَقْتُلَهُ «إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ»، وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا.
وَكَانَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ لِمَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " مَنْ هَذَا بَيْنَ يَدَيْك " فَيَقُولُ: " هَادٍ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ ". وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ.
فَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حُلَلٌ مِنْ الْيَمَنِ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، فَرَأَى فِيهَا حُلَّةً رَدِيئَةً، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ؟ إنْ أَحَدًا لَمْ يَقْبَلْهَا، فَطَوَاهَا وَجَعَلَهَا تَحْتَ مَجْلِسِهِ.
وَأَخْرَجَ طَرَفَهَا، وَوَضَعَ الْحُلَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْسِمُ بَيْنَ النَّاسِ.
فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى تِلْكَ الْحُلَّةِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: دَعْهَا عَنْك، قَالَ: مَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: دَعْهَا. قَالَ: فَأَعْطِنِيهَا. قَالَ: إنَّك لَا تَرْضَاهَا، قَالَ: بَلَى، قَدْ رَضِيتُهَا. فَلَمَّا تَوَثَّقَ مِنْهُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَرُدَّهَا، رَمَى بِهَا إلَيْهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا إذْا هِيَ رَدِيئَةٌ، قَالَ: لَا أُرِيدُهَا، قَالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ، قَدْ فَرَغْت مِنْهَا. فَأَجَازَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعْت عَلِيًّا يَقُولُ: "لَا أَغْسِلُ رَأْسِي بِغِسْلٍ حَتَّى آتِيَ الْبَصْرَةَ فَأَحْرِقَهَا، وَأَسُوقَ النَّاسَ بِعَصَايَ إلَى مِصْرَ " فَأَتَيْت أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:

– الشيخ: لَا أَغْسِلُ رَأْسِي، قال: بِغُسْل، عندك؟
– القارئ: لا شيخ، ما ضبطها.
– الشيخ: أي يحتمل، بغِسل كالسِّدر والأشنان، يحتمل أنَّه رأى أغتسل، أغسل رأسي، يعني من جنابة.
– القارئ: أحسن الله إليكم
قال: فَأَتَيْت أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: " إنَّ عَلِيًّا يُورِدُ الْأُمُورَ مُوَارِدَ لَا تُحْسِنُونَ تَصْدرونها، عَلِيٌّ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِغِسْلٍ، وَلَا يَأْتِي الْبَصْرَةَ، وَلَا

– الشيخ: أي صار "غِسْلٍ" صار بالكسر.
– القارئ: لا، شيخنا أنا بس ضبطتها على ضبطكم شيخ، ولا هي بدون ضبط.
– الشيخ: أنا أقول: صحّ، بِغِسْلٍ.. صحّ.
– القارئ:  عَلِيٌّ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ بِغِسْلٍ، وَلَا يَأْتِي الْبَصْرَةَ، وَلَا يَحْرِقُهَا، وَلَا يَسُوقُ النَّاسَ عَنْهَا بِعَصَاهُ، عَلِيٌّ رَجُلٌ أَصْلَعُ إنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ مِثْلُ الطَّسْتِ إنَّمَا حَوْلَهُ شَعَرَاتٌ " وَمِنْ ذَلِكَ: تَعْرِيضُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ لِامْرَأَتِهِ بِإِنْشَادِ شِعْرٍ يُوهِمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ، لِيَتَخَلَّصَ مِنْ أَذَاهَا لَهُ حِينَ وَاقَعَ جَارِيَتَهُ.
وَتَعْرِيضُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ حِين أَمَّنَهُ بِقَوْلِهِ: " إنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَخَذَنَا بِالصَّدَقَةِ وَقَدْ عَنَانَا.
وَتَعْرِيضُ الصَّحَابَةِ لِأَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهِ – وَقَدْ أُقِيمَ عَلَى دُكَّانٍ لِيَلْعَنَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ – فَقَامَ عَلَى الدُّكَّانِ، وَقَالَ: إنَّ الْأَمِيرَ أَمَرَنِي أَنْ أَلْعَنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَالْعَنُوهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ.

– الشيخ: والله ما أدري عنه.
– القارئ: قال: رواهُ بنحوهِ عن ابنِ أبي ليلى، ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ وابنُ أبي شيبةَ، ومن طريقِ أبي نُعيمٍ في الحليةِ، أمَّا ابنُ عساكرَ فقد رواهُ عن حجرٍ […] تابعيٌّ ثقةٌ، والأميرُ محمّد بن يوسف. فقط ولم يعلّق عليه.
– الشيخ: هو يبي [يريد] يتأول أن الأمير أمرنا أن نلعن فالعنوه، يعني العنوا الأمير، فلعنوه لعنه الله، يعني العنوا الأمير، لكن الي ما يدري يفهم أنه، يعني العنوا علياً طاعة لوليِّ الأمر.
 

– القارئ: وَمِنْ ذَلِكَ –أحسن الله إليك-  تَعْرِيضُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، بَلْ تَصْرِيحُهُ لِامْرَأَتِهِ، بِهَزِيمَةِ الصَّحَابَةِ وَقَتْلِهِمْ، حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْهَا.
وَمِنْ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ: فِرَاسَةُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ قَدِمَ وَشَهِدَ عَلَى عَقْدِ التَّبَايُعِ بَيْنَ الْأَعْرَابِيِّ وَرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، تَصْدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَيْنًا إلَى الْمُشْرِكِينَ فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ، فَبَادَرَ حُذَيْفَةُ وَقَالَ لِجَلِيسِهِ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ.
فَكَرِهَهُ أَهْلُهَا فَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنْهُمْ، فَخَافُوا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ دِهْقَانُهُمْ: إنْ فَعَلْتُمْ مَا آمُرُكُمْ بِهِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا.
قَالُوا مُرْنَا بِأَمْرِك.
قَالَ: تَجْمَعُونَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إلَى عُمَرَ، وَأَقُولَ: إنَّ الْمُغِيرَةَ اخْتَانَ هَذَا وَدَفَعَهُ

– الشيخ: اخْتَانَ!!
– القارئ: نعم، قال: من خانَ خيانةً ومخانةً واختانَه فهو خائنٌ
بأنْ يُؤتمنَ فلا ينصحُ، فلا ينصحُ

– الشيخ: مِائَةَ أَلْفِ.. يقول: مِائَةَ أَلْفِ؟
– القارئ: أي نعم.
وَأَقُولَ: إنَّ الْمُغِيرَةَ اخْتَانَ هَذَا وَدَفَعَهُ إلَيَّ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ.
فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُغِيرَةَ اخْتَانَ هَذَا، فَدَفَعَهُ إلَيَّ.
فَدَعَا عُمَرُ الْمُغِيرَةَ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: كَذَبَ، أَصْلَحَك اللَّهُ، إنَّمَا كَانَتْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعِيَالُ وَالْحَاجَةُ.
فَقَالَ عُمَرُ لِلدِّهْقَانِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، لَأَصْدُقَنَّكَ، وَاَللَّهِ مَا دَفَعَ إلَيَّ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
وَلَكِنْ كَرِهْنَاهُ وَخَشِينَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إنَّ الْخَبِيثَ كَذَبَ عَلَيَّ فَأَرَدْت أَنْ أُخْزِيَهُ.
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَفَتًى مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَةً، وَكَانَ الْفَتَى جَمِيلًا، فَأَرْسَلْت إلَيْهِمَا الْمَرْأَةُ: لَابُدَّ أَنْ أَرَاكُمَا، وَأَسْمَعَ كَلَامَكُمَا، فَاحْضُرَا إنْ شِئْتُمَا، فَأَجْلَسَتْهُمَا بِحَيْثُ تَرَاهُمَا.
فَعَلِمَ الْمُغِيرَةُ أَنَّهَا تُؤْثِرُ عَلَيْهِ الْفَتَى، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيْتَ حُسْنًا وَجَمَالًا وَبَيَانًا.
فَهَلْ عِنْدَك سِوَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَعَدَّدَ عَلَيْهِ مَحَاسِنَهُ، ثُمَّ سَكَتَ.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: فَكَيْفَ حِسَابُك؟ فَقَالَ: لَا يَسْقُطُ عَلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنِّي لَأَسْتَدْرِكُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الْخَرْدَلَةِ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَكِنِّي أَضَعُ الْبَدْرَةَ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَيُنْفِقُهَا أَهْلُ بَيْتِي عَلَى مَا يُرِيدُونَ، فَمَا أَعْلَمُ بِنَفَادِهَا حَتَّى يَسْأَلُونِي غَيْرَهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَهَذَا الشَّيْخُ الَّذِي لَا يُحَاسِبُنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي يُحْصِي عَلَيَّ أَدْنَى مِنْ الْخَرْدَلَةِ.
فَتَزَوَّجَتْ الْمُغِيرَةَ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا حَاصَرَ غَزَّةَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ صَاحِبُهَا: أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك أُكَلِّمُهُ.
فَفَكَّرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَقَالَ: مَا لِهَذَا الرَّجُلِ غَيْرِي فَخَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَهُ كَلَامًا لَمْ يَسْمَعْ مِثْلَهُ قَطُّ.
فَقَالَ لَهُ: حَدِّثْنِي، هَلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِك مِثْلُك؟ فَقَالَ: لَا تَسَلْ، مِنْ هَوَانِي عِنْدَهُمْ بَعَثُونِي إلَيْك، وَعَرَّضُونِي لِمَا عَرَّضُونِي.
وَلَا يَدْرُونَ مَا يُصْنَعُ بِي.
فأَمَرَ لَهُ بِجَارِيَةٍ وَكِسْوَةٍ.
وَبَعَثَ إلَى الْبَوَّابِ: إذَا مَرَّ بِك فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَخُذْ مَا مَعَهُ.
فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ نَصَارَى غَسَّانَ فَعَرَفَهُ.
فَقَالَ يَا عَمْرُو قَدْ أَحْسَنْت الدُّخُولَ، فَأَحْسِنْ الْخُرُوجَ، فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا رَدَّك إلَيْنَا؟ قَالَ: نَظَرْتُ فِيمَا أَعْطَيْتَنِي فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ يَسَعُ بَنِي عَمِّي، فَأَرَدْت الْخُرُوجَ، فَآتِيك بِعَشْرَةٍ مِنْهُمْ تُعْطِيهِمْ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ فَيَكُونُ مَعْرُوفُك عِنْدَ عَشَرَةِ رِجَالٍ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ وَاحِدٍ، قَالَ: صَدَقْت عَجِّلْ بِهِمْ. وَبَعَثَ إلَى الْبَوَّابِ: خَلِّ سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَمْرٌو وَهُوَ يَلْتَفِتُ، حَتَّى إذَا أَمِنَ قَالَ: لَا عُدْت لِمِثْلِهَا.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ رَآهُ الْمَلِكُ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ غَدْرِك.
 وَمِنْ ذَلِكَ: فِرَاسَةُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – لَمَّا جِيءَ إلَيْهِ بِابْنِ مُلْجَمٍ قَالَ لَهُ: أُرِيدُ أُسَارّك بِكَلِمَةٍ فَأَبَى الْحَسَنُ، وَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تَعَضَّ أُذُنِي، فَقَالَ ابْنُ مُلْجَم: وَاَللَّهِ لَوْ أَمْكَنْتَنِي مِنْهَا لَأَخَذْتُهَا مِنْ صِمَاخِهَا.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ: فَانْظُرْ إلَى حُسْنِ رَأْيِ هَذَا السَّيِّدِ الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الْعَاجِلَةِ مَا يُذْهِلُ الْخَلْقَ، وَفِطْنَتُهُ إلَى هَذَا الْحَدِّ، وَإِلَى ذَلِكَ اللَّعِينِ كَيْفَ لَمْ يَشْغَلْهُ حَالُهُ عَنْ اسْتِزَادَةِ الْجِنَايَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ:

– الشيخ: إلى هنا، إلى هنا هذا الكتاب كتاب سواليف [حكايا] وكذا.
 
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات