بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الخامس عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ. اللهم مَتِّعْ شيخَنا على طاعتِك واغفرْ لنا ولَه وللمسلمينَ. قالَ -رحمه الله-: فصلٌ -وما زالَ الكلامُ في الأخذِ بالأمارات-:
"وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ امْرَأَةً رُفِعَتْ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَدْ زَنَتْ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعَادَتْ ذَلِكَ وَأَيَّدَتْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ بِهِ اسْتِهْلَالَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ. فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ الْفِرَاسَةِ.
وَمِنْ قَضَايَا عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ وُجِدَ فِي خَرِبَةٍ بِيَدِهِ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَمٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَتِيلٌ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: أَنَا قَتَلْته، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاقْتُلُوهُ، فَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعًا، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، لَا تَعْجَلُوا، رُدُّوهُ إلَى عَلِيٍّ، فَرَدُّوهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَذَا صَاحِبُهُ، أَنَا قَتَلْته، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْأَوَّلِ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ قُلْت: أَنَا قَاتِلُهُ، وَلَمْ تَقْتُلْهُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ؟ وَقَدْ وَقَفَ الْعَسَسُ عَلَى الرَّجُلِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَأَنَا وَاقِفٌ، وَفِي يَدِي سِكِّينٌ، وَفِيهَا أَثَرُ الدَّمِ، وَقَدْ أخذت فِي خَرِبَةٍ، فَخِفْتُ أَلَّا يُقْبَلَ مِنِّي، وَأَنْ يَكُونَ قَسَامَةٌ، فَاعْتَرَفْت بِمَا لَمْ أَصْنَعْ، وَاحْتَسَبْت نَفْسِي عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: بِئْسَمَا صَنَعْت،َ فَكَيْفَ كَانَ حَدِيثُك؟ قَالَ: إنِّي رَجُلٌ قَصَّابٌ، خَرَجْت إلَى حَانُوتِي فِي الْغَلَسِ، فَذَبَحْتُ بَقَرَةً وَسَلَخْتهَا، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسْلُخُهَا وَالسِّكِّينُ فِي يَدِي أَخَذَنِي الْبَوْلُ، فَأَتَيْتُ خَرِبَةً كَانَتْ بِقُرْبِي فَدَخَلْتهَا، فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، وَعُدْتُ أُرِيدُ حَانُوتِي، فَإِذَا أَنَا بِهَذَا الْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَرَاعَنِي أَمْرُهُ، فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ وَالسِّكِّينُ فِي يَدِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إلَّا بِأَصْحَابِكَ قَدْ وَقَفُوا عَلَيَّ فَأَخَذُونِي، فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا قَتَلَ هَذَا، مَا لَهُ قَاتِلٌ سِوَاهُ، فَأَيْقَنْت أَنَّك لَا تَتْرُكُ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِي، فَاعْتَرَفْت بِمَا لَمْ أَجْنِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْمُقِرِّ الثَّانِي: فَأَنْتَ كَيْفَ كَانَتْ قِصَّتُك؟ فَقَالَ: اعتراني فَلَسٌ، فَقَتَلْت الرَّجُلَ طَمَعًا فِي مَالِهِ، ثُمَّ سَمِعْتُ حِسَّ الْعَسَسِ، فَخَرَجْتُ مِنْ الْخَرِبَةِ، وَاسْتَقْبَلْتُ هَذَا الْقَصَّابَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي وَصَفَ، فَاسْتَتَرْتُ مِنْهُ بِبَعْضِ الْخَرِبَةِ حَتَّى أَتَى الْعَسَسُ، فَأَخَذُوهُ وَأَتَوْك بِهِ، فَلَمَّا أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ عَلِمْت أَنِّي أَبُوءُ بِدَمِهِ أَيْضًا، فَاعْتَرَفْت بِالْحَقِّ.
فَقَالَ علي لِلْحَسَنِ: مَا الْحُكْمُ فِي، هَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أَحْيَا نَفْسًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، فَخَلَّى عَلِيٌّ -رضي الله عنه عَنْهُمَا- وَأَخْرَجَ دِيَةَ الْقَتِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَهَذَا -إنْ وَقَعَ صُلْحًا بِرِضَا الْأَوْلِيَاءِ- فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ قَدْ اعْتَرَفَ بِمَا يُوجِبُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُسْقِطُهُ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَبَعْدُ: فَلِحُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَجْهٌ قَوِيٌّ.
وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْقَتْلِ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمَّادِ بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ ابْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ -وَهِيَ تَعْمِدُ إلَى الْمَسْجِدِ- بِمَكْرُوهٍ عَلَى نَفْسِهَا، فَاسْتَغَاثَتْ
– الشيخ: بمكروهٍ؟
– القارئ: نعم، يعني كأنها تتحامل يا شيخ حتى تأتي المسجد؟
– الشيخ: ما أدري والله.
– طالب: -وَهِيَ تَعْمِدُ إلَى الْمَسْجِدِ- جملة تعتراضية.
– الشيخ: عندك هذا؟ هذا من أين هذا الكلام؟ تتحامل من وين جبته [ما أين أحضرته]؟
– القارئ: لا، أقول كأنها يا شيخ.
– الشيخ: قل قل العبارة.
– القارئ: قال: أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ -وَهِيَ تَعْمِدُ إلَى الْمَسْجِدِ- بِمَكْرُوهٍ عَلَى نَفْسِهَا.
– طالب: عندنا: وهي تعمد إلى المسجد بين قوسين.
– الشيخ: أي هذه معترضةٌ صحيح؟ اقرأها بدون "وهي تعمد".
– القارئ: أَنَّ امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا رَجُلٌ فِي سَوَادِ الصُّبْحِ بِمَكْرُوهٍ عَلَى نَفْسِهَا.
– الشيخ: بمكروهٍ، يعني أكرَهَها بس، مضمونه أنه أكرهها.
– القارئ: فَاسْتَغَاثَتْ بِرَجُلٍ مَرَّ عَلَيْهَا، وَفَرَّ صَاحِبُهَا. ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهَا ذَوُو عَدَدٍ، فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ، فَأَدْرَكُوا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَتْ اسْتَغَاثَتْ بِهِ، فَأَخَذُوهُ، وَسَبَقَهُمْ الْآخَرُ، فَجَاءُوا بِهِ يَقُودُونَهُ إلَيْهَا، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَغَثْتُكِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْآخَرُ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا. وَأَخْبَرَ الْقَوْمُ: أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهُ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: إنَّمَا كُنْتَ أُغِيثُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَدْرَكَنِي هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِي، فَقَالَتْ: كَذَبَ، هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انْطَلِقُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ. فَقَامَ رَجُلٌ من الناس فَقَالَ: لَا تَرْجُمُوهُ، وَارْجُمُونِي فَأَنَا الَّذِي فَعَلْتُ بِهَا الْفِعْلَ، وَاعْتَرَفَ. فَاجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي أَغَاثَهَا، وَالْمَرْأَةُ فَقَالَ: (أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ غُفِرَ لَك). وَقَالَ لِلَّذِي أَغَاثَهَا قَوْلًا حَسَنًا. فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: اُرْجُمْ الَّذِي اعْتَرَفَ بِالزِّنَا. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: (إنَّهُ قَدْ تَابَ).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ: «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اُرْجُمْهُ فَقَالَ: (لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقَبِلَ اللَّهُ مِنْهُمْ). وَقَالَ أَبُو دَاوُد
– الشيخ: أيش قالوا عليه؟
– القارئ: قال: رواه الطبراني، في المسند ورواه الطبراني في الكبير والقيصراني في تذكرة الحُفَّاظ وقال: هذا حديث مُنكرٌ جداً على نظافة إسناده.
– الشيخ: أي الأمر سهل.
– القارئ: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: "بَابٌ فِي صَاحِبِ الْحَدِّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ" حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ فَارِسٍ عَنْ الْفِرْابِيِّ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ – فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ – وَفِيهِ: أَلَا تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: (لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقُبِلَتْ مِنْهُمْ).
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا" حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حجْرٍ، أَخبرنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «اُسْتُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَرَأَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَدَّ، وَأَقَامَهُ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا». وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا مَهْرًا.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَمِعْت مُحَمَّدًا يَقُولُ: عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنُ حجْرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ وَلَا أَدْرَكَهُ، يُقَالُ: إنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِمْ: أَنْ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَكْرَهِ حَدٌّ.
ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ الْفِرْيَابِيِّ عَنْ سِمَاكٍ عَنْهُ: وَلَفْظُهُ: «أَنَّ امْرَأَةً خَرَجَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُرِيدُ الصَّلَاةَ فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ فَتَجَلَّلَهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَصَاحَتْ، فَانْطَلَقَ، وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ، فَقَالَتْ: إنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا وَكَذَا، وَمَرَّتْ بِعِصَابَةٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَتْ: إنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ فَعَلَ بِي كَذَا وَكَذَا، فَانْطَلَقُوا فَأَخَذُوا الرَّجُلَ الَّذِي ظَنَّتْ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَتَوْهَا بِهِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ هُوَ هَذَا، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا أَمَرَ بِهِ لِيُرْجَمَ قَامَ صَاحِبُهَا الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَا صَاحِبُهَا. فَقَالَ لَهَا: (اذْهَبِي فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك)، وَقَالَ لِلرَّجُلِ قَوْلًا حَسَنًا، وَقَالَ لِلَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا: (اُرْجُمُوهُ). وَقَالَ: (لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَقُبِلَ مِنْهُمْ). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حسن غَرِيبٌ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ.
وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ. وَعَبْدُ الْجَبَّارِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ.
قُلْت: هَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ لِهَذَا الِاضْطِرَابِ الَّذِي وَقَعَ فِي مَتْنِهِ. وَالْحَدِيثُ يَدُورُ عَلَى سِمَاكٍ.
وَقَدْ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ هل رُجْمِ الْمُعْتَرِفِ، فَقَالَ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ سِمَاكٍ: "فَأَبَى أَنْ يَرْجُمَهُ"، وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ رَجَمَهُ، وَهَذَا الِاضْطِرَابُ: إمَّا مِنْ سِمَاكٍ -وَهُوَ الظَّاهِرُ- وَإِمَّا مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، وَالْأَشْبَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبُو دَاوُد، وَلَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ ذَلِكَ، وَرُوَاتُهُ حَفِظُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ رَجْمَهُ فَأَبَى، وَقَالَ: (لَا) وَاَلَّذِي قَالَ: "إنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِهِ" إمَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى عَلَى الْمُعْتَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بِرَجْمِ الَّذِي جَاءُوا بِهِ أَوَّلًا، فَوَهَمَ، وَقَالَ: إنَّهُ أَمَرَ بِرَجْمِ الْمُعْتَرِفِ.
وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ رَجَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الزِّنَا مَضْبُوطُونَ مَعْدُودُونَ، وَقِصَصُهُمْ مَحْفُوظَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهُمْ سِتَّةُ نَفَرٍ: الْغَامِدِيَّةُ، وَمَاعِزٌ، وَصَاحِبَةُ الْعَسِيفِ، وَالْيَهُودِيَّانِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ رَاوِيَ الرَّجْمِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اعْتَرَفَ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَرْجُمْهُ وَعَلِمَ أَنَّ مِنْ هَدْيِهِ: رَجْمَ الزَّانِي، فَقَالَ: "وَأَمَرَ بِرَجْمِهِ"، فَإِنْ قِيلَ: فَحَدِيثُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ "أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى الَّذِي أَصَابَهَا".
قِيلَ: لَا يَدُلُّ لَفْظُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ دَلَّ، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمْ يَسْمَعْهُ حَجَّاجٌ مِنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَلَا سَمِعَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ أَبِيهِ. حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنْهُ.
عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ: "إنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِأَشْهُرٍ" نَظَرًا. فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى فِي صَحِيحِهِ "عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: " كُنْت غُلَامًا لَا أَعْقِلُ صَلَاةَ أَبِي…" الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِ رَجْمِهِ -مَعَ الِاعْتِرَافِ- مَا يُخَالِفُ أُصُولَ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَابَ بِنَصِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَمَنْ تَابَ مِنْ حَدٍّ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْمَحَارِبِ، وَهُوَ تَنْبِيهٌ
– الشيخ: في الـمُحارِب، في المـُحارب يمكن، في المـُحارب.
– القارئ: أي تحت في الحاشية يا شيخ قال: الـمُغني.
– الشيخ: لا في المــُحارب، المـُحارب المذكور في قوله: إنما جزاء يحاربون … إلى قوله: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، نعم. إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ… إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة:33-34]
– طالب: قصده "الـمُغني" يعني المرجع.
– الشيخ: "المغني" المرجع، نعم.
– القارئ: قال: وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْ دُونَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلصَّحَابَةِ لَمَّا فَرَّ مَاعِزٌ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: (هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ، فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؟)
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِأَمْرِهِ بِرَجْمِ الْمُتَّهَمِ الَّذِي ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ، وَلَمْ يُقِرَّ، وَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ؟
قِيلَ: هَذَا -لَعَمْرُ اللَّهِ- هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ شَافٍ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُقِرَّ، بَلْ قَالَ: "أَنَا الَّذِي أَغَثْتُهَا".
فَيُقَالُ -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-: إنَّ هَذَا مِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِاللَّوْثِ الظَّاهِرِ الْقَوِيِّ، فَإِنَّهُ أُدْرِكَ وَهُوَ يَشْتَدُّ هَارِبًا بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ؛ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُغِيثًا لَهَا، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هُوَ هَذَا، وَهَذَا لَوْثٌ ظَاهِرٌ.
وَقَدْ أَقَامَ الصَّحَابَةُ حَدَّ الزِّنَا وَالْخَمْرِ بِاللَّوْثِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ هَذَا أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ؛ وَهُوَ الْحَمْلُ وَالرَّائِحَةُ، وَجَوَّزَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى عَيْنِ الْقَاتِلِ -وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ– لِلَّوْثٍ، ويُدْفَعْ إلَيْهِمْ.
فَلَمَّا انْكَشَفَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ: أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَحُكِمَ بِرَجْمِهِ، فَإِذَا هِيَ عَذْرَاءُ؛ أَوْ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ، فَإِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ عَنْهُ، وَلَوْ حُكِمَ بِهِ، فَهَذَا مَا ظَهَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
– الشيخ: حسبك، نعم يا محمد.
– طالب: يا شيخ عفا الله عنك، قال ابن القيم: والذين رجمَهم النبي -صلى الله عليه وسلَّم- ستة نفر، وذكرَ خمسةً: الغامديّة ومَاعِز وصاحبةُ العسيفِ واليهوديانِ.
– الشيخ: المشهورين يعني، غير المذكور هذا.
– طالب: علَّق المحشي، قال: ولمْ يَذكر المؤلِّف سوى خمسةَ، والسادسةُ امرأةٌ من جُهينة كما رواه مسلم..
– الشيخ: امرأةٌ من جهينة، ما في إلا هي الغامدية.
– طالب: بس [فقط] خمسة يا شيخ؟
– الشيخ: أي هو المشهور، الغامدية وماعز واليهوديَّين..
– طالب: وصاحبة العسيف.
– الشيخ: نعم بعده.