بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرَّحيم
التَّعليق على كتاب (الطّرق الحُكميَّة في السّياسة الشَّرعيَّة) لابن قيّم الجوزيَّة
الدّرس الثّامن والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على رسولِ اللهِ، قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "الطُّرقِ الحكميَّةِ":
فصلٌ؛ القسمُ الثَّاني مِن الدَّعاوى دعاوى التُّهمِ، وهيَ دعوى الجنايةِ.
وَهِيَ دَعْوَى الْجِنَايَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَدَعْوَى الْقَتْلِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالْعُدْوَانِ.
فَهَذَا يَنْقَسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، فَإِنَّ الْمُتَّهَمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ التُّهْمَةِ، أَوْ فَاجِرًا مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يَعْرِفُ الْوَالِي وَالْحَاكِمُ حالَهُ.
فَإِنْ كَانَ بَرِيئًا لَمْ تَجُزْ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا، وَاخْتَلَفُوا فِي عُقُوبَةِ الْمُتَّهَمِ لَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يُعَاقَبُ صِيَانَةً لِتَسَلُّطِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانِ عَلَى أَعْرَاضِ الْبُرَآءِ.
قَالَ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ -رَحِمَهُمَا اللَّهُ-: لَا أَدَبَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَذِيَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَيَّبَهُ وَشَتَمَهُ، فَيُؤَدَّبُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يُؤَدَّبُ، قَصَدَ أَذِيَّتَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَهَلْ يَحْلِفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى حَدًّا لِلَّهِ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ فَفِيهِ قَوْلَانِ، مَبْنِيَّانِ عَلَى سَمَاعِ الدَّعْوَى، فَإِنْ سُمِعَتْ الدَّعْوَى أُحلِفَ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُحلَّفْ.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَلَا يُحلَّفُ الْمُتَّهَمُ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْأَرَاذِلُ وَالْأَشْرَارُ إلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأهل الْفَضْلِ وَالْأَخْطَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَرَوْنَ ذَلِكَ قَبِيحًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُون الْمُتَّهَمُ مَجْهُولَ الْحَالِ، لَا يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلَا فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّهُ يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَالْوَالِي، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ -رحمَهُ اللهُ-: قَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تُهْمَةٍ، قَالَ أَحْمَدُ: وَذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَمْرُهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ -رضيَ اللهُ عنهُ-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ» قالَ عليٌّ بنُ المدينيِّ: حديثُ بهزِ بنِ حكيمٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ صحيحٌ.
وَفِي "جَامِعِ الْخَلَّالِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً»
وَالْأُصُولُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، الَّذِي يَسُوغُ إحْضَارُهُ: وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إحْضَارُهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا، وَيُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى -الَّتِي هِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَرِيدٌ- وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الذَّهَابُ إلَيْهِ وَالْعَوْدُ فِي يَوْمِهِ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ -رضيَ اللهُ عنهُ-، وَعَنْ بَعْضِهِمْ يُحْضِرُهُ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قاصدينَ، كَمَا هِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ.
ثُمَّ إنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يَكُونُ مَشْغُولًا عَنْ تَعْجِيلِ الْفَصْلِ، وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ حُكُومَاتٌ سَابِقَةٌ، فَيَكُونَ الْمَطْلُوبُ مَحْبُوسًا مَعُوقًا مِنْ حِينِ يُطْلَبُ إلَى أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَهَذَا حَبْسٌ بِدُونِ التُّهْمَةِ، فَفِي التُّهْمَةِ أَوْلَى، فَإِنَّ الْحَبْسَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ هُوَ السِّجْنُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ، أَوْ كَانَ بِتَوْكِيلِ نَفْسِ الْخَصْمِ أَوْ وَكِيلِهِ عَلَيْهِ، وَمُلَازَمَتُهُ لَهُ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَسِيرًا" كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَرِيمٍ، فَقَالَ: الْزَمْهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ، مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِكَ؟»
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ «ثُمَّ مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ؟» وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَبْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَحْبِسٌ مُعَدٌّ لِحَبْسِ الْخُصُومِ وَلَكِنْ لَمَّا انْتَشَرَتْ الرَّعِيَّةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- ابْتَاعَ بِمَكَّةَ دَارًا وَجَعَلَهَا سِجْنًا يَحْبِسُ فِيهَا، وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: هَلْ يَتَّخِذُ الْإِمَامُ حَبْسًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ قَالَ: لَا يَتَّخِذُ حَبْسًا، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا لِخَلِيفَتِهِ بَعْدَهُ حَبْسٌ، وَلَكِنْ يُعَوِّقُهُ بِمَكَانٍ مِنْ الْأَمْكِنَةِ، أَوْ يُقَامُ عَلَيْهِ حَافِظٌ -وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى التَّرْسِيمَ أَوْ يَأْمُرُ غَرِيمَهُ بِمُلَازَمَتِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَمَنْ قَالَ: لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَبْسًا، قَالَ: قَدْ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارًا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ درهمٍ، وَجَعَلَهَا حَبْسًا.
وَلَمَّا كَانَ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ تعويقاً مِنْ جِنْسِ الْحَبْسِ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَحْضُرُ الْخَصْمُ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَم لَا يَحْضُرُ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُدَّعِي أَنَّ لِلدَّعْوَى أَصْلًا، عَلَى قَوْلَيْنِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَبْسُ فِي التُّهَمِ إنَّمَا هُوَ لِوَالِي الْحَرْبِ، دُونَ الْقَاضِي، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ، وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْمُصَنَّفِينَ فِي أَدَبِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الْحَبْسِ فِي التُّهْمَةِ، هَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ؟ أَوْ مَرْجِعُهُ إلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَالْحَاكِمِ -عَلَى قَوْلَيْنِ: ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمَا- فَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: هُوَ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
والْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ
– الشيخ: إلى هنا يا شيخ بس [فقط]، نعم يا محمَّد.