الرئيسية/شروحات الكتب/الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي/(10) فصل الذين اعتمدوا على عفو الله فضيعوا أمره ونهيه

(10) فصل الذين اعتمدوا على عفو الله فضيعوا أمره ونهيه

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (
الجوابُ الكافي لِمَن سألَ عن الدّواءِ الشَّافي) لابن القيّم
الدّرس: العاشر

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أمَّا بعدُ؛ قالَ العلامةُ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ تعالى- في كتابِهِ "الجوابُ الكافي لـِمنْ سألَ عن الدواءِ الشافيّ": فصل
وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ اعْتَمَدُوا عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ، وَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَنَسُوا أَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانِدِ.

– الشيخ: كَالْمُعَانِدِ. أعوذ بالله.
– القارئ: قَالَ مَعْرُوفٌ: رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْكَ فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، لَا تَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا.
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: نَرَاكَ طَوِيلَ الْبُكَاءِ، فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ وَلَا يُبَالِي.
وَسَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
(يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاْهُ، فَيَطُوفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ: مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ).
– الشيخ: عندي أنا -والله اعلم- أنَّ هذا الحديثَ محمولٌ على مَن يَأمرُ بالمعروفِ ويَنهى عن الـمُنكرِ رياءً وهو يتظاهر بأنه كيت وكيت [كذا وكذا] وأنه، وهو في سِرِّه على خلاِف ذلكَ، يعني لا يُبالي، لا يُبالي باقترافِ، بل هو جريءٌ على معاصي اللهِ، لكن إذا كانَ العبدُ يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكر أداءً للواجب –لما أوجبَ الله- وهو في سِرِّه يُجاهدُ نفسَه، وهو مع نفسِه يعني مُغَالبة، تارةً وتارةً ينتصرُ على نفسِه، وهكذا.
ولهذا نصَّ العلماء على أنَّ قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] أنه ليسَ المقصود مِن هذا أنَّ الإنسانَ إذا كانَ مُقصِّرًا أو يجد أنه يقعُ في بعضِ الذنوبِ خلاص لا يأمرُ ولا يَنهى، يقول: أنا وأيش أسوي؟ كيفَ آمُرُ الناسَ وأنا مُتَلَبِّسٌ وواقعٌ في المعصيةِ؟
هذا مدخل. لا يا أخي جاهدْ نفسَكَ واجتنبِ المعاصي وَأْمُرْ بالمعروفِ وانْهَ عن المنكر، مو بتضيِّع [لا أن تضيع] واجبين، لأنَّ تَرْكَكَ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المُنكر: معصيةٌ. فأنتَ تجمعُ بين معصيتينِ: تَرْكُكَ لما يجبُ عليكَ من الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، ثمَّ اقْتِرَافُكَ ما تقترفُ مِن هذه الـمُخالَفَاتِ.
فيجبُ التَّنَبُّهُ لهذا، فلا يُخدع الإنسانُ، لا يَخدَعُه الشيطانُ فيتركَ الأمرَ بالمعروفِ نظرًا لتقصيرِهِ وإسرافِهِ على نفسِهِ، بل جاهدْ نفسَكَ، وجاهدْ مَنْ تَقْدَرُ على جهادِه مِنْ أهلٍ وأولادٍ وجيرانٍ وإخوانٍ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
أمَّا مَنْ يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن الـمُنكر وهو مُصِرٌّ على الـمُخالفاتِ وهو في سِرِّهِ وفي بَاطنِهِ على ضِدِّ ما يُظهرُ مِنْ حالِهِ. لكن المخلصُ: لا، يأمرُ وينهى عن إيمانٍ واعتقادٍ واحتسابٍ، وإنْ كانَ في سِرِّه يتعرَّضُ لحالاتِ مخالفاتٍ وتقصيرٍ وهو يُزرِي على نفسِهِ، ويَأسَفُ فيما بينَه وبينَ ربِّهِ.  
 

– القارئ: وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: (أُفٍّ لَكَ) فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي، قَالَ: (لَا، وَلَكِنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا إِلَى آلِ فُلَانٍ، فَغَلَّ نَمِرَةً فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلَهَا مِنْ نَارٍ).
وَفِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ، قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ أفلا يعقلون).
– الشيخ: كما تقدَّم، الخطيبُ إذا أخلصَ النيةَ، وأرادَ هدايةَ الخلقِ، وإرشادَ الخلقِ، وهو في سِرِّه يُجاهدُ نفسَه، ويجتهدُ في تَجَنُّبِ ما حَرَّمَ اللهُ عليه، فهو مأجورٌ على ما يقومُ بِه مِنْ دعوةٍ في خُطَبِهِ، وعليهِ إثمُ ما قَارَفَهُ مِن الذنوب، وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا [التوبة:102] فعندَ أهلِ السنةِ أنَّ العبدَ تجتمعُ فيهِ الحسناتُ والسيئاتُ.
 

– القارئ: وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ).
– الشيخ: هذا أمرٌ عظيمٌ! (يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ)، هذا شَاهِدُهُ في القرآن الغيبةُ يا إخوان، الغيبةُ يا إخوان، كثيراً ما يقع فيها المنتسبونَ للعلمِ والمنتسبون للعبادةِ. الغيبة -ذِكرُك أخاك بما يكره-، والله يا أخي إنَّها أمرٌ عظيمٌ! يعني اتقاؤُها وجنبُها يحتاجُ إلى يقظةٍ وانتباهٍ، يَنْجَرُّ للحديثِ مع الناسِ، لا يكادُ يَسْلَم منها سلامةً محققةً إلا مَنْ يعتزلُ مجالسَ الناسِ، إلا مجالسَ خيرٍ وعلمٍ وذِكْرٍ، أمَّا مجالسُ القِيلِ والقَالِ، سبحان الله! "سواليف" يَنْجَرُّ للحديث، وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا [الحجرات:12] شوف هذا يأكلُ لحمَ، يأكلُ لحومَ الناسِ، فالـمُغتَابُ يُعَبَّرُ عنه بأنه يأكلُ لحومَ الناسِ أخذًا مِنْ هذه الآيةِ ومِنْ هذا الحديثِ. أيش قال على الحديث؟
 

– القارئ: هذا في المسندِ وأخرجَهُ أبو داود، والطبرانيّ في الأوسطِ، وابنُ أبي الدنيا في الصمتِ، والضياءُ في المختارةِ وغيرُهُم، مِنْ طريقٍ عَنْ صفوانِ بن عمروٍ عَنْ راشدِ بنِ سعدٍ وعبدِ الرحمنِ بنِ جُبَير عَنْ أنسٍ فذكرَهُ ورجالُهُ ثقاتٌ، والحديثُ صحَّحه الضياءُ في المختارةِ.
– الشيخ: اللهمَّ سلِّم سلِّم، اللهمَّ سلِّم سلِّم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهمَّ عافنا يا رب.
– القارئ: وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يشَاءَ).
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِجِبْرِيلَ:
(مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟ قَالَ: مَا ضَحِكَ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ).
– الشيخ: من خرَّجَه؟
– القارئ: هذا في المسندِ، وأخرجَهُ ابنُ عبدِ البرِ في التمهيدِ مِنْ طريقِ اسماعيلَ بنِ عَيَّاشٍ عَن عمَارةَ بنِ غُزَيَّة أنه سمعَ حميد بنُ عبيدٍ مولى بني المعلي عَنْ ثابتٍ عن أنسٍ فذكرَه، وهذا سندٌ لا يصحُّ لأنَّ إسماعيلَ بن عَيَّاش إذا روى عَن غيرِ أهلِ بلدِهِ اضطربَ حِفْظُهُ، وأيضاً حميدُ بنُ عبيد فيهِ جهالةٌ، انظرْ مجمعَ الزوائدِ.
وقدْ روى الحديثَ ابنُ وهبٍ عَن ابنِ لَهِيعَة، ويحيى بنِ أيوبٍ كلاهُما، عَنْ عمارةَ بنِ غزية عَن حميدٍ قالَ: سمعتُ أنسَ بنَ مالكٍ، فذكرَهُ بمثلِهِ، وكذا أخرجَهُ ابنُ أبي الدنيا في الرِّقْةِ والبكاءِ، ولا أدري أسقطَ مِن المطبوعةِ ثابتٌ، أمْ هكذا وقعتْ لَه وحميدٌ هذا لعلَّهُ ابنُ عُبيد المتقدَّمُ فهو مجهولٌ واللهُ أعلمُ بالصوابِ.

– الشيخ: نسأل الله العافية. قِفْ على هذا. فيه سياقات. من بعده .
 
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات