file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(18) فصل الفرق بين حسن الظن والغرور

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (
الجوابُ الكافي لِمَن سألَ عن الدّواءِ الشَّافي) لابن القيّم
الدّرس: الثّامن عشر

***    ***    ***    ***

 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلِّ اللهُمَّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أما بعد؛ قالَ العلَّامة ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه "الجوابُ الكافي لِمَنْ سألَ عَن الدَّواءِ الشَّافي":
فَصْلٌ:
وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ، وَأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ، وَحَثَّ عَلَيْهِ، وَسَاقَ إِلَيْهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ، وَإِنْ دَعَا إِلَى الْبَطَالَةِ وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ غُرُورٌ، وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ، فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حادِيًا لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ، وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ

– الشيخ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ [البقرة:218] الذين جمعُوا بينَ هذه الأمورِ هؤلاء هم الرَّاجُونَ حقًّا أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللَّهِ.
أمَّا الـمُفَرِّطُ القاعِدُ الـمُسْرِفُ على نفسِهِ اتكالاً على رحمةِ اللهِ، فليسَ هذا الرجاءُ، بل هذا هو الغرورُ والأماني، لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]
 

– القارئ: فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حادِيًا لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ، زَاجِرًا لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ، وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً، وَرَجَاؤُهُ بَطَالَةً وَتَفْرِيطًا، فَهُوَ الْمَغْرُورُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مُغَلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ فَأَهْمَلَهَا وَلَمْ يَبْذُرْهَا وَلَمْ يَحْرُثْهَا، وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مُغَلِّهَا مَا يَأْتِي منْ حَرثٍ وَبَذْرٍ وَسَقي وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ

– الشيخ: "مَنْ حَرَثَ" جيد، "مَنْ حَرَثَ" "يأتيهِ مثل ما أتى مَن حرثَ وسقى وزرعَ"
– القارئ: وفي نسخةٍ نعم: "مِن غيرِ حَرْثٍ"
– الشيخ: نعم
– القارئ: "منْ غيرِ حَرْثٍ وَبَذْرٍ وَسَقي"
– الشيخ: كلُّها صحيحةٌ هذي وهذي. لكن الذي عندكَ يناسبُها مَنْ حرَثَ وزرعَ
– القارئ: مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وزَرَعَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحِرْصٍ تَامٍّ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ

– الشيخ: يا الله، يا رب.
– القارئ: مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ:218]
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ رَجَاءَهُمْ إِتْيَانَهُمْ بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ؟
وَقَالَ الْمُغْتَرُّونَ: إِنَّ الْمُفَرِّطِينَ الْمُضَيِّعِينَ لِحُقُوقِ اللَّهِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَوَامِرِهِ، الْبَاغِينَ عَلَى عِبَادِهِ، الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَحَارِمِهِ، أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرَّجَاءَ وَحُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ بِهَا ثُمَّ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ أَنْ لَا يَكِلَهُ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُوصِلَةً إِلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَيَصْرِفَ مَا يُعَارِضُهَا وَيُبْطِلَ أَثَرَهَا.

– الشيخ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّتْ قلوبَنَا على دينِكَ.
 

– القارئ: فَصْلٌ:
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ.
الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ.
الثَّالِثُ: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ.
وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ،

– الشيخ: خائفٌ، نعم يخافُ الفَوتَ.
– القارئ: وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ السَّيْرَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ).
 – الشيخ: يا الله .
– القارئ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ، فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ هو مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

– الشيخ: "أنَّ الرجاءَ" أيش؟
– القارئ: فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
– الشيخ: "فجعل" أيش؟ "الرجاء"
– القارئ: فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ
– الشيخ: قبلَها في جعل "الرجاء
– القارئ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ –وفي نسخة: لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ-،
– الشيخ: صح هذا أصح كذا، عجيب!
– طالب: عندي: وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ

– الشيخ: إي لأهلِ الأعمالِ الصالحةِ، إي هذا هو الصحيح، أهلُ الأعمالِ الصالحةِ يَرجونَ ويخافون، كما يدلُّ عليها الكلامُ المتقدِّمُ، يَرجونَ ويخافونَ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا.. [الأنبياء:90] أعوذُ باللهِ مِن مُضلَّاتِ الفِتَنِ.
 

– القارئ: وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [الْمُؤْمِنُونَ:57-61]
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: "أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَزْنُونَ، وَيَسْرِقُونَ"، فَقَالَ:
(لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ). وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ الْخَوْفِ، وَوَصَفَ الْأَشْقِيَاءَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ الْأَمْنِ.
مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمعنا بَيْنَ التَّقْصِيرِ -بَلِ التَّفْرِيطِ- وَالْأَمْنِ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: "وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ". ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَمْسِكُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ: "هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ"، وَكَانَ يَبْكِي كَثِيرًا، وَيَقُولُ: "ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا".
وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَتَى بِطَائِرٍ فَقَلَبَهُ ثُمَّ قَالَ: "مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ، وَلَا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ، إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ"، فَلَمَّا احْتَضَرَ، قَالَ لِعَائِشَةَ: "يَا بُنَيَّةُ، إِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ وَهَذِهِ الْحِلَابَ، وَهَذَا الْعَبْدَ، فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ"، وَقَالَ: "وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ".
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنه قَالَ: "وَدِدْتُ أني خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ".
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ إِلَى أَنْ بَلَغَ: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطُّورِ:7] فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ.
وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ: "وَيْحَكَ ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ عَسَاهُ أَنْ يَرْحَمَنِي"، ثُمَّ قَالَ: "وَيْلَ أُمِّي، إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي" -ثَلَاثًا-، ثُمَّ قُضِيَ.
وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ"، فَقَالَ: "وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ".
وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ يَبْكِي حَتَّى تُبَلَّ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ: "لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ

– الشيخ: سبحان الله العظيم! تَبَلَّدَ هذا الإحساسُ الآن، أقولُ: كثيرٌ مِن الأحوال يَزورُ الإنسانُ القبورَ ما يكون عندَه ذلك الإِخْبَات والتَّأثُّر، وتجدُ -سبحان الله- يعني يُلاحِظُ قسوة، قسوة، تَظهرُ في حالِ كثيرين، في تشييعِ الجنائزِ فيه يتحدَّثونَ، وربَّما يَضحكُ مَن يَضحكُ وهكذا، الله يهدي قلوبَنا، الله يُلين قلوبنا.
 

– القارئ: وَقَالَ: "لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي، لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ".
وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْأَمَلِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، قَالَ: "فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدَبِّرَةً، وَالْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ منهما بَنُونُ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ".
وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟
وَكَانَ يَقُولُ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصعيد تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ".

– الشيخ: يعني هذا المعنى جاء في الحديث: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ، تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ) لكن الحمد لله، مِن رحمةِ اللهِ أن لا يحصلَ عندَ الإنسانِ ذلكَ الشعورُ الذي تتنغَّصُ فيه حياتُهُ، يعني لو حصلَ عند الإنسانِ هذا الشعورُ ما استطاعَ أنْ يتصرَّفَ في دنياه ولا يتزوَّج ولا يَأكل ولا يَشرب، وهذا خلافُ مُقْتَضَى الطبعِ وخلافُ مُوجَبِ الشرعِ ولله الحمد. لكن الخطرُ على مَن ينشغلُ بلذَّاتِ الدنيا وبحظوظِها عَن عملِ الآخرةِ، أمَّا نفسُ التَّمَتُّعِ بهذا، الله قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] كما هي حالُ الصحابةِ وهذه الآثارُ المرويةُ ما أدري! فيها [أيوجد] تعليق عليها؟!
– القارئ: نعم الأخير هذا نعم. أخرجَهُ أحمدُ في الزهدِ، وأبو نُعيمٍ في الحليةِ.
– الشيخ: يعني هذه آثار ما ندري عَن صحتِها عن أولئكَ الأخيار، لكن كلُّ المقصودِ الدَّلالةُ على شدةِ خوفِهم وهذا أمرٌ معلومٌ، شدةُ خوفِهم من الله سبحانه وتعالى، اللهُ حكيمٌ عليمٌ.
 

– القارئ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْفَلُ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ"، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَقَالَ: "عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا وَحُمُرٌ نَنْقُلُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ فِيهَا".
وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ:21] جَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ: "وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي، وَأَكَلُوا لَحْمِي وَحَسُوا مَرَقِي". وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: "بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: "مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا". وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ"، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ: "مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ".
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ: "أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟" -يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ- فَيَقُولُ: "لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا".
فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا رحمه الله يَقُولُ: "لَيْسَ مُرَادُهُ لَا أُبْرِئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفَاقِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا أَفْتَحُ عَلَيَّ هَذَا الْبَابَ، فَكُلُّ مَنْ سَأَلَنِي هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُزَكِّيهِ".
قُلْتُ: وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ:
(سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ). وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عُكَاشَةَ وَحْدَهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِمَّنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَوْ دَعَا لَقَامَ آخَرُ وَآخَرُ وَانْفَتَحَ الْبَابُ، وَرُبَّمَا قَامَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ، فَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
– الشيخ: انتهى؟
– القارئ: فصلٌ، نعم.
– الشيخ: أحسنتَ. العجيبُ هذه الآثارُ ما أدري مِن أينَ؟ مِن بعضِ كتبِ ابنِ الجوزي؟
– القارئ: أغلبُها في كتابِ الزهدِ للإمام ِأحمد.
– الشيخ: لا إله إلا الله. نعم يا محمد؟
– طالب: في بعض الأسئلة.

– الشيخ: أعوذُ باللهِ مِن الخِذلانِ، أعوذُ باللهِ من الخذلانِ، أعوذُ باللهِ من الخذلانِ، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله.
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :متفرقات