بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الرَّد على المنطقيين) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة
الدّرس السّادس عشر
*** *** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، قالَ شيخُ الإسلامِ -رحمه الله تعالى- في كتابِه: "الردُّ على المنطقيين":
ولهذا كانَ مِن الـمُتَّفَقِ عليهِ بينَ جميعِ أهلِ الارضِ أنَّ الكلامَ المفيدَ لا يكونُ إلا جملةً تامةً
– الشيخ: "إلا جملةً تامةً" سواءٌ كانتْ منطوقاً بها او مقدَّرَةً، فإذا قلتَ: مَنْ جاءَ؟ هذا سؤال، فتقولُ: زيدٌ، زيد ٌكلمةٌ، لكن في التقديرِ: جاءَ زيدٌ، لكن لو قلتَ هكذا بدونِ سؤالٍ: زيدٌ، هذا غيرُ مفيدٍ، ما ندري: زيدٌ جاءَ؟ ولّا [أم] راحَ؟ ولّا ماتَ؟ ولّا قعدَ؟ ولّا نام؟
– القارئ: ولهذا كانَ مِن الـمُتَّفَقِ عليهِ بينَ جميعِ أهلِ الارضِ أنَّ الكلامَ المفيدَ لا يكونُ إلا جملةً تامةً
كاسمينِ أو فعلٍ واسمٍ
– الشيخ: اسمينِ أو فعلِ واسمٍ.
– القارئ: هذا ممَّا اعترفَ بِه المنطقيُّونَ
– الشيخ: لا بدّ يعترفونَ.
– القارئ: وقَسَّمُوا الالفاظَ إلى: اسمٍ وكلمةٍ وحرفٍ.
– الشيخ: التقسيمُ عندَ النحويينَ: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، وكلُّ واحدةٍ هو كلمةٌ، "قامَ" فعلٌ وهو كلمةُ، "زيد" كلمة وهو اسمٌ، و"هل" كلمة وهو اسم وقَسَّمُوا أجزاءَ الكلامِ ثلاثةً، وأمَّا اسمٌ وكلمةٌ وحرفٌ فهذا ما ندري لعلّه يأتي ما يُبيِّنُه وإلا يصبح غلطًا.
– القارئ: وحرفٌ يُسمَّى آداةً
– الشيخ: أداة، ما هي بآداة.
– القارئ: وقالوا المرادُ بــ "الكلمة" ما يريدُه النُّحاةُ بلفظِ الفعلِ
– الشيخ: إي سهل صار المعنى واحد، الكلمة يعني خالفُوا في التعبيرِ، فقالوا: اسمٌ وكلمةٌ وحرفٌ، والنحويون قالوا: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ.
– القارئ: لكنَّهم معَ هذا يُناقِضُونَ ويجعلونَ ما هو اسمٌ عندَ النحاةِ حرفًا في اصطلاحِهم
– الشيخ: حرفًا في اصطلاحِهم، لا إله إلا الله. لكن هم يقولونَ أن، حتى في اللغة الحرفُ يُطلَق على الكلمةِ كما في الحديثِ: (لَا أقولُ {الم} حرفٌ، ولكنْ ألفٌ حرفٌ) يعني: كلمةُ ألفِ هذه حرفٌ، ويقولُ المفسِّرونَ والعلماءُ: اختلف المفسِّرونَ في هذا الحرفِ، أو اختلف القرَّاء في هذا الحرفِ يعني: في هذه الكلمةِ.
– القارئ: فالضمائرُ: ضمائرُ الرفعِ والنصبِ والجرِّ والمتصلَةِ والمنفصلَةِ مثلُ قولِكَ: "رأيتُهُ، وَمَرَّ بي"، فإنَّ هذهِ أسماءٌ، ويُسمِّيها النُّحاةُ: "الأسماءُ الـمُضْمَرَةُ"، والمنطقيونَ يقولون: إنَّها في لغةِ اليونانِ مِن بابِ الحروفِ، ويُسَمُّونها الخوالِف
– الشيخ: الخوالِف؟
– القارئ: نعم. كأنَّها خلفٌ عن الأسماءِ الظاهرةِ.
فأمَّا الاسمُ المفردُ فلا يكونُ كلاماً مفيداً عندَ أحدٍ مِن أهلِ الأرضِ، بلْ ولا أهلِ السماءِ، وإنْ كانَ وحدَه كانَ معَهُ غيرُه مُضْمراً، أو كانَ المقصودُ بِه تنبيهاً أو إشارةً، كما يُقصَدُ بالأصواتِ التي لمْ تُوضَعْ لـِمعنىً لا أنَّهُ يُقصَدُ به المعاني التي تُقصَدُ بالكلامِ.
ولهذا عَدَّ الناسُ مِن البِدَعِ ما يفعلُهُ بعضُ النُّسَّاكِ مِن ذكرِ اسمِ اللهِ وحدَهُ بدونِ تأليفِ كلامٍ.
– الشيخ: "الله، الله، الله" الصوفيةُ يجعلونَ مِن أنواعِ الذِّكرِ ترديدُ الاسمِ -اسمِ الربِّ تعالى- "الله، الله، الله" فهذا بدعةٌ، وهو فاسدٌ لغةً؛ فإنَّ الاسمَ المفردَ لا يفيدُ، فالذي يقولُ: الله، الله، وأيش تعني الله، الإله؟ ولا الله حكيم؟ ولا الله فعل كذا؟
– القارئ: فإنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)
– الشيخ: هذا أفضلُه، جملةٌ، جملةٌ كاملة.
– القارئ: (وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) رواهُ أبو حاتمٍ في صحيحِه، وقالَ: (أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ
– الشيخ: "وقالَ" أي: النبيٌّ، "وقالَ" أي: النبيٌّ.
– القارئ: (أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) رواهُ مالكٌ وغيرُهُ.
وقدْ تواترَ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ يُعلِّمُ أُمَّتَهُ ذِكْرَ اللهِ تعالى بالجُمَلِ التامَّةِ مثل: "سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ"
وأفضلُ الكلامِ بعدَ القرآنِ: أربعٌ -وهِيَ مِنَ القرآنِ-: "سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، واللهُ أكبرُ".
وفي صحيحِ مسلمٍ عنْهُ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهَ قالَ: (لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) وقال: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ) وأمثال ذلك.
فَظَنَّ طائفةٌ مِن الناسِ أنَّ ذِكْرَ الاسمَ المفردِ مشروعٌ، بل ظَنَّهُ بعضُهُم أفضلَ في حَقِّ الخاصَّةِ مِنْ قولِ: "لا إله إلا الله" ونحوِها.
– الشيخ: يقولونَ: "لا إله إلا الله" هذا ذِكِرُ العامَّةِ، العامَّةُ هم اللي يقولون: "لا إله إلا الله".
وقَوْلُ: "الله، الله، الله" هذا ذِكْرُ الخاصَّةِ، و"هُو، هُو" ذِكْرُ خاصَّةِ الخاصَّةِ.
– القارئ: وظَنَّ بعضُهم أنَّ ذِكْرَ الاسمِ الـمُضْمَرِ وهو: "هُو"
– الشيخ: هُوْ، هُوْ.
– القارئ: وهو: "هُوْ" هوَ أفضلُ مِن ذكرِ الاسمِ الـمُظهَرِ.
وأخرجَهُم الشيطانُ إلى أنْ يقولوا لفظاً لا يفيدُ إيماناً ولا هدىً، بل دخلُوا بذلكَ في مذهبِ أهلِ الزندقةِ والإلحادِ أهلِ وحدةِ الوجودِ الذينَ يجعلونَ وجودَ المخلوقاتِ وجودَ الخالِقِ، ويقولُ أحدُهم: "ليسَ إلا اللهُ، واللهُ فقطْ" ونحوُ ذلكَ.
وربَّما احتجَّ بعضُهم عليهِ بقولِه تعالى: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91] وظَنُّوا أنَّه مأمورٌ بأنْ يقولَ الاسمَ مفرداً.
– الشيخ: {قُلِ اللَّهُ} {قُلِ اللَّهُ} هذا جاءَ جواباً مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ [الأنعام:91] {قُلِ اللَّهُ} هو الذي أنزلَ التوراةَ
– القارئ: وإنَّما هو جوابُ الاستفهامِ حيثُ قالَ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ [الأنعام:91] أيْ: اللهُ أنزلَ الكتابَ الذي جاءَ بِه موسى.
وإذا عُرِفَ أنَّ مجرَّدَ الاسمِ ومجرَّدَ الحَدِّ لا يُفيدُ ما يفيدُهُ الكلامُ بحالٍ عُلِمَ أنَّ الحدَّ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ لتكونَ جملةً تامَّةً.
ثمَّ قدْ بيَّنَّا فسادَ قولِهم سواءً جُعِلَ الحَدُّ مفرداً كالأسماءِ، أو مركَّباً كالجُمَلِ، وأنَّهُ على التقديرينِ لا يفيدُ تصويرَ الـمُسمَّى وهو المطلوبُ
– الشيخ: تصويرٌ ولا تصوُّر؟
– القارئ: تصويرٌ عندي.
– الشيخ: نعم.
– القارئ: وهو المطلوبُ ودعوى المُدَّعِي أنَّ الحَدَّ مجردُ المفرَدِ المفيدِ كدعواهُم أنَّ التصوُّرَ الذي هو أحدُ نوعي العلمِ هو التصوُّرِ المجرَّدُ عَنْ كلِّ نفيٍ وإثباتٍ، ومعلومٌ أنَّ مثلَ هذا لا يكونُ علماً عندَ أحدٍ مِن العلماءِ.
بلْ إذا خطرَ ببالِ الإنسانِ شيءٌ ما ولمْ يخطرْ لَه ثبوتُه ولا انتفاءُهُ بوجهٍ مِن الوجوهِ لمْ يكنْ قدْ عَلِمَ شيئاً مثلُ: مَنْ خطرَ لَه بحرُ زئبقٍ أو جبلُ ياقوتٍ خاطراً مجرداً عَن كونِ هذا التصوُّرِ ثابتاً في الخارجِ أو مُنتفياً مُمكناً أو مُمتنعاً فإنَّ هذا مِن جنسِ الوسواسِ لا مِن جنسِ العلمِ.
وقدْ بسطْنا الكلامَ على هذا في مواضعَ مُتعددة مثلَ الكلامِ على المُحصَّلِ وبيَّنَّا أنَّ المشروطَ في التصديقِ مِن جنسِ العلمِ المشروطِ في القولِ
– الشيخ: بس [فقط] قف على هذا بس.
– القارئ: سطرٌ واحدٌ
– الشيخ: طيب، سطر
– القارئ: يقول: فمَنْ صَدَّقَ بما لمْ يتصوَّرْهُ كانَ قدْ تكلَّمَ بغيرِ علمٍ ومَنْ صدَّقَ بما تصوَّرَهُ كانَ كالمُتكلِّمِ بعلمٍ، فقولُهم في الحدودِ القوليةِ مِن جنسِ قولِهم في التصوُّراتِ الذهنيةِ.
الوجه الثاني
– الشيخ: حسبك، توكل على الله.