بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الرَّد على المنطقيين) لشيخ الإسلام ابن تيميَّة
الدّرس الخامس والعشرون
*** *** *** ***
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ شيخُ الإسلامِ -رحمه الله تعالى-:
وأمَّا الطريقُ الثاني وهو أنْ يُوصَفَ لَه ذلكَ، والوصفُ قد يقومُ مقامَ العَيانِ كمَا قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وآلِه وسلم-: (لا تَنعَتُ المرأةُ المرأةَ لزوجِها حتى كأنَّه ينظرُ إليها).
ولهذا جازَ عندَ جمهورِ العلماءِ بيعُ الأعيانِ الغائبةِ بالصفةِ.
هذا معَ أنَّ الموصوفَ شخصٌ وأمَّا وصفُ الأنواعِ فأسهلُ.
ولهذا التعريفُ بالوصفِ هو التعريفُ بالحَدِّ، فإنَّه لا بدَّ أنْ يُذكرَ مِن الصفاتِ ما يُميِّزُ الموصوفَ والمحدودَ مِن غيرِه، بحيثُ يجمعُ أفرادَه وأجزاءَه ويمنع أنْ يدخلَ فيهِ ما ليسَ منه، وهي في الحقيقةِ تعريفٌ بالقياسِ والتمثيلِ إذِ الشيءُ لا يُتصورُ إلا بنفسِه أو بنظيرِه.
وبيانُ ذلكَ أنه يَذكر مِن الصفاتِ المشتركةِ بينَه وبينَ غيرِه ما يكونُ مُميِّزًا لنوعِه، فكلُّ صفةٍ مِن تلكَ الصفاتِ، إنَّما تَدُلُّ على القَدْرِ المشترَكِ بينَه وبينَ غيرِه مِن النَّوعِ مثلًا، والقَدْرُ المشترَكُ إنَّما يُفيدُ المعرفةَ للعَينِ بالمثالِ، لا يُفيدُ معرفةَ العينِ المختصَّةِ، إذ الدَّالُّ على ما بِهِ الاشتراكُ لا يَدلُّ على ما بِهِ الامتيازُ، لكن يكونُ مجموعُ الصفاتِ مُميِّزًا له تمييزَ تمثيلٍ، لا تمييزَ تعيينٍ، فإنَّ غيرَ نوعِه لا تُجمَعُ لَه تلكَ الصفاتُ، وهو نفسُهُ لا يميّزُ إلا بما يخصُّهُ، فالحدُّ يفيدُ الدَّلالةُ عليهِ لا تعريفَ عينِهِ بمنزلةِ مَن يُقالُ لَه: "فلانٌ في هذهِ الدَّار"، يدلُّ عليهِ قبلَ أنْ يَراهُ، وهو قد يَتصوَّرُ المشتركُ بينَه وبينَ غيرِه بدونِ هذهِ الدَّلالةِ.
ومَن تدبَّرَ هذا تبيَّنَ له أنَّ الحدودَ المصوِّرة للمحدودِ لِمَنْ لا يَعرفُه، إنَّما هي مؤلَّفَةٌ مِن الصفاتِ المشتركةِ، لا يدخلُ فيها وصفٌ مختصٌّ به، إذِ المختصٌّ وإنْ كانَ لا بدَّ منه في الحَدِّ المميّز فهو لمْ يتصوّرْهُ، وأنَّها لا تفيدُ تعريفَ عينِه فضلًا عَن تصويرِ ما يُتنبَّهُ لَه، وإنَّما يُفيدُ تعريفُه بطريقِ التمثيلِ المقارَبِ، إذ لو عَرَّفَ المثلَ المطابقَ لعُرِفَ حقيقتُه.
ثم قدْ يكونُ المخصصُ صفةً واحدةً، وقد يكونُ الاختصاصُ بمجموعِ الصفتينِ.
ولو عرفَ المستمعُ الوصفَ الذي يخصُّه كانَ قد تصوَّرَه بعينِه، فيكونُ هو مِن القسمِ الأولِ الذي يُترجِمُ لَه اللفظُ فقط.
مثالُ ذلكَ: أنه إذا سمعَ لفظَ الخمرِ وهو لا يَعرفُ اللَّفظَ ولا مُسمَّاه، فيُقالُ لَه: هو الشَّرابُ الـمُسكِر، فلفظُ الشَّرابِ جنسُ الخمرِ يدخلُ فيه الخمرُ وغيرُها مِن الأشربةِ، وهذا واضحٌ، وكذلكَ لفظُ الـمُسكِر الذي يظنّ أنه فصلٌ مختصٌّ بالخمرِ، وهو في الحقيقةِ جِنسٌ فيه يشتركُ الشَّرابُ وغيرُه، فإنَّ لفظَ الـمُسكِر ومعناهُ لا يَختصُّ بالشرابِ بل قد يكونُ بطعامٍ وقد يَحصلُ السُّكْرُ بغيرِ طعامٍ وشرابٍ، فحينئذٍ فلا فرقَ بينَ أنْ يقولَ: "هو الْمُسكِر مِن الأشربةِ" أو "ما اجتمعَ فيهِ الشُّربُ والسُّكرُ" أو يقولُ: "الشرابُ المسكرُ"، إنَّما هو كما يقولُ: "ثوبُ خَزِّ وبابُ حديدٍ ورَجُلٌ طويلٌ أو قصيرٌ"، فإنَّ الرجلَ أعمُّ مِن الطويلِ والطويلُ أعمُّ مِن الرجلِ ولكن باجتماعِ هذينِ يتميَّزُ.
وكذلكَ قولُهم في حَدِّ الإنسانِ: "هو الحيوانُ الناطقُ"
– الشيخ : وكذلك، خلَّك، بس يكفي .