الرئيسية/شروحات الكتب/شرح نونية ابن القيم (الكافية الشافية)/(2) تابع للمقدمة قوله “يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي”
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(2) تابع للمقدمة قوله “يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي”

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس الثّاني

***    ***    ***    ***

– القارئ: الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمامُ ابن القيم -رحمه اللهُ تعالى- في مقدّمة "الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة النّاجية":
وأشهدُ أن لا اله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، ولا صاحبةَ له، ولا ولدَ له، ولا والدَ له، ولا كفؤ له، الذي هو كما أثنى على نفسهِ، وفوقَ ما يثني عليه أحدٌ مِن جميعِ بريّاته..
– الشيخ: الحمدُ لله، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله، ضمّن هذه الخطبة ركنَ الخطبة وهو: الشهادتان، فبعدما افتتح الخطبة بالحمد لله، والثناء عليه بربوبيته وإلهيته وخضوع جميع المخلوقات له، وثنّى بتسبيحه وتحميده وتكبيره، وضمّنها الاستعانة به، ولا حول ولا قوة إلا بالله: أتبع ذلك بالشّهادتين. (وأشهد أن لا اله إلا الله).
"لا إله إلا الله": هذه أصلُ دين الرّسل كلّهم، مِن أوّلهم إلى آخرهم، كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]
(وحده): هذا تأكيد لِمَا في الكلمة مِن الإثبات.
(لا شريك له): تأكيد لِمَا في الكلمة مِن النّفي.
(ولا صاحبةَ لهُ، ولا ولدَ لهُ، ولا كفؤ له): {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101] يقول الله فيما أخبر به عن الجن: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن:3] سبحانه وتعالى.
وكما وصفَ نفسَه في السّورة المُخلصَة للتّوحيد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] لا صاحبةَ لهُ، ولا ولدَ لهُ، ولا كفؤ له، لا مثل له في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته، فتلك السّورة هي صفةُ الرّحمن.
فضمّن خطبته -رحمه الله- الشّهادة بأصل دين الرّسل، وهو: الإقرار بتفرّده تعالى بالإلهية، وتنزيهه عن النّقائص وعن العيوب: لا صاحبة، ولا ولد، ولا كفؤ.
 
– القارئ: وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدهُ ورسوله، وأمينهُ على وحيهِ وخيرتهُ مِن بريّته، وسفيرهُ بينه وبين عبادهِ، وحجّتهُ على خلقهِ، أرسلهُ بالهدى ودينِ الحقّ بين يدي السّاعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنهِ وسراجًا منيرًا، أرسلهُ على حين فترةٍ مِن الرسل، وطموسٍ مِن السُّبل، ودُروسٍ مِن الكتب، والكفرُ قد اضطرمتْ نارهُ، وتطايرتْ في الآفاق شرارُه، وقد استوجبَ أهلُ الأرض أن يحلّ بهم العقاب.
وقد نظرَ الجبّارُ -تبارك وتعالى- إليهم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا مِن أهل الكتاب، وقد استندَ كلّ قومٍ إلى ظُلَم آرائهم، وحكموا على الله –سبحانه- بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم، وليلُ الكفر مُدلهمّ ظلامُه، شديدٌ قتامه، وسُبُل الحقّ عافيةٌ آثارها، مطموسةٌ أعلامُها، ففلقَ الله -سبحانه- بمحمّدٍ صبحَ الإيمان..

– الشيخ: وهذه أيضًا، شهادة أن محمدًا رسول الله، فضمّن الخطبة الشّهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله.
وضمّن الشّهادة بعض صفاته -صلى الله عليه وسلم-: فهو رسول الله عبدُه ورسوله، وخيرته مِن خلقه -صلى الله عليه وسلم-، فالله يصطفي مِن عباده مِن الملائكة رسلاً ومِن النّاس، وقد اصطفى محمّدًا -صلى الله عليه وسلم- واختاره مِن بين سائر البشريّة، اختاره رسولاً إلى جميع النّاس، صلواتُ الله وسلامه عليه، فهو عبدُ الله ورسوله وخيرته مِن خلقه، وهو خليلهُ عليه الصّلاة والسّلام، اتّخذه الله خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً.
وهو حجّة الله، الرّسل عامة هم حجة الله على العباد، {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] وهذا الرسول هو حجّةُ الله على جميع النّاس؛ لأنّه رسول الله إلى جميع الناس، أنزل عليه القرآن، وأمره أن يُنذرَ به القريب والبعيد، {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19]
فأرسله نذيرًا إلى كلّ النّاس، إلى الأميين وإلى الكتابيين، الأميين: كلّ مَن لم يكن لهم كتاب، العرب أمّيون، وأكثر الأمم كذلك أمّيون، إلا مَن يدين بالتّوراة والإنجيل.
وذكرَ أنّ رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- جاءت والنّاسُ في أشدّ حاجة إليها؛ لأنّه أرسله على فترة مِن الرّسل، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [المائدة:19] فإنّه بعد عيسى -عليه السلام- لم يأتِ رسول، وقد انطمسَ نورُ النّبوّة، فالعربُ في جاهليّة جهلاء، وكذلك أهل الكتاب في ضلال بعيد، وقد انحرفوا وحرَّفوا؛ قد انحرفوا عن هدى الله الذي جاءت به أنبياؤه ورسله، وحرّفوا كتبَ الله وغلوا في دينهم؛ اليهود والنصارى جميعًا، هم أيضًا في جاهليّة في الجملة، قد انحرفوا عن هدى الله.
فالشّيخ يصوّر -بهذه العبارات- الضّرورة إلى هذه الرسالة، وأنّ رسالة محمّد -صلى الله عليه وسلم- جاءت والنّاس أشدّ ما يكونون حاجةً إليها، كحاجة الأرض المجدبة التي قد انقطع عنها الغيث، فجفّتْ ويبست، وذهبت خضرتُها ونضارتُها، وأصبحّ النّاس يتعرّضون للهَلَكة بذهاب أموالهم ونفوسهم، فهم في أشدّ الحاجة، جاءت هذه الرّسالة والنّاس في أشدّ الحاجة إليها، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]
فإذا كان الغيثُ الذي ينزلهُ اللهُ على العباد عندما يجدبون وتهلك أموالهم وحروثهم، كما وصف ذلك الأعرابي: "هلكتِ الأموالُ وانقطعتِ السّبل" فكيف بانقطاع الغيث المعنوي!، فإنّ رسالة محمّد  كالغيث، (مثلُ ما بعثني اللهُ بهِ مِن الهدى والعلمِ كمثلِ غيثٍ أصابَ أرضًا) إلى آخر الحديث.
فالشّيخ في هذه العبارات الجميلة يصوّر فيها ضرورة الخلق، ثم يشير إلى الحديث، يؤيّد قوله هذا بالحديث الصّحيح: (إنّ اللهَ نظرَ إلى أهلِ الأرضِ: فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلّا بقايا مِن أهلِ الكتاب)، بقايا قليلة، أفراد، ليسوا جماعات، بل أفراد، مقتهم: أبغضهم وكرههم -سبحانه وتعالى- إلّا بقايا؛ لأنّهم بين مشركين تفرقوا في شركهم {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] وبين ضالين وغاوين مِن سائر الطّوائف، فهذه حال الخليقة.
فجاء هذا الرّسول، والنّاس في أشدّ ضرورة إلى رسالته -صلى الله عليه وسلم-، فهذه حال أهل الكتاب -اليهود والنصارى- فرق كلّها متخبّطة في دينها، اليهود قد حرّفوا وبدّلوا كتب الله، وعَتوا بكفرهم وعنادهم, والله صوّر حالهم، وذكر مخازيهم في سورة "البقرة" وفي سورة "آل عمران" وفي سورة "النساء".
وكذلك النصارى، ذكر مِن أقوالهم وأفعالهم ما يدلّ على عظيم انحرافهم، وبعدهم عن هدى الله الذي جاءت به رسلُه وأنبياؤه؛ وكذلك المشركون، الذين لا كتاب لهم، مِن سائر الأمم.
فجاء هذا الرّسول بهذا النّور وبهذا الهدى، فالنّاس كانوا في ظلامٍ، وفي ظلمات دامسة، لا يهتدون سبيلاً، ولا يرون شيئًا مِن النور -نور الهداية الهدى- الذي وعد الله به آدم حين أهبطه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123] الآيات.
فمنذ أهبطَ اللهُ آدم وعدَه اللهُ بإنزال الهدى الذي يهتدون به في هذه الحياة، ويعرفون به الحقّ مِن الباطل، والنّافع مِن الضّار، وما ينجيهم مِن عذاب الله، وما يبلّغهم رضاه وكرامته.
ينبغي أن تقتنوا النّسخة المنسّقة مِن الرّسائل المسجلة في "الشّافية الكافية" هذه النسخة التي أشرف عليها الشّيخ بكر -رحمه الله- وجزاه الله عنا خيرًا، هذه يعني نسّقوا ورتّبوا ما تجمّع وتحصّل مِن جهود الطّلاب الأربعة في الرسائل.
 
– القارئ: وقد استندَ كلُّ قومٍ إلى ظُلَم آرائهم، وحكموا على الله -سبحانه- بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم، وليلُ الكفرِ مُدلهمّ ظلامُه، شديدٌ قتامه، وسُبُل الحقّ عافيةٌ آثارُها، مطموسةٌ أعلامُها، فَفَلَقَ اللهُ -سبحانه- بمحمد -صلى الله عليه وسلم- صبحَ الإيمانِ، فأضاءَ حتى ملأ الآفاق نورًا، وأطلعَ به شمسَ الرّسالة في حنادسِ الظُلَم سراجًا منيرًا..
– الشيخ: وهذا لا يخفى أنّه يعني مِن التّعبير التّصويري، المتضمّن للتشبيه، فشبّه ما عليه الخلق مِن الآراء والدّيانات والعقليات بالظُّلَم، وهي ظُلَم، صحيح، هي ظلم، {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] فالكفار في ظُلَم.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام:122] فالكفار في ظُلَم.
والظُلَمُ المعنويّة العقليّة الفكريّة: أسوأ وأشدّ ضررًا مِن الظُّلَم الحسّية، فإنّ الظُّلم الحسيّة يضلّ بها الإنسانُ عن الطّرق التي توصله إلى بعض مصالح دنياه، أمّا الظّلم المعنويّة فهي الظّلم التي يتيهُ بها عن طريق الحقّ الذي مَن ضلّ عنه شقي وخسر خسرانًا مبينًا.
الشّيخ في هذه العبارات الجليلة يُشبّه ما عليه الخلق مِن الآراء والاعتقادات والأفكار بالظُّلَم، ويشبّه ما جاء به الرّسول بالنّور، فلقَ به -برسالته عليه الصّلاة والسّلام- ظُلم الآراء، مثل الصّبح إذا انفلق وبدّد الظلام، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34]
بعدما كان النّاسُ في ظُلَمٍ دامسة: طلعت رسالةُ محمد مثل الفجر، فرسالة محمّد مثل الفجر أولاً، بدايتها مثل الفجر، وآخرها مثل الشّمس في الظهيرة، فرسالته -عليه الصّلاة والسّلام- للبشريّة ولِمَا هم عليه: مثل الشّمس إذا طلعتْ وأشرقت على النّاس، وبددت الظلام، وأسفر النّاس وأبصرَ الناسُ بعد عمى.
 
– القارئ: ففلقَ اللهُ -سبحانه- بمحمد -صلى الله عليه وسلم- صبحَ الإيمانِ، فأضاء حتى ملأ الآفاقَ نورًا، وأطلعَ به شمس الرّسالة في حنادس الظُلَم سراجًا منيرًا..
الله أكبر، الحمدُ لله على نعمة الإسلام، وإلى الآن: الشّمس موجودة والنّور موجود، لكن ليس كلّ أحدٍ يُستنير به، فمَن مَنَّ اللهُ عليه بالإسلام فليحمد الله، تعلمون أنّ معظم البشريّة لم يقبلوا هذا النّور وهذا الهدى قديمًا وحديثًا، لكن مَنَّ الله على مَن شاء مِن عباده، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [إبراهيم:4]
فعلى مَن منّ اللهُ عليه بالإسلام أن يغتبط بهذه النعمة، وأن يشكر الله، وأن يتذكّر أن هذه نعمة لا يوازيها نعمة، مهما فاتك يا عبدالله مِن حظوظ هذه الدّنيا فأنت رابح ولله الحمد، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123]
جاء عن ابن عباس: (تكفّل اللهُ لِمَن قرأ القرآنَ وعملَ بِمَا فيه أن لا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة)، لا إله إلا الله، تأمّلوا أحوال البشريّة الآن، أحوال البشرية: هم في الظُلَم يتخبّطون، لم يخرجوا مِن ظُلَم آرائهم وأهوائهم وشهواتهم، نسألُ الله العافية.
والنّاس الآن ينظرون إلى هذه الأمم بسبب ما أوتيت بعضها مِن التّحضّر المادي والتفوّق الماديّ والصّناعي، ينظرون إليهم نظر الإعجاب!، ولا يفكّرون في حقيقة حالهم: إنهم يعيشون عيشة الشّقاء، والنّكد، والانحطاط الذي ما بعده انحطاط والعياذ بالله، نعوذ بالله، الذي يقرأ ويرى ما عليه أممُ الكفر والشّرك مِن اليهود والنصارى وفِرق وطوائف المشركين: يجد مِن بُعدهم عن العقل فضلاً عن، فهم أبعد ما يكونون عن موجب العقل والفطرة، لا إله إلا الله، اللهمّ ثبتنا على الإيمان والإسلام، اللهم ثبتنا على الإيمان والإسلام، الحمد لله ربّ العالمين.
فلا يستهين المسلم بما أنعم الله به عليه، {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران:164]
الصحابةُ -رضي الله عنهم- هم أوّل مَن ينطبقُ عليهم هذا المعنى، هم أوّل فريق أهل الإيمان، وقد كانوا من قبل في ضلال، فأخرجهم الله برسالة محمّد وبالإيمان به، أخرجهم به مِن الظّلمات إلى النور، {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:1-2]
أؤكد أنّ هذه الخطبة ينبغي التمعّن فيها، والتدبّر في معانيها.
 
– القارئ: فهدى الله به مِن الضّلالة، وعلّمَ به مِن الجهالة، وبصّر به مِن العمى، وأرشدَ به مِن الغي، وكثّرَ به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذّلّة، وأغنى به بعدَ العيلة، واستنقذَ به مِن الهَلكة، وفتحَ به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، فبلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وكشفَ الغمّة، وجاهدَ في الله حقّ جهاده، وعبدَ الله حتى أتاه اليقينُ مِن ربّه، وشرحَ الله له صدره، ورفعَ له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعلَ الذّلّة والصّغار على مَن خالف أمره، وأقسمَ بحياته في الكتاب المبين، وقرنَ اسمه باسمه فإذا ذُكِرَ ذُكرَ معه..
– الشيخ: وأقسم بحياته في الكتاب المبين، يشير إلى الآية: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]
 
– القارئ: كما في الخُطب والتّشهّد والتّأذين، فلا يصحّ لأحد خطبةٌ ولا تشهّدٌ ولا أذانٌ ولا صلاةٌ حتى يشهد أنّه عبدهُ ورسوله، شهادة اليقين، فصلّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميعُ خلقه عليه، كما عَرَّفنا بالله وهدانا إليه، وسلّم تسليمًا كثيرًا..
– الشيخ: تضمّنت هذه الجمل: التّنبيه على آثار رسالته -عليه الصّلاة والسّلام-: فهدى به بعد الضّلالة، وبصّر به بعد العمى، وكثّر به بعد القلّة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وهذا ينطبق على الذين آمنوا به واتّبعوه، {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]
هدى الله به مَن شاء مِن عباده، كما في الآية: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]
فتح به أعينًا عميًا كانوا في عماء، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا لا تعرف حقًّا، ولا تهتدي إلى رشد.
وتضمّنت هذه الجمل أيضًا: ذكر بعض ما أكرمه الله به، وخصّه به مِن الشّرف العظيم:
شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] فهو -صلوات الله وسلامه عليه- سيّدُ ولدِ آدم على الإطلاق.
ومِن رفع ذكره: أن قرنَ اسمه باسمه في هذه الشّرائع؛ في الأذان، والإقامة، والتّشهّد، وفي مفتاح الدّخول في الإسلام، فالدّخول في الإسلام لا يتحقّق إلا بالشّهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله, فهذا مِن تفسير: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
فهل أحدٌ يُذكَرُ الآن مِن أعيان البشريّة، هل أحد يُذكَرُ كذكره عليه الصّلاة والسّلام!؟ أين يُذكَر! يذكر في المآذن، في الأماكن العالية، والمنادى به على وجه الأرض، في كلّ يوم خمس مرات، ولا ينقطع كما يقول بعض الناس: "إنّ الأذان لا ينقطع عن وجه الأرض؛ نظرًا لتحوّل الليل والنّهار على الكرة الأرضيّة، الآن في مَن يؤذّن ويصلّي، سبحان الله العظيم!، لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، صلّى الله عليه، وملائكته، وأنبياؤه، جميع خلقه على هذا الرّسول الكريم.
 
– القارئ: أمّا بعد: فإنّ الله جلَّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه إذا أرادَ أن يُكرمَ عبدَهُ بمعرفته..
– الشيخ: أقول مرّة أخرى: هذه الخطبة ينبغي النّظر فيها وتدبّر معانيها، لأنّها تضمّنت معاني جليلة وبعبارات جميلة، يعني كما يُقال "تشجّع على قراءتها"؛ لأنّ تدبيج العبارات بعبارات البيان مِن التّشبيه وأنواع البيان: مما يشوّق على القراءة.
(أمّا بعد): جملة يؤتى بها للانتقال مِن الافتتاح إلى الشّروع في المقصود، وقد كان مِن هَدْيِهِ -عليه الصّلاة والسّلام- أنّه يقول في خطبه: (أمّا بعد، فالأمر كذا، وكذا، وكذا).
(أما): أداة شرط تقتضي جوابًا، ويفسّرها النّحويون بأنّها مهما يُذكرُ مِن شيء بعد فهو كذا وكذا، تأمّلوا هذا في عبارات المؤلّفين والخطباء، أما بعد فالأمر كذا وكذا؛ وقد درج بعضُ النّاس إلى أن يختصر هذه العبارة فيقول: "وبعد"، وهذا خطأ، بل التّعبير الصّحيح أن يقول: "أما بعد، فكذا وكذا".
 
– القارئ: أمّا بعد:
فإنّ الله جلَّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، إذا أرادَ أن يُكرمَ عبدَهُ بمعرفته، ويجمعَ قلبه على محبته: شرحَ صدرهُ لقبول صفاته العُلى، وتلقّيها مِن مشكاة الوحي، فإذا وردَ عليه شيءٌ منها: قابلهُ بالقبول، وتلقّاه بالرّضا والتّسليم، وأذعنَ له بالانقياد، فاستنارَ به قلبُه، واتّسعَ له صدرُه، وامتلأ به سرورًا ومحبّة، فعلمَ أنّه تعريفٌ مِن تعريفات الله تعالى، تعرّفَ به إليه على لسانِ رسوله، فأنزلَ تلك الصّفة مِن قلبه منزلةَ الغذاء، أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشّفاء أشدّ ما كان إليه حاجة، فاشتدّ بها فرحُه، وعظمَ بها غناؤه، وقويت بها معرفته، واطمأنتْ إليها نفسُه، وسكنَ إليها قلبُه، فجال مِن المعرفة في ميادينها، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها، لتيقّنه بأنّ شرف العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولا معلوم أعظمُ وأجلّ ممن هذه صفتُه، وهو ذو الأسماء الحسنى والصّفات العلى.
وأنّ شرفه أيضًا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجةُ الأرواح قط إلى شيءٍ أعظمَ منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبّة ذكره والابتهاج به، وطلبِ الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلّما كانَ العبدُ بها أعلم: كان بالله أعرف، وله أطلب وإليه أقرب، وكلّما كان لها أنكر: كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، واللهُ يُنزل العبد مِن نفسه حيث ينزله العبد مِن نفسه، فمَن كانَ لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها نافرًا ومُنفِّرًا: فالله له أشدّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبر مقتًا، حتى تعود القلوب إلى قلبين:
– قلب: ذكرُ الأسماء والصّفات قوتُه وحياته، ونعيمهُ وقرّةُ عينه، لو فارقه ذكرها طرفة عين ومحبتها لحظات: لاستغاث "يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك"

– الشيخ: في هذه الجملة -في الحقيقة- تنويهٌ بعظم شأن العلم، العلم بأسماء الله وصفاته، العلم بأسماء الله وصفاته هو أجلّ العلوم، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، فكلّ ما كان المعلوم أشرف كان العلم به أشرف، هذا ضابط صحيح، فانظر إلى شرف هذا المعلوم، فالعلم تابع للمعلوم، فشرفُ العلم بشرف المعلوم.
ومِن المعلوم أنّ أشرف شيء هو الله، اللهُ تعالى أعظمُ شيءٍ، وأكبرُ شيءِ، وأكرم شيء، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]
إذًا: العلمُ بأسمائه وصفاته وشأنه -سبحانه وتعالى- هو أشرفُ علم، أشرف مِن العلم بسائر العلوم، أشرف مِن العلم بشأن الملائكة وشأن الأنبياء، فضلاً عن العلوم الأخرى الدّنيويّة، العلوم الدّنيويّة بعضُها أفضل مِن بعض على هذه القاعدة: شرفُ العلم بحسب شرف المعلوم.
ويضيف، يقول -أيضًا- ويزدادُ شرف العلم بشدّة الحاجة إليه، وكلّما كان عقلُ الإنسان إلى هذا العلم أحوج: كان أشرف، فردّ مناط شرف العلم بأمرين: بشرف المعلوم، وبشدّة الحاجة إليه، وهذا أمرٌ معقول ومعلومٌ لذوي الفِطر والعقول السّليمة.
ويبيّن -رحمه الله- في بداية هذه الجمل أنّ الله إذا أراد أن يُكرمَ عبده: شرحَ صدره لمعرفة أسمائه وصفاته، وجعل في قلبه قبولَها والفرحَ بها، والاستبشارَ بها، فإذا بلغهُ شيءٌ مِن ذلك -من كتاب الله وسنّة رسوله-: قابله بالقبول والتّصديق، فما علم مِن معناه آمن به، وعرف ذلك أنّه مِن شأن ربّه، وما لم يعرف معناه: فوّض علمه إلى الله.
ومضمون هذه الجمل: يمكن أن يعدّ مِن براعة الاستهلال، فمِن أوّل الخطبة وكلام الشّيخ يتضمن التّنويه بشأن باب العلم بالله بأسمائه وصفاته، وهذا مِن حسن البيان وحسن التّقديم وبراعة الاستهلال، كما يقول أصحاب البلاغة.
والنّاس صنفان: مِن الناس مَن إذا قرأ كتاب الله وقرأ سنّة رسوله ومرّ بآيات وأحاديث الصّفات: قابلها بالإيمان وعرف ربّه بذلك، عرف أنّه -سبحانه وتعالى- حيٌّ، قيّومٌ، عظيمٌ، رحيمٌ، عزيزٌ، حكيمٌ، وأنّه فوق سماواته مستوٍ على عرشه، وأنّه فعّال لِمَا يريد, ينزلُ إذا شاء إلى السّماء الدّنيا، وأنّه تعالى يتكلّم كيف شاء، يأمرُ وينهى، وأنّه يغضب ويرضى -سبحانه وتعالى- فيعرف ربّه بهذه الصّفات، يقرأ الآيات ويؤمن بها، ولا يجد حرجًا مِن سماعها ومِن قراءتها، وأحاديث الصفات كذلك.
أمّا الكفار: فهم أبعد ما يكونون عن الإيمان به، فضلاً عن أن يؤمنوا بالصّفات، لا يؤمنون أصلاً بوجود الله، ولا يؤمنون بربّهم -سبحانه وتعالى-، لكن الشّأن في كثير مِن الطوائف مِن المنتسبين إلى الإسلام الذين دخلَ عليهم ما دخل مِن البدع؛ والشّيخ يشير إلى بدعة التّعطيل، إلى المعطلة مِن الجهميّة، فالذين دخل عليهم مذهب التّعطيل وفكر التّعطيل يضيقون بنصوص الصّفات -مِن الكتاب والسنّة- ذرعًا، ويكرهون سماعها، لأنّهم لا يؤمنون بأنّ الله كذلك، بل يعتبرون ما جاء في هذه النّصوص أنه تشبيه –كما سيأتي- وتجسيم وتنقّص من الله، والعياذ بالله, فيقابلوها: إمّا بالنّفي والجحد لمعاني هذه النّصوص ويردون ما استطاعوا ردّه، وإمّا أن يسلكوا فيها طريق التّفويض، ويقولون: هذه نصوص لا نقول فيها شيء، الله أعلم بمراده.
لكن كلّهم -أهل التّفويض وأهل التّعطيل- كلهم ينفون حقائقها، يعني فلا تظنوا أنّ المفوّض أحسنُ حالاً مِن المؤوّل أو المعطّل!، هو معطّل، كلّ مفوّضٍ معطّلٌ ، كما أنّ كلّ مؤوّل معطّل، كلّهم يشتركون، أهل التفويض وأهل التأويل: هم فريقان مِن أهل التعطيل.
 
– القارئ: أمّا بعد:
فإنّ الله جلَّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، إذا أرادَ أن يُكرمَ عبده بمعرفته، ويجمعَ قلبه على محبّته: شرحَ صدره لقبول صفاته العلى..

– الشيخ: هذا المعنى -ولله الحمد- متحقّق فيكم جميعًا، أهل السنّة كلّهم هكذا، لكن على مراتبهم في العلم والتّصوّر والفهم، أهلُ السنّة على هذه السّبيل ولله الحمد، يستقبلون نصوص الصّفات بانشراح وقبول وإيمان, فيصفون الله بما وصفَ به نفسه، وما وصفه به رسولُه، مِن غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، أبدًا.
 
– القارئ: وتلقيها مِن مشكاة الوحي، فإذا وردَ عليه شيءٌ منها قابله بالقبول، وتلقّاه بالرّضا والتّسليم، وأذعنَ له بالانقياد)

– الشيخ: ما علم معناه: آمن به وأثنى على الله به، وما لم يعلم معناه: فوّض علمه.
 
– القارئ: فاستنارَ به قلبُه، واتّسعَ له صدرُه، وامتلأ به سرورًا ومحبّة، فعلمَ أنّه تعريفٌ مِن تعريفات الله –تعالى- تعرّف به إليه على لسان رسوله، فأنزلَ تلك الصّفة مِن قلبه منزلةَ الغذاء أعظمَ ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشّفاء أشدّ ما كان إليه حاجة، فاشتدّ بها فرحه، وعظمَ بها غناؤه، وقويت بها معرفته، واطمأنّت إليها نفسُه، وسكنَ إليها قلبُه، فجال مِن المعرفة في ميادينها، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها لتيقّنه بأنّ شرفَ العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولا معلومَ أعظمُ وأجلّ ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنى والصّفات العلى، وأنّ شرفه أيضًا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجةُ الأرواح قطّ إلى شيءٍ أعظمَ منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبّة ذكره، والابتهاج به..
 – الشيخ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]
وقال في المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]
في الآية الأخرى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
المؤمنُ يفرح إذا سمعَ مَن يذكرُ الله، إذا سمعَ التّسبيحَ أو التّهليل، أو سمعَ الأذان فيجيبه، ولهذا شرع للمسلم أن يجيب المؤذّن، ويقول مثل ما يقول، يوافقه إذا قال: "الله أكبر" يقول: "الله أكبر"، يشهد بما يشهد به المؤذّن، "الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله" وهكذا فيجيب، ينبغي للمسلم أن لا يفرّط في إجابة المؤذّن لأنّه -عليه الصّلاة والسّلام- قد قال: (إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا مثلَ ما يقول)، قل مثله، ينبغي للمؤذن وغيره إذا قال هذه الجمل العظيمة: أن يقولها مستشعِرًا لمعناها؛ الله أكبر مِن كلّ شيء، ولا إله غيره، أشهد أن لا إله إلا الله، فكلُّ معبودٍ سواه باطلٌ، وهو الإله الحقّ.
 
– القارئ: وأنّ شرفه أيضًا بحسب الحاجةِ إليه، وليست حاجةُ الأرواح قطّ إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبّة ذكره والابتهاج به، وطلبِ الوسيلة إليه، والزّلفى عنده، ولا سبيلَ إلى هذا إلا بمعرفةِ أوصافهِ وأسمائهِ، فكلّما كانَ العبدُ بها أعلم كانَ بالله أعرف، وله أطلب وإليه أقرب، وكلّما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، واللهُ يُنزلُ العبد مِن نفسه حيث ينزله العبدُ مِن نفسه، فمَن كان لذكر أسمائه وصفاته مبغضًا، وعنها نافرًا ومُنفِّرًا: فاللهُ له أشدّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبر مقتًا، حتى تعود القلوبُ إلى قلبين:
– قلب، ذكرُ الأسماءِ والصّفات قوتُه وحياتُه، ونعيمُه وقرّة عينه، لو فارقه ذكرها طرفة عينٍ ومحبتها لحظات، لاستغاث: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك)

– الشيخ: (اللهمّ يا مقلبَ القلوب ثبّت قلوبنا على دينك)، هذا دعاء مأثور نبويّ عظيمٌ مهمٌّ للعبد، لأنّ القلوب -كما صحّ بها الحديث- بين أصبعين مِن أصابع الرّحمن، يقيمها إذا شاء ويزيغها إذا شاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
 
– القارئ: فلسانُ حاله يقول:
يُــرادُ مِن القلــبِ نسيانكم    **    وتأبى الطّبـاعُ على النّاقـلِ
ويقول:

وإذا تقاضيتَ الفؤاد تناسيا   **   ألفيتَ أحشائي بذاك شحاحا  
– الشيخ: مِن عادة ابن القيم استعارة بعض المعاني الواردة في الأشعار؛ تعبيرًا عن الحبّ وعن التّعلق بالمحبوب، يستعير هذه المعاني في باب محبّة الله، فالله أحقّ بهذه المعاني.
"يُــرادُ مِن القلــبِ نسيانكم     وتأبى الطّباعُ على النّاقلِ": هذا شأن المؤمن، المؤمنُ أحبّ شيء إليه: ربّه ومولاه وخالقه الذي خلقه، وهو فقيرٌ إليه في كلّ شيء، وهو وليّ نعمته، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل:53] فمَن الأحق بمعنى هذا البيت؟ يراد من القلب نسيانكم …
فالمؤمن أكره ما يكون له: الغفلة عن الله، فهو يستعيذُ بالله مِن الغفلة عن الله والنّسيان، يسألُ الله أن يحبب إليه ذكره، اللهمّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فمِن عادة ابن القيم -كثيرًا- يستعير معاني هذه الأبيات ويستعملها في شأن محبّة الله.
 
– القارئ: ويقول :
 إذا مرضنا تداوينا بذكركم   **   ونتركُ الذّكرَ أحياناً فننتكسُ

ومِن المحال أن يذكرَ القلبُ مَن هو محاربٌ لصفاتِه، نافرٌ مِن سماعها، معرضٌ بكليِّته عنها، زاعمٌ أنّ السّلامة في ذلك، كلا والله، إن هو إلّا الجهالةُ والخذلانُ والإعراضُ عن العزيز الرّحيم، فليس القلبُ الصّحيحُ قطّ إلى شيءٍ أشوقَ منه إلى معرفةِ ربّه تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، ولا أفرحَ بشيءٍ قطّ كفرحه بذلك..

– الشيخ: لا إله إلا الله، ويدلّ على هذا محبّة المؤمن الصّادق على مراتب، المؤمنون على مراتب، يعني كلّ مسلم يؤمن بهذا في الجملة، لكن العلم والإيمان في هذا يختلف في القلوب، محلّه في القلوب، لهذا المسلم يذكر ربّه تسبيحًا وتهليلاً وتكبيرًا، ويتفكر في معاني هذه الأذكار، يتذكّر عظمة ربّه، يتذكّر معاني أسمائه، سبحان الله والحمد لله وهو يلهج، المسلم يلهج بذكر الله في كلّ الأوقات قائمًا وقاعدًا، كما قال الله في صفة أوليائه أولي الألباب: {يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]
الحمد لله، يذكر ربّه قائمًا ، بأذكار منها الواجب ومنها المستحَب ومنها المقيّد ومنها المطلق، هكذا.
 
– القارئ: فليسَ القلبُ الصّحيح قطّ إلى شيءٍ أشوقَ منه إلى معرفة ربّه تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، ولا أفرحَ بشيءٍ قطّ كفرحه بذلك، وكفى بالعبد عمى وخِذْلانًا أن يُضربَ على قلبهِ سُرادق الإعراض عنها، والنّفرة والتّنفير والاشتغال بما لو كان حقًّا لم ينفع إلا بعد معرفة الله تعالى، والإيمان به وبصفاته وأسمائه.
– الشيخ: هذه العبارات فيها تعريض للمعرضين عن معرفة أسماء الله، وصفاته، وعن الإيمان بها وإثباتها، وذكر الله بها، يُعَرِّضُ به، يشيرُ إلى حالهم نسأل الله العافية.
 
– القارئ: والقلبُ الثّاني: قلبٌ مضروبٌ بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربّه ومحبته مصدود، وطريقُ معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، وقد قَمَّشَ شبهًا مِن الكلام الباطل..
– الشيخ: كأن "قَمَّش" مصطلح مِن مصطلحات البحث ، قَمَّش يعني جَمَّع.
 
– القارئ: وارتوى مِن ماء آجن، غير طائل، تَعِجُّ منه آياتُ الصّفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا، وتَضِجُّ منه إلى مُنزِّلِهَا ضجيجًا، مما يسومها تحريفًا وتعطيلاً، ويؤول معانيها تغييرًا وتبديلاً..
– الشيخ: كلّ هذا مِن نوع البديع والتشبيه، يعني جعل النّصوص كأنّها أشياء قائمةٌ بنفسها, تعبيرًا عن مضادتها لمذاهب التعطيل للنصوص.
 
– القارئ: قد أعدّ لدفعها أنواعًا مِن العُدد، وهيّأ لردّها ضروبًا مِن القوانين، وإذا دُعي إلى تحكيمها أبى واستكبر، وقال: تلك أدلّة لفظيةٌ لا تفيدُ شيئًا من اليقين، قد اتّخذ التأويل جُنّة يتترسُ بها من مواقع سهام السنّة والقرآن، وجعلَ إثبات صفات ذي الجلال تجسيمًا وتشبيهًا، يصدّ به القلوبَ عن طريق العلم والإيمان، مُزجَى البضاعة مِن العلم النّافع الموروث عن خاتم الرّسل والأنبياء، لكنّه مليء بالشّوك والشُّبه والجدال والمراء، خلعَ عليه الكلام الباطل خِلعة الجهل والتّجهيل، فهو يتعثّر في أذيال التّكفير لأهل الحديث، والتّبديع لهم والتّضليل، قد طاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكففُ أربابها، فانثنى بأخسّ المواهب والمطالب، عدلَ عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد.
– الشيخ: أعرضَ عن كتاب الله، وذهب يتلقّى العلم بالله عن الملحدين، عن الفلاسفة، عن ضلّال الأمم, كما ذكر شيخ الإسلام في "الحمويّة" وغيرها أنّ مذهب التّعطيل مستمّد مِن الفلاسفة ومِن اليهود ومِن النّصارى ومِن المشركين.
 
– القارئ: عدلَ عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان، فابتُلي بالوقوف على الأبواب السّافلة المليئة بالخيبة والحرمان، وقد لبسَ حُلّةً منسوجة مِن الجهل والتّقليد والشُّبه والعناد..
– الشيخ: لاحظوا ابن القيم يعتني بتزيين الكلام، بوجوه البلاغة وأنواع العبارات.
 
– القارئ: فإذا بُذلتْ له النّصيحةُ ودُعي إلى الحقّ: أخذتهُ العزّةُ بالإثم، فحسبهُ جهنّم ولبئس المهاد، فما أعظمَ المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشدّ الجناية به على السّنّة والقرآن، وما أحبّ جهاده بالقلب واليد واللسان إلى الرحمن، وما أثقلَ أجرَ ذلك الجهاد في الميزان، والجهادُ بالحجّة والبيان مقدّمٌ على الجهاد بالسّيف والسّنان، ولهذا أمرَ به تعالى في السّور المكيّة حيث لا جهاد باليد إنذارًا وتعذيرًا، فقال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]
وأمرَ تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم، مع كونهم بين أظهرِ المسلمين في المقام والمسير، فقال تعالى:
 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة:73)
– الشيخ: الجهاد بالحجّة واللسان والبيان -كما يقول الشيخ- مقدّم، هو الأوّل، الدّعوة وبيان أصول الشّريعة ومقاصد الرّسالة، البيان قبل، وهذا هو جهاد العلماء: ببيان الحقّ، وذكر أدلّته، ووجوه حسنه، ووجوه فضله، وبيان قبح الباطل ووجوه فساده، وهذا ما يقوم به أهلُ العلم قديمًا وحديثًا، يردون على المبطلين، على الكفار، على أهل الكتاب، على المشركين، على المبتدعين.
 
– القارئ: فالجهادُ بالعلمِ والحجّة جهادُ أنبياء الله ورسله، وخاصته مِن عباده المخصوصين بالهداية والتّوفيق والاتفاق، ومَن ماتَ ولم يغزُ ولم يحدّث نفسهُ بغزو ماتَ على شعبة مِن النّفاق، وكفى بالعبد عمى وخذلانًا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنّة والقرآن قد لبسوا للحرب لَأْمَتَه، وأعدوا له عدّته، وأخذوا مصافَّهم ووقفوا مواقفهم، وقد حَمِيَ الوطيسُ ودارتْ رحى الحرب، واشتدّ القتال، وتنادت الأقران: النزالَ النزَالَ، وهو في الملجأ والمغارات والمُدخل مع الخوالف كمين، وإذا ساعدَ القدر وعزم على الخروج: قعدَ فوق التّل مع النّاظرين، ينظرُ لِمَن الدائرةُ ليكون إليهم مِن المتحيّزين، ثم يأتيهم وهو يقسمُ بالله جهد أيمانه إني كنتُ معكم، وكنتُ أتمنى أن تكونوا أنتم الغالبين
– الشيخ: وهذا كذلك كلّه تصوير وتشبيه، شبّه الجهاد العلميّ بالقلم واللسان والعلم، شبّهه بالجهاد الحسّيّ بالسّلاح، فشبّه الجهاد العلمي المعنوي بالجهاد الحسّي، القائم على القتال والحرب والسّلاح، فهذه طريقته كما سيأتي في النّونية هكذا، يصوّر الأمور المعنويّة بمعان حسية، وهذا مما يشوّق – القارئ: التصور.
 
– القارئ: فحقيقٌ بمَن لنفسه عنده قدرٌ وقيمة: أن لا يبيعها بأخسّ الأثمان، وأن لا يعرّضها غدًا بين يدي الله ورسوله لمواقف الخزي والهوان، وأن يثبّت قدمه في صفوف أهل العلم والإيمان، وأن لا يتحيّز إلى مقالة سوى ما جاء في السنّة والقرآن، فكأن قد كشفَ الغطاء وانجلى الغبار وأبان عن وجوه أهل السنّة مسفرة ضاحكة مستبشرة، وعن وجوه أهل البدعة عليها غبرة ترهقها قترة، يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: تبيضّ وجوهُ أهل السنّة والجماعة، وتسودّ وجوهُ أهل البدعة والفُرْقة الضالة ، فوالله لَمفارقةُ أهل الأهواء والبدع في هذه الدّار أسهل مِن مرافقتهم إذا قيل:
 {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22]
قالَ أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبعده الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أزواجُهم: أشباههم ونظراؤهم"، وقد قال تعالى:
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] فجعلَ صاحبَ الحقّ مع نظيره في درجته، وصاحبَ الباطل مع نظيره في درجته، هنالك والله يعضّ الظّالمُ على يديه إذا حصلت له حقيقة ما كان في هذه الدّار عليه، {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27-29]
– الشيخ: جزاه الله خيراً ورحمه ونفعنا وإياكم بهداه، وثبتنا على دينه.

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة