الرئيسية/شروحات الكتب/شرح نونية ابن القيم (الكافية الشافية)/(7) فصل: وقضى بأن الله كان معطلا …. والفعل ممتنع بلا إمكان
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(7) فصل: وقضى بأن الله كان معطلا …. والفعل ممتنع بلا إمكان

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح نونيّة ابن القيم – المسمّاة: (الكافية الشّافية)
الدّرس السّابع

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ للهِ ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيّته المسمّاة بـ "الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة الناجية":
فصلٌ
وقَضَـــى بِأنّ اللهَ كــانَ مُـعطَّلاً     والفعـــــلُ مُمتَنِعٌ بِــلا إمْكــانِ
ثمَّ استحالَ وصـــارَ مَقْدُورًا لهُ      مِـنْ غيــــرِ أمرٍ قامَ بالدَّيَّــــــانِ
بل حَالُهُ سُبْــحَانَهُ في ذاتــــــه      قبـــــلَ الحــدوثِ وبعدَهُ سِيَّــانِ

– الشيخ: يذكر -رحمه الله- مقولة أخرى "لجهم"، هو الآن يعرضُ مقولات "جهم" وبدعهِ الشّنعاء، فذكرَ أوّلاً بدعة التّعطيل، ثم بدعة الجبر، في الفصل الأول، وبدعة الإرجاء الغالي كما تقدم، ويذكر هنا بدعة: القول بامتناع فاعليّة الربّ، بامتناع دوام فاعليّة الرّبّ، وأنّ فعلَه أو خلقَه له بداية، ويمتنع أن يكون اللهُ لم يزل فاعلاً ولم يزل خالقًا، وإذا كان كذلك: فيجبُ أن يكون للخلق -أي لجنس المخلوقات- بداية، ويمتنع أن تكون المخلوقات دائمة في الماضي؛ لأنّ الله إذا كانَ لم يزل فعّالاً، ولم يزل خلاقًا: فهذا يقتضي أنّ المخلوقات لم تزل تتجددُ شيئًا بعد شيء، فيلزم مِن قوله هذا أنّ الله لم يزل معطّلاً عن الفعل، معطلاً عن الخلق.
(وقضى) يعني "جهم"، وقضى: حكم، وذهب، وابتدع، وقضى بأنّ الله كانَ معطّلاً في الأزل، و"الأزل": هو ما لا نهاية له في الماضي، يقابل "الأبد": وهو ما لا نهاية له في المستقبل. معطّلاً عن الفعل في الأزل: يعني كان في الأزل معطلاً، والأزل لا نهاية له.
والفعل ممتنع، يمتنع عليه أن يفعل، يعني ما قالوا إنّه لم يفعل، وأنّه كان معطلاً اختيارًا, أراد أن لا يفعل!, لا, قالوا: بل الفعل ممتنع عليه، يمتنع أن يكون فاعلاً في الأزل، وأنّه لم يزل فعّالاً، لا، بل: لفعله بداية، "والفعل ممتنع بلا إمكان":  تأكيد, ممتنع، وليس بممكن.
ثم استحال وصار الفعل والخلق ممكناً، بعد أن كان ممتنعاً.
ثم استحال وصار الفعل والخلق ممكنًا بعد أن كان ممتنعًا، والممتنعُ لذاته لا يصحّ في العقل أن يصير ممكنًا.
ثم استحال فصار مقدورًا له, إذًا قبل هذه اللحظة -لحظة ابتداء الخلق- صار مقدوراً له، صار الفعلُ والخلق مقدورًا له، ومعنى ذلك أنّه قبل هذه اللحظة -لحظة ابتداء الفعل والقدرة وحدوث القدرة على الفعل- قبلها كانَ غيرَ مقدورٍ؛ لأنّ الممتنع لا تتعلق به القدرة، القدرةُ لا تتعلّقُ إلّا بالممكن، فالقدرةُ تتعلّقُ بالممكن، فلا يجوز أن تقول: "هذا ممتنع ومقدور"؛ هذا كلامٌ متناقض، أن تقول: "هذا ممتنع وهو مقدور"!. قولك: "إنه مقدور": يتضمّن أنّه ممكنٌ، فكأنك تقول: "إنّ هذا ممتنعٌ ممكنٌ"، وهذا جمعٌ بين نقيضين.
فالممتنعُ لذاته: لا يجوز في العقلِ أن يستحيلَ ويصيرُ ممكنًا، كانَ الفعلُ ممتنعًا، كانَ الخلقُ ممتنعًا، وإذًا كانَ الله غيرَ قادرٍ على الفعل؛ لأنّ الممتنعَ لذاتهِ لا تتعلقُ به القدرة، فاستحالَ الفعلُ مِن الامتناع إلى الإمكان، ثم صارَ الرّبّ -تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا- صار قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا!.
ولا ريبَ أنّ الفطرَ والعقولَ والشّرائع تدلُّ على أنّ اللهَ -تعالى- لم يزل قادرًا، يعني لم تحدث له القدرة بعد أن كانَ غير قادر؛ بل لم يزل قادرًا، فقدرتهُ على الفعل والخلق أزليّةٌ، صفةٌ ذاتيّةٌ، والصّفاتُ الذّاتيّة لازمةٌ له تعالى، مثل حياته، كما أنّه لم يزل حيًّا، وليست حياته طارئةً، كالمخلوق الذي كان ميّتًا ثم صار حيًّا، لا، بل الربّ تعالى لم يزل حيًّا قيّومًا، كذلك لم يزل قادرًا ولم يزل الفعلُ ممكنًا له، لم يزل الربّ قادرًا على الفعلِ، ولم يزل الفعلُ والخلقُ ممكنًا؛ هذا هو ما تقضيه وتقتضيه الفطرُ والعقولُ والشّرائع: أنّ الله لم يزل على كلّ شيءٍ قدير، ولم يزل فعّالاً لِمَا يريد، ولم يزل الفعلُ والخلقُ ممكنًا.
وهؤلاء الضّلّال الملحدون يقولون: إنّ الفعلَ كان ممتنِعًا، وكان اللهُ غير قادرٍ، ثم استحالَ الأمر فصار الفعلُ ممكنًا وصار الربُّ قادرًا، ثمّ استحالَ فصارَ الفعلُ مقدورًا لله، ومِن قبل لحظة الإمكان كانَ غيرَ مقدورٍ له؛ فناقضوا بذلك العقول، ونسبوا إلى الرَّبِّ العجز، وأنّه كان عاجزاً في الأزل، لم يزل غير قادر، ثم صار قادرًا، نعوذ بالله، لا إله إلا الله، الحمد لله.
وهذا مِن شبهاتهم؛ خشية القول بتسلسل المخلوقات, أو القول بقِدمِ العالم، ففروا مِن باطلٍ ظنّوه لازمًا للقول بدوام فاعليّة الربّ، فوقعوا في ما هو أبطلُ منه: وهو نسبةُ الربّ إلى العجزِ في الأزل الذي لا نهاية له، فقولهم يقتضي أنّ الله لم يزل عاجزًا ، بتعبير آخر:لم يزل غيرَ قادرٍ ثمّ صارَ قادرًا، وهذا ما أرادَ ابنُ القيّم أن يذكرهُ مِن بدع "جهم".
"مِن غير أمر قام بالديان" يعني حاله قبل الإمكان، إمكان الفعل وبعده: سيّان، يعني لم يقم بالربّ أمر أوجب أو اقتضى إمكان الفعل، بل الربّ -تعالى- لم يزل غيرَ فاعل، وغيرَ قادرٍ على الفعل، ثم صار قادرًا، وصارَ الفعلُ مقدورًا له, مِن غير حدوث أمرٍ، أو وقوع أمرِ، أو قيام أمرِ بذات الربّ تعالى.
"بل حاله سبحانه في ذاته  قبل الحدوث"، يعني حدوث الإمكان، وحدوث القدرة: "سيان"، فإذا كانت ذاتُ الربّ قبلَ حدوثَ الإمكان وبعده سيّان: فما الذي أوجب أن يكون الفعل ممتنعًا ثم صار ممكنًا!؟ هذا لا يعقل، وكما قلنا في البداية: إنّ الممتنعَ لذاته يمتنع في العقل أن يصير ممكنًا، لأنّه إذا صار ممكنًا عُلِمَ أنّه لم يكن ممتنعًا، إذ لو كان ممتنعًا لما صار ممكنًا.
وقولهم "إنّ الفعل كان ممتنعًا لذاته ثم صار مقدورًا وممكنًا": فهذا يُبْطل قولهم بالامتناع، فكأنّ قولهم يتضمّن أنّ الفعل ممتنعٌ ممكنٌ، وهذا جمع بين النّقيضين، وهي مسألةٌ أفاضَ فيها شيخُ الإسلام وشرحها شرحًا طيّبًا في مواضع، ولاسيما في كتابه المنهاج -منهاج السنّة- وأطال الكلام في هذه المسألة، فهي تتصل بمسألة التّسلسل ودوام الحوادث, مسألة مشهورة، فهي مرتبطة بهذا المعنى.
فالفلاسفة يقولون بقِدم هذا العالم، يعني أنّ هذا العالم قديم لا بداية له، هذا العالم المشهود الموجود قديمٌ قدمًا لا نهاية له، لأنّه مِن لوازم ذات الرّبّ، فإذا كان الرّبّ لم يزل موجودًا فهذا العالمُ لازمٌ له.
والقول الثاني: قولُ المتكلّمين، "كجهم" ومَن تبعه مِن المعتزلة وغيرهم، قالوا بامتناع دوام المخلوقات، وإذا قيل بامتناع دوام المخلوقات: فهذا هو المقتضي أو المستلزِم لامتناع فاعليّة الرّبّ، وامتناعُ فاعليّة الرّبّ تستلزمُ امتناع دوام قدرته، فإذا كان يمتنع دوام المخلوقات فهذا يقتضي امتناع أن يفعل الرّبّ، امتناع فاعليّته، وإذا كان الفعلُ ممتنعًا عليه فهذا معناه أنّه غيرُ قادرٍ عليه، وأنّه لم يزل غيرَ قادر.
والقول الحقّ: أنّ الله لم يزل على كلّ شيءٍ قدير، ولم يزل الفعلُ ممكنًا، ولم يزل الخلق ممكنًا، فإنّ الله تعالى لم يزل على كلّ شيءٍ قدير، واقرؤوا ما ذكره شيخ الإسلام في "المنهاج"، وما نقله شارح "الطحاوية"، فإنّ شارح "الطّحاوية" نقل الكلام في مسألة التّسلسل، أو بتعبير آخر: دوام الحوادث، أو حوادث لا أول لها، لأنّ هذه عبارات مؤدّاها واحد: تسلسل المخلوقات، دوام الحوادث، حوادث لا أول لها.
 
وقضــى بـأنّ النَّار لَـم تُخْلَـقْ وَلا    جنّـاتُ عـدْنٍ بـلْ هُمَـا عَدَمَـانِ
هذا قول "للجهم"، وتلقّفته المعتزلة، فإنّ المعتزلة مِن مقولاتهم الباطلة: أنّ الجنّة والنّار لم تُخلقا، وإنّما تُخلقان يوم القيامة، وهذا مِن الأقوال الباطلة المناقضة للكتاب والسنّة، فإنّ الكتاب والسنّة دالان على أنّ الجنّة والنّار موجودتان الآن مخلوقتان، ودلائلُ هذا وشواهده مِن القرآن والسنّة كثيرةٌ، ومِن ذلك: الأدلّة على عذاب القبر ونعيمه، وحال أرواح المؤمنين وأرواح الكفار، والله تعالى يقول في قوم فرعون: }النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا(غافر:46)
وما جاء في الأحاديث في شأن عذاب القبر، وأنّ المؤمن يُفتح له باب إلى الجنة، ويرى مقعده مِن الجنة، والكافر يُفتح له باب إلى النار, ويرى مقعده مِن النار، ومِن ذلك مثل أنّه -صلى الله عليه وسلم-رأى الجنّة عندما عُرِج به، كما قال سبحانه وتعالى: }مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(النجم:11-15)
وهذا هو اعتقاد أهل السنّة والجماعة، فقولُ "المعتزلة" بأنّ الجنّة والنّار عدمان الآن، وأنّهما لم تُخلقا: هذا ورثوه عن "جهم"، فالمعتزلةُ أخذوا مِن مقولات "جهم" القول بنفي الصّفات، والقول بعدم وجود الجنّة والنّار.
(بل هما عدمان)، يعني الآن هما عدمان، والحقّ أنّهما موجودتان.

فــإذا هُمَــا خُلِقَــا ليــومِ مـعادِنَـا     فهُمـا عَلـى الأوقـاتِ فانِيَتــانِ
وهذه المقولة الأخرى، يعني يقول: الجنّة والنار لم تُوجد الآن، لكن إذا وجدتا يوم القيامة لأنّهم يقولون إنّما تُخلق الجنّة والنّار يوم القيامة للجزاء، لكن "جهم" يقول: إذا خلقهما الله فإنّهما لا يدومان، بل يفنيان، وهذه هي المقولة التي انفرد بها واختص بها "جهم" عن المعتزلة، فالمعتزلة على النقيض منه، وافقوه على القول بأنّ الجنّة والنّار غير موجودتين الآن، ولكنّهم خالفوه على طول الخط في قوله بفناء الجنّة والنّار، بل قالوا إنّهما إذا خُلِقا لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان, حتى أنّ كلّ مَن يدخلها -حتى مِن أهل الكبائر- يُخلّدون فيها، كما هو مشهور مِن قولهم، وخالفَ أهلُ السنّة هؤلاء في كلّ هذه القضايا، في شأن وجود الجنّة والنّار، وبالقول ببقائهما ودوامهما.
 
وتَلَطّــفَ العـلَّافُ مِــن أتباعـــه     فأتى بضحكةِ جاهلٍ مَجَّــــــانِ
"العلَّاف" مِن المعتزلة، ولكنّه تبع "جهمًا" في القول بفناء الجنّة والنّار، لكنّه ابتدع رأيًا اختصّ به واشتهرَ به؛ قال بفناء الجنّة والنّار لكن يقول: الفناء ليس لذات الجنّة والنّار، أنّهما يعدمان مِن الوجود، بل قال -كما يقول ابن القيم هنا-:بل الفناء للحركات، قال: الفناءُ يكونُ للحركات لا للذات، واعجبًا لذا الهذيان.
"وتلطف": يعني طريقة فيها مراوغة ومخادعة، يعني لم يقل بفناء الجنّة والنّار هكذا كما يقول "جهم" وبِعَدمِهما عدمًا محضًا، بل أتى بقول مُحدثٍ سَمِجٍ مُضحكٍ، كما يقول ابن القيم .
 
 
قالَ: الفناءُ يكونُ في الحركاتِ لا     في الـذّاتِ واعَجَبا لـذا الهذيانِ
أيصير أهــلُ الخُلـدِ في جّنَّاتهـم      وجحيمهــم كـحجارةِ البُنيـانِ

حجارة البنيان لا تتحرك، تكون شاخصة وقائمة ولا حركة فيها، فقوله يقتضي أنّ الجنّة والنّار تبقى مثل المباني التي لا حركة فيها، قائمة وشاخصة ولا حركة فيها، فيقول: أيكون أهل الخلد مِن أهل الجنة والنار في نعيمهم أو جحيمهم كحجارة البنيان القائمة التي لا حركة بها.
 
ما حــــالُ مَن قدْ كانَ يغشَى أهلَهُ     عِند انقِضـــاء تحـرُّك الحّيوانِ
وكذاكَ ما حالُ الذي رفَعَــــتْ يدا     هُ أُكْلَة مِــن صحفــةٍ وخِـــــوَانِ
فتَناهتِ الحركاتُ قبلَ وصــولـها     للفَــمِّ عنـــدَ تــفتُّـحِ الأسنـــانِ
وكذاكَ ما حالُ الذي امتدَّتْ يـــــدٌ     منهُ إلـــى قِنــوٍ مِــن القِنـــوانِ
فتناهتِ الحركاتُ قبــلَ الأخذِ هلْ     يبـــــقى كذلـكَ سائــرَ الأزمـانِ
تبّــاً لِهَاتيــكَ العُقُــــولِ فإنَّـــها      واللهِ قد مُسِخـتْ على الأبــــدانِ
تبّـــاً لِمَنْ أضحى يُقدِّمُهَا على الـ    آثــــارِ والأخبــــارِ والقـــــرآنِ
 
يقول ابن القيم: إنّ قول "أبي الهذيل العلّاف" يتضمّن صورًا لأهل الجنّة مضحكة، وهذا مِن بديع سخريته بهذا الجاهل الضّال يقول: على حدّ قول ابن الهذيل إنّ الفناء للحركات، طيب لحظة فناء الحركات ابنُ القيم يرسم صورًا لبعض أحوال أهل الجنة في تلك اللحظة، يقول: توقّفت الحركة، انقضت الحركة: ما حالُ مَن قدْ كانَ يغشَى أهلَهُ     عِند انقِضاء تحرُّك الحّيوانِ
خلاص، معناها أنّه يبقى على حاله! مَن كان يغشى أهله ثم انقضت الحركة يبقى بصورة مَن كان يجامع أهله، يعني قل: مات, فهذه صورة، نموذج.
الصورة الأخرى: عند لحظة تحرك الحيوان في واحد أخذ لقمةً ليأكل مِن صحفة مِن صحاف الجنّة على خوان, ورفعها لِفِيه ولَمّا فتح فاه: انتهت الحركات, يبقى هكذا! وهذه لطيفة مِن ابن القيم, الصورة هكذا ابن القيم يرسمها في كلامه، ما هو حال مَن رفع أُكْلة مِن الصحفة ورفعها إلى فيه وفتح فاه فتناهت الحركات: في تلك اللحظة يبقى.
الصورة الثالثة: واحد مدّ يده ليأخذ قطفًا مِن بعض أشجار الجنة، رفع يده، فتح فاه، وقفت الحركات، انتهت، فلحظة وقوف الحركات مثل إن شئتم أن نقول مثل: "انطفاء الكهرباء"، وهو جميل وبديع لابن القيم، رافع يده ليأخذ قطفاً فتناهت الحركات، بقي هكذا.
فعلى قول هذا الجاهل الضّال أنّ أهل الجنّة يبقون هكذا سائر الأزمان، يعني على الأبد إلى الأبد وهم هكذا، يعني أشكالٌ وجمادات في هذه الأشكال.
 
تبّــاً لِهَاتيــكَ العُقُــــولِ فإنَّـــها      واللهِ قد مُسِخـتْ على الأبــــدانِ
"والله قد مسخت على الأبدان": يعني عقول ممسوخة، يعني فاسدة التصور، فاسدة التّفكير والتقدير, قول "أبي الهذيل العلاف" مع مناقضته للنّصوص أيضًا هو مناقضٌ للعقل، لأنّ قوله يستلزم هذه اللوازم المستنكَرة التي تقتضي يعني أن يكون أهل الجنة في أبشع صور، خذ المثال الأول :
ما حالُ مَن قدْ كانَ يغشَى أهلَهُ     عِند انقِضاء تحرُّك الحّيوانِ
نتوقف عند هذا الموضع لأنّ الفصل الذي بعده طويل، وإن شاء الله في المستقبل تأتي له فرصة.
اقرأ شرح الشيخ محمد على بعض الأبيات السابقة.
 
[قرآءة مِن شرح الشيخ بن عثيمين -رحمه الله- على النونية]:
والعبــدُ عندهمُ فليـــسَ بفاعــــلٍ    بلْ فِعلُــه كتحــركِ الرَّجَفَـــانِ
وهُبــوبِ ريـحٍ أو تحــرُّكِ نـائـــمٍ    وتــحرُّكِ الأشجــارِ للمَيَـــلان
واللهُ يُصْليهِ علــى مـا ليــس مـنْ     أفعالِــهِ حَــرَّ الحميــمِ الآنـــي
لكنْ يُعــاقبُــــهُ علــــى أفعـــالــهِ     فيـِه تعالى اللهُ ذو الإحســــانِ
والظلمُ عندهمُ المُحـــــــالُ لِذاتــه     أنَّى يُـنـزَّهُ عنهُ ذو السُّلطـــان
ويكـــونُ مَدحًـا ذلكَ التَّنزيـــهُ مـا     هذا بمعقـــولٍ لذي الأذهــــانِ

قال سماحة الشّيخ "محمد بن صالح بن عثيمين" -رحمه الله تعالى- في شرح هذه الأبيات:
(هذه الأبيات الستة فيها بيانُ ضلال الجهميّة، وهو أنّ العبدَ عندهم مجبرٌ على عمله ليس بفاعل، ولا يُنسب الفعل إليه، ولا يُمدحُ على حُسْنَى، ولا يُذمّ على سوء..
لأنّه ليس فعله
لأنّه ليس له إرادة وليس له اختيار..
ولا قدرة 
 
(بل فعله كما ذكر مثل تحرك الرّجفان، وهبوب الريح، أو تحرك النائم، أو تحرك الأشجار من الهواء، ومع ذلك يصليه الله تعالى النّار على ما ليس بفعله، وهذا عندهم ليس بظلم؛ لأنّهم يقولون: إنّ الظّلم محالٌ لذاته، يعني لا يُتصوّر أنّ الله يظلم، لا لأنّه منزّه عن الظلم لكمال عدله، لكن لأنّه لا يمكن أن يقع منه ظلم؛ لأنّه يتصرف في خلقه، فهو لا يتصرف في شيءٍ غير مخلوق الله، لا يتصرف في ملك غيره، فهو إذا عاقب المُحسن أشدّ العقاب وأثاب المسيء أفضل الثواب فليس هذا ظلمًا، لماذا؟ لأنّ الظلم محال في حقّ الله.
ووجه استحالته عندهم: أنّ الله سبحانه وتعالى يتصرّف في ملكه، والمتصرفُ في ملكه كما يشاء ليس بظالم.
فعلى رأيهم هذا: لا يثنى على الله عز وجل بأنّه لا يظلم، ولا يثنى عليه بأنّه ليس بظلام، لماذا؟
الجواب: لأنّ وقوع الظّلم منه محال، فإذا كان محالاً فكيف يُقال إنّه منزّه عن الظلم، لأنّه لا ظلم أصلاً، ولهذا قال المؤلِّف رحمه الله: "أنى يُنزّه عنه ذو السلطان"، يعني كيف يُنزّه عن الظلم والظلمُ محالٌ، إنّه لو أراد أن يظلم ما ظلم).
لو أراد أن يظلم ويستحيل أن يريد أن يظلم، ويستحيل أن يقدر على الظلم، لأنّ المحال غير مقدور، كما تقدم قريبًا، المحال ممتنع, فإذا كان الظّلم هو التّصرف في ملك الغير: فيمتنع أن يتصرّف الربّ في ملك غيره؛ لأنّه لا ملك إلّا له، هو المالك لكلّ شيء، فلا يُتصوّر أن يتصرّف في ملك غيره, إذا كان الله مالكًا لكلّ شيء فإنّه يمتنع أن يكون منه التّصرف في ملك الغير، لأنّه لا ملك إلا له، فأيُّ فعل يفعله: فإنّه جائز، وليس بممتنع في حقّه وليس ظلمًا.
 
(إذًا هم يقولون:
أولاً: العبد ليس بفاعل، ولكنّه مُجبر على الفعل، فتحركه الاختياري كتحركه الاضطراري، فحركته بيده إشارة إلى بعيد أو قريب كحركة يد المرتعش الذي لا يملك إيقافها.
ثانيًا: لو عذّب ربّنا أفضلَ الناس وأطوعهم له لم يكن ظالمًا، لأنّ الظلم في حقّ الله محالٌ، إذ إن الظلمَ تصرّف المتصرف في حقّ غيره، وهذا لا يتصوّر في حق الله فليس بظلم، لأنّ أي شيء يقع مِن الله ليس بظلم، وعلى رأيهم هل يكون الله -عز وجل- منزهًا عن الظّلم ومثنى عليه بذلك؟ الجواب: لا، لأنّ هذا أصلاً شيء محال.
ونحن نقول: إنّ الله عز وجل لا يظلم لكمال عدله، والظلم ممكن في حقّه).

 
ولهذا حرّمه الله على نفسه: (إنّي حرّمتُ الظّلمَ على نفسي وجعلتهُ بينكم محرّمًا)، ومِن صور الظّلم الذي حرّمه الله على نفسه: أن يعذّب أحدًا بغير ذنب، أو يعذّب أحدًا بذنب غيره: )وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(.
 
(وذلكَ بأن يثيبَ العاصي، ويعاقب المطيع، وهذا ظلم، قال الله عزّ وجلّ: }وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا{(طه:112)
وقال عزّ وجلّ:
}فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ{(الزلزلة:7 -8)
لو أنّه -وحاشاه مِن ذلك- عذّب المطيعَ لكان هذا ظلمًا؛ لأنّه وعدَ المطيع بالثّواب والحسنى، فإذا أخلف صار هذا ظلمًا.
الخلاصة: أنّ مذهب الجهميّة في أفعال العباد أنّهم مُجبرون عليها لا إرادة لهم، وأنّ حركاتهم الاختياريّة بمنزلة تحرك الأشجار في الهواء، فإذا قيل لهم: تعذيبهم على ذلك ظلم؟ قالوا: لا، الظّلم هو الشيء المستحيل وهذا لا يستحيل، لأنّ الظّلم أن يتصرف الإنسان في حقّ غيره أو ملك غيره، وهذا بالنسبة لله مستحيل؛ لأنّ كلّ شيء ملكه، فإذًا لا ظلم لأنّه تصرّف في ملكه. لكن بماذا نردّ عليهم؟ نقول: هذا التفسير الذي ذكرتموه للظّلم لا يُثنى به على أحد؛ لأنّ المحال لا يُمدح الإنسان عليه).

 
مثل العاجز الذي لا يقدر أن يفعل شيئًا فالظّلم في حقّه مستحيلٌ, إنسانٌ مكبّل أخرسٌ نقول: هذا لا يظلم أحدًا، هل في هذا مدح له؟ لا، إنّما يُمدَحُ بنفي الظّلم مَن يقدرُ أن يفعل شيئًا، أمّا مَن هو عاجز لا يمكن أن يقع منه هذا: فلا يُمدح بعدم الظلم، وإن كان يُقال أنّه لا يظلم، لكن القول بأنّه لا يظلم ليس فيه مدح له، لأنّ النّفي -كما ستأتي- له مناسبات، النّفي الذي يكون مدحًا هو الذي يستلزم إثبات كمال، أمّا ما لا يستلزم إثبات كمال فلا يُمدح به.
 
(نقول: وهذا التّفسير الذي ذكرتموه للظّلم لا يُثنى به على أحد، لأنّ المحال لا يمدح الإنسان عليه، لا إيجادًا ولا عدمًا، مع أنّ الله عزّ وجلّ يقول: (يا عبادي إنّي حرّمتُ الظّلم على نفسي). وهذا يدلّ على إمكانه، لكنّ الله حرّمه على نفسه لكمال عدله، والله -عزّ وجلّ- نزّه نفسَه عن الظّلم متمدّحًا بذلك، فلو كان محالاً لذاته لصار نفي الظّلم عن الله تنزيهًا له عمّا لا يليق به عبثًا، لا فائدة منه، وهذا الأمر ظاهر.
أمّا الردّ عليهم في قولهم "إنّ الإنسان مُجبر": فليس هذا موضعه، إنّما الكلام أن نفهم مذهبهم، وكلّ إنسان يعرف أن فعله باختياره).

 
يعني قولهم "بأنّ العبدَ مجبورٌ": هذا مردودٌ، حسًّا وعقلاً وشرعًا، }إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا{(المزمل:19) فله مشيئة، }وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ{(آل عمران:97) إذًا العبد له استطاعة، }فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ{(التغابن:16)
ثم إنّ هذا أمر محسوس، فكلّ واحد يُدرك الفرق بين حركة المرتعش الذي لا يملك إيقاف حركته وبين مَن يتحرّك اختيارًا، يُحرّك يده، يقول هكذا، ويشير بها، هذه حركته اختياريّة، أمّا حركة المرتعش: فهي اضطراريّة، لا يملك إيقاف هذه الحركة، فكلّ عاقل يفرقُ بين الحركتين, هذه حركة اختياريّة: صادرة عن إرادة، ومشيئة وقدرة، وهذه حركة اضطراريّة: لا يملك إيقافها.
 
(وكلّ إنسانٍ يعرفُ أنّ فعلهُ باختياره، لكن هناك أشياء ليست باختيار الإنسان، كالموت والمرض، لكن الأفعال الاختياريّة).
الموت والمرض ليس هو مِن أفعاله حتى نقول، لا، هو الذي نستطيع أن نقول إنه ليس باختياره: حركة المرتعش، هذه حركة مِن الإنسان، بيده أو جسمه، أو رجله، لكنّها اضطراريّة، وكذلك حركة مَن يُؤخذ ويُقذف به مِن شاهق أو مِن جدار, حركته في السّقوط هذه اضطراريّة, ما يملك أن يمنع نفسَه وقد رُمِي به، حركة الساقط من علو، فلو أن إنسانًا أراد أن ينتحرَ فإلقاؤه نفسَه هذا اختياري, ولكن هُوُيُّه مِن فوق إلى الأرض أصبح اضطراريّاً، يعني عندما ألقى نفسه أصبح مِن الممتنع عليه أن يُوقفَ نفسَه.
 
(لكن الأفعال الاختيارية التي يفعلها باختياريه؛ كعمل صالح، أو عمل سيئ، كقول أو فعل هذا باختياره).
ولهذا يجازى عليه.
 
(ولهذا لو أمسكنا واحدًا من هؤلاء، وضربناه ضربًا مبرحًا شديدًا. وقال: لماذا تضربونني، أنتم أخطأتم عليَّ؟ نقول له: هذا بغير اختيار منا هذا أمر مقدّر، والمقدر ما لنا عنه، أيرضى بهذا أو ما يرضى؟ الجواب: ما يرضى.
وعمر -رضي الله عنه- أمير المؤمنين لما جيء إليه بسارق فأمر بقطع يده، كما ذُكِرَ عنه, فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: القدر, قال فضربه أربعين سوطًا, وقال: قطعت يدكَ لسرقتك، وضربتك لفريتك على الله).

تحكى الرواية بتعبير آخر، أنه قال : يا أمير المؤمنين أنا سرقت بقدر الله. قال: ونحن نقطع يدك بقدر الله. سرقتهُ وقعت بقدر الله، وقطعنا له وقعت بالقدر والشرع، إذا قطعناه بالفعل فقد تعلق الأمران بهذا الفعل، أمّا إذا لم نقطع يده بل حكمنا عليه بالقطع: فهذا بحكم الشّرع, لكن هل تعلّق بالقطع القدرُ؟ ما قطعنا يده, إنّما القدرُ يتعلّق بما يقع, أمّا ما لم يقع فلا يتعلّقُ به القدرُ, يعني ما نقول في أمر لم يقع نقول أنّ هذا مقدّر أن يقع, فما قدر اللهُ أن يقع لابدّ أن يقع, ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
 
(فالمهم أنّ هذا القول لا يمكن أن يستقيمَ عليه أحدٌ عاقل إطلاقًا، ولو أننا قلنا به لفسدت السّماوات والأرض، وكان كلّ إنسان يزني ويسرق ويقتل ويشرب الخمر، ثم لا يُلام عليه، ولا يقال له شيء؛ لأنّه بغير اختياره وبغير إرادته). انتهى.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة