بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
(بابُ الآنيةِ:
كلُّ إناءٍ طاهرٍ -ولو ثميناً- يٌباحُ اتّخاذُهُ واستعمالُهُ، إلَّا آنيةَ ذهبٍ وفضّةٍ ومُضَبَّباً بهما، فإنَّه يحرمُ اتّخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى)
بعدما ذكر المؤلف باب المياه، وذكر أنواع المياه، وأحكام المياه، أتبع ذلك بباب الآنية، ومناسبة هذا ظاهرة، فإن الماء يحتاج فيه إلى ما يُحمل به، وما يُستقى به؛ لأنه مادة سائلة، لا يمكن أخذه إلا بما يحملها، ويحويها، فهذه هي مناسبة ذكر باب الآنية بعد الماء.
والآنية: جمع إناء، وتجمع الآنية على أواني، كعارية وعواري، وأكثر ما تطلق عليه الآنية: الأوعية الخفيفة، التي تحمل باليد، لكن المقصود هنا عموم الظروف، فيدخل فيها الأوعية والظروف، الكبيرة والصغيرة، مثل: الراوية، والمزادة، والقربة، والسقاء، والجفنة، وما أشبه ذلك.
يقول المصنف: كل إناء طاهر، يباح اتخاذه واستعماله، "كل إناء" يعني من سائر الأجناس، والآن مادتها تختلف، فكل إناء من مادة: من زجاج، من حديد، من نحاس، من صفر، من ذهب، من فضة، من خشب، من خزف… الخ
(كلُّ إناءٍ طاهرٍ): خرج به النجس، (يُباح): هذا هو خبر "كل"، و(اتخاذه) هو اقتناؤه، اقتناء من غير استعمال، كاقتناء الآنية الجميلة -مثلًا- للزينة، توضع على الرفوف زينة، فهذا يقال لها: اتخاذ.
واتخاذها واستعمالها في مختلف الاستعمالات، في الأكل، والشرب، وفي حمل الماء، أو غيره، من السوائل.
(إلا آنية ذهب، وفضة، أو مضبّباً بهما) أو مموَّه بهما، أو مطلي، (إلا آنية ذهب، وفضة) استثناء من العموم: عموم "كل"، فكل إناء طاهر، يباح اتخاذه واستعماله، إلا آنية الذهب والفضة، وما فيه شيء منهما.
أما الدليل على الحكم العام، فهو امتنانُ الله على عباده بخلق كل ما في الأرض لهم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}(البقرة:29)
كل ما في الأرض، فالله خلقه لنا، وأباحه لنا، إلا ما خصه الدليل، كل ما خلقه الله في الأرض فهو لنا، من جماد، وحيوان، ومن جامد ومائع.
وأما استثناء الذهب والفضة فللأحاديث الدالة على تحريم ذلك، كما ثبت في الصحيحين، عن النبي -عليه الصلاة السلام- من حديث حذيفة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَشرَبوا في آنيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تأكلوا في صِحافِها، فإنَّها لهُم في الدُّنْيا -أي للكفارِ- ولكُم في الآخِرَةِ).
فنهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، ونهى عن الأكل في صحافهما، الصحفة تقصد في الغالب للأكل، والصحفة يقدرها الفقهاء، وأهل اللغة، بما يشبع خمسة مثلاً، والقصعة أكبر منها، والله قد ذكر الصحاف في الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}(الزخرف:71).
وذكر الله الآنية: آنية أهل الجنة، وأنها من فضة ومن ذهب: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا}(لإنسان:15-16).
وكذلك ما ثبت في الصحيحين، من حديث أم سلمة، رضي الله، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الذي يشربُ في إناءِ الفضةِ إنَّما يُجرجر في بطنهِ نارَ جنهمَ). وفي رواية: (مَن شرِب في إناءٍ من ذهبٍ أو فضةٍ، فإنما يُجرجرُ في بطنهِ نارًا من جهنمَ).
وفي هذا وعيد شديد، من جنس: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}(النساء:10).
وهذا يدل على أن الشرب في آنية الذهب والفضة، من أسباب أن يُسقى الإنسان من الحميم، (إنما يُجرجر في بطنه نار جنهم) فسماه ناراً؛ لأنه سبب للعذاب في النار.
وآنية الذهب الخالص: هذا متفق على تحريمه، وكذلك المضبَّب، والمموَّه، والمطلي بالذهب، والفضة: جمهور أهل العلم على تحريمه كذلك، وهو الصواب؛ لأن الله إذا نهى عن شيء: نهى عن قليله، وكثيره، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما نهيتُكم عنهُ فاجتنبوهُ).
"آنية الذهب": هذا الاسم يمكن إطلاقه على ما فيه شيء من الذهب، والفضة.
يقول المؤلف: (كلُّ إناءٍ طاهرٍ، ولو ثميناً، يُباحُ اتخاذهُ واستعمالُه)، يعني: ولو كان ثميناً، غالي الثمن، كالآنية المصنوعة من الجواهر، ومن المعادن الثمينة، فإنه يباح.
إلا أن قوله: "ولو ثميناً" إشارة إلى الخلاف القوي، إذن المذهب: إباحة الآنية، ولو كانت ثمينة، فإنه يباح اتخاذها، واستعمالها، إلا آنية ذهب، وفضة.
والقول الآخر، هو: تحريم ما كان ثميناً، قياساً على آنية الذهب والفضة، والقول بإباحة ما كان ثميناً، هو: قول أكثر أهل العلم، ولكن القول بالتحريم، هو قوي في الحقيقة، كما أشار المؤلف.
فالشريعة حكيمة، الشريعة مبينة على الحكمة، فلا تفرق بين المتماثلين، فإذا كان الله قد حرم آنية الذهب، والفضة، فما كان أعلى منها، وأثمن منها، كان أولى بالتحريم؛ لأن العلة -والله أعلم-: هي ما في هذه الأجناس من الصرف، كون الآنية، الذهب والفضة، إنما يتخذ أثماناً، ويتخذ زينة، يتخذ آنية يشرب بها، ويأكل بها، أو تستعمل ما هو أدنى من ذلك، هذا المعنى موجود فيما هو أغلى وأثمن منها.
ومن جَوَّز الأجناس الثمينة، غير الذهب والفضة، قال: إن العلة في النهي، عن آنية الذهب والفضة: كونها أثماناً، فالعلة كونها ذهب أو فضة، فلا يتعدى الحكم إلى غيرهما، ثم نقول: إن قول المؤلف: (يُباحُ اتخاذهُ واستعمالُه) عام في سائر الاستعمال: في الأكل، والشرب، والتطهر، وهذا الحكم المناسب للباب؛ لأننا في باب الطهارة، فكل إناء طاهر، فإنه يباح الوضوء به، ومنه، وفيه، والاغتسال به، والاغتسال منه، وفيه، فيما لو قُدِّر أن يكون هناك إناء كبير، ويقعد فيه الإنسان، بحيث يتوضأ، ويسيل الماء إلى ذلك الإناء.
أما آنية الذهب والفضة، فيحرم اتخاذها، واستعمالها، لأي نوع من الاستعمالات، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، ومنهم مَن خصَّ التحريم بالأكل والشرب الذي ورد به النص: (لا تشربوا في آنيةِ الذهبِ والفضةِ، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنَّها لهم في الدنيا –أي للكفار- ولكم في الآخرة).
والصواب: هو تحريم سائر الاستعمالات، يعني عموم الاستعمال، وأما النص على "الأكل والشرب" فإنه خرج مخرج الغالب، فإن الغالب أن الآنية إنما تستعمل لأهم الاستعمالات، وهو الأكل والشرب، وإذا نُهي عن الأكل والشرب بآنية الذهب والفضة، فمن باب أولى أن يُنهى عن استعمالها فيما هو دون ذلك: من الوضوء فيها، أو الاغتسال منها، أو فيها، وقد وجد من يتخذ للحمامات أدوات ذهب وفضة، يمكن أن يتخذ مغسلة من الذهب أو الفضة!، أو البزابيز -مثلاً- تكون من ذهب أو فضة، وهذا غاية في السَّرف، والخيلاء، وفي الحديث: (كُلْ، واشرَبْ، والبَسْ، وتصدَّقْ، في غيرِ سَرَفٍ ولا مَخيَلةٍ).
ومما يفيد ويدل على عموم الحديث: (فإنَّها لهم في الدنيا -أي للكفار- ولكم في الآخرة) يعني في الجنة، والله قد وعد عباده المؤمنين بما في الجنة، من المآكل، والمشارب، والآنية: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}(الزخرف:71) أي: وأكواب من ذهب.
أقول: إن هذا التعليل يفيد العموم؛ لأنه لو أبيح لنا استعمالها في غير الأكل والشرب، لم تكن للكفار، ولم تختص بهم، بل تكون لنا ولهم، إنما نُهينا عن نوع من الاستعمالات: "فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" أقول: إن هذا التعليل يفيد تحريم عموم الاستعمال، قلنا: إن هذا الحكم -أي تحريم الأكل والشرب- في آنية الذهب والفضة، أو غير ذلك من وجوه الاستعمال، ما فيه شيء من ذهب، وفضة، كالمضبب، والمموه، والمطلي.
والمموَّه: هو المطلي بذهب أو فضة، المصبوغ، ما فيه من الذهب والفضة إلا الصبغ، مصبوغ بشيء، من الذهب والفضة، إنما يعطيه اللون، -لون الذهب، أو لون الفضة-، ولكن فيه شيء منه، هذا اللون لم يكن خارجاً عن طبيعة الذهب والفضة.
(كلُّ إناءٍ طاهرٍ، ولو ثميناً: يُباحُ اتخاذُه واستعمالُه، إلّا آنيةَ ذهبٍ وفضةٍ، ومُضبَّباً بهما، فإنَّهُ يحرمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى)
"ومضبباً" هي معطوفة على "الآنية"، أي مضبَّبًا بالذهب والفضة، يقول: "ولو على أنثى"، كأنه إشارة إلى أنه خلاف آخر، وهو أن هذا الحكم -أي تحريم الاستعمال للأكل والشرب- إنما يختص بالذكور، وهذا مذهب غريب، وشبهته: الأحاديث الواردة في الزينة، كحديث أبي موسى، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أُحِلَّ الذَّهَبُ والحَريرُ لإناثِ أُمَّتي وحُرِّمَ على ذُكورِها).
ولكن هذا وارد في باب اللباس والزينة، أما الآنية: فالصواب أنه لا فرق في تحريم الأكل والشرب، وغيرهما من الاستعمال، لا فرق في ذلك، بين الذكر والأنثى، الذهب والفضة بالنسبة للمرأة إنما يناسبها: التزيُّن بذلك، وأما الأكل والشرب: فلا يختص بالذكور، بل هو عام.
(وتصحُّ الطهارةُ منها، إلّا: ضبَّةً يسيرةً مِن فضّةٍ لحاجة، وتُكرهُ مباشرتُها لغيرِ حاجةِ)
يقول: وتصح الطهارة منها ولو أنثى، يقول: "تصح"، ولم يقل: "وتباح الطهارة منها"؛ لأنه يحرم استعمال آنية الذهب والفضة في الوضوء والغسل، ولكن لو توضأ الإنسان من آنية ذهب أو فضة، فما حكم طهارته؟ يقول المصنف: إنها تصح؛ لأن تحريم الذهب والفضة لا يختص بالطهارة، والآنية ليست شرطاً في الوضوء، ولا ركناً فيها، وإنما هي أداة، آلة، فتصح الطهارة منها.
فالتحريم هو الاستعمال، ويمكن أن يقال بأنها لا تصح؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فلا تصح الطهارة من آنية ذهب وفضة، لأن هذا الوضوء استعمال لها.
ولكن -في الحقيقة- القول بصحة الطهارة أرجح؛ لأن جهة التحريم منفكة، فالمستعمل في الطهارة، هو الماء، هذا هو أداة التطهر، أما الآنية فليست هي أداة التطهر، لكنها وسيلة لذلك، وسيلة لاستعمال الماء، للحاجة إلى أخذ الماء بها، وحملها.
(إلّا ضبّةً يسيرةً، من فضةٍ، لحاجةٍ)
هذا الاستثناء راجع إلى ما قبل، إلى قوله: (ومُضبَّباً بهما، فإنَّهُ يحرمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى)، وتصح الطهارة منها، إلا ضبة يسيرة، استثناء من قوله: (ومُضبَّباً بهما)، إلا مضبباً بضبة يسيرة، من فضة، لحاجة.
وشرط أن تكون الضبة: يسيرة لا كثيرة، وتكون من فضة لا من ذهب، لحاجة لا لمجرد الزينة، إلا ضبة يسيرة من فضة، لحاجة، واستُدل لذلك بما جاء في الصحيح، عن أنس -رضي الله عنه- أن قدح النبي -صلى الله عليه وسلم- انكسر، فاتخذ في الشِّعب سلسلة من فضة، يعني اتخذ في الكسر، الذي في الإناء، سلسلة من فضة، تجمع بين طرفي الكسر.
أن قدح النبي -صلى الله عليه وسلم- انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة، فاقُتصر على ما ورد، فلم يعد الحكم إلى غيره، فقدروا الرخصة بقدرها.
(إلّا ضبّةً يسيرةً، من فضةٍ، لحاجةٍ) أما ضبة من ذهب: فلا تُباح، ولو كانت يسيرة، ولو كانت لحاجة.
(وتكرهُ مباشرتُها)
إذا قُدِّر أن في الإناء ضبة مباحة، من فضة، فتكره مباشرتها عند الشرب، بحيث أن يضع الإنسان فمه على هذا الموضع؛ لأنه حينئذٍ يكون فيه شيء من استعمال الفضة في الشرب، لكن ما دامت أنها مباحة، فلا ريب، فهذا نوع من الاحتراز، المبالغة في الاحتراز من الممنوع، فتكره مباشرتها، لكن لا تحرم الرخصة، ثبتت بوجودها في الإناء، لكن تقصد ذلك.
يمكن يقال أن القصد إلى مباشرتها يكره، وأما من غير تقصُّد فلا كراهة، يعني يشرب كما يتفق، إذا كانت الضبة مما يليه وشرب، فلا كراهة، وأما يتقصد الشرب من ذلك الموضع الذي فيه الضبة، فالقول بالكراهة له وجه.
(وتُباحُ آنيةُ الكفارِ، ولو لم تحلَّ ذبائحُهُم، وثيابُهُم إنْ جُهِلَ حالُهَا)
"وتباح" وهذا من التفصيل، "وتباح آنية الكفار، وثيابهم إن جُهلَ حالها"، يعني من حيث الطهارة والنجاسة؛ لأن الأصل هو الطهارة، أما إذا غلب على الظن نجاستها، كثيابهم التي تلي عوراتهم، وهم لا يتنزهون عن النجاسة -وذكر ثياب الكفار جاء تبعاً، وإلا هي من مسائل باب اللباس- وكذلك الآنية التي يتخذونها للمطعومات المحرمة، كالآنية التي يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمر، فإنه لا يُباح استعمالها، إلا بعد غسلها؛ كما ثبت في الصحيحين عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قيل: يا رسول الله إنا بأرض قومٍ، أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ فقال: (لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها).
وفي رواية: قيل يا رسول الله وهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمر.
فكان هذا الحكم خاصاً بهذا النوع، ولهذا قال المؤلف: (إنْ جُهِلَ حالُهَا)، إذا كانت آنية عادية، لا يُعلم أنهم يستعملونها في الحرام، في المحرم، فإنها مباحة على ما هو الأصل، فإذا غلب على الظن نجاستها، أو استعمالها في المحرم: فلا تُباح إلا بعد تطهيرها.
(ولا يَطهرُ جلدُ ميتةٍ بدباغٍ، ويُباحُ استعمالُه بعدَ الدبغِ، في يابسٍ، من حيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ، ولبنُها، وكلُّ أجزائِها نجسةٌ، غيرُ شعرٍ ونحوهٍ، وما أُبينَ من حيّ فهو كمَيْتَتِهِ)
يقول المؤلف: (ولا يَطهرُ جلدُ ميتةٍ بدباغٍ) لا يطهر بالدباغ، والدباغ معالجته، معالجة جلد الميتة، لامتصاص ما فيه من الرطوبة، وليكون صالحاً للبقاء، فجلد الميتة إذا تُرك، يبقى فيه الخبث: خبث الميتة رطوبتها، ولم يعد صالحاً للاستعمال.
فإذا دبغ، والدباغة تكون ببعض المواد المعروفة، من النباتات المعروفة، مثل: نبتة الأثل، والقرض، وغيرهما، والآن هناك مواد تُعالج بها الجلود، تَصلح بها، وتُزيل خبثها، وتجعلها صالحة للبقاء، والاستعمال.
فالمؤلف يقول: (ولا يَطهرُ جلدُ ميتةٍ بدباغٍ) وهذا خلاف ما دلت عليه السنة، المستفيضة عنه عليه الصلاة والسلام، عن عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- فقد جاء في صحيح مسلم: (إذا دُبِغَ الإيهابُ فقد طَهُرَ)، وفي لفظ عند غير مسلم : (أيّما إيهاب دُبِغَ فقد طَهُرَ).
ومن ذلك حديث قصة شاة ميمونة، وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هلَّا أخذْتُم إهابَها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها مِيِّتَةٌ، فقال: إنما حُرِّمَ أكلُها).
والعلماء مختلفون في جلود الميتة، وتطهيرها، على مذاهب كثيرة، وأهمها قولان: أحدهما: أن أي جلد فإنه يطهر بالدباغ، من جلود مأكول اللحم، وغير مأكول اللحم، لعموم قوله: (أيّما إيهابٍ دُبِغَ فقد طَهُرَ).
والقول الآخر: أن ذلك يختص بمأكول اللحم؛ لِما جاء في الروايات: (ذكاةُ الأديمِ دباغُه). فالدباغة لجلد الميتة بمثابة الذكاة.
ومن الأقوال: ما مشى عليه المؤلف، من أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولكنه إذا دبغ أُبيح استعماله، في اليابسات، إذن هو ليس بطاهر، لكن يُباح استعماله في اليابسات، جمعاً بين هذه الأحاديث الدالة على طهارته واستعماله، وعلى ما جاء في حديث عبد الله بن عكيم، كتب إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قبل وفاته بشهر: (أنْ لا تنتفعوا مِن الميتةِ بإيهابٍ ولا عصبٍ).
ولأهل العلم مناقشات في هذا، لكن قالوا: جمعاً بين الدليلين، هو لا يطهر، ولكن يُباح استعماله، إذا دبغ، والصواب: هو القول بأنه طاهر، ويُباح استعماله في كل شيء، في اليابسات، وفي المائعات، في المائعات: كاتخاذه سقاءً، وقربةً، وإداوة، يُحمل فيها الماء، وأما اليابسات: كاستعماله فراشاً، أو حقيبةً، في اليابسات حقيبة توضع فيها الثياب، أو فراش يقعد عليه.
وهذا في الحقيقة ليس بمستقيم، أن يُقال بأنه ليس بطاهر، ولا يطهر، بل هو نجس، ومع ذلك يُباح استعماله!، والراجح في هذا أنه يطهر، ولكن هل ذلك خاص بميتة مأكول اللحم؟، أو هو عام في كل ميتة؟، الأظهر هو الأول؛ لما جاء في الروايات من أن دباغ الأديم ذكاته، هذا ما يتعلق بالجلد.
(ويُباحُ استعمالُه بعد الدبغِ، في يابسٍ)
هذه هي المسألة، يعني لا يطهر بالدباغ، لكن يُباح استعماله بعد الدبغ في اليابسات.
(من حيوانٍ طاهرٍ في الحياةِ)
قيَّده المؤلف: من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة، ماذا نفهم من هذه العبارة؟ إخراج الكلب، وجلد الحمار، فيما يظهر؛ لأنه لم يقل: "من حيوان مباح الأكل"، بل قال: "من حيوان طاهر"، والحمار طاهر البدن، هذا هو الظاهر لي من العبارة، من حيوان طاهر في الحياة، خرج به الحيوان النجس: كالكلب، والخنزير.
(ولبنُها، وكلُّ أجزائِها نجسةٌ، غيرُ شعرٍ ونحوهِ)
جميع أجزاء الميتة نجسة: لبنها، وجميع أجزائها، كلها نجسة، والحكم بنجاستها: إما من كونها محرمة؛ لأن هناك من يقول: كل محرم نجس، ولكن هذه القاعدة ليست مستقيمة، ليس كل محرم نجس، فهناك نباتات محرمة الأكل، وليست نجسة، هناك الحرير، محرم على الذكور، ليس بنجس، فليس كل محرم نجس.
ولكن مما استُدل به على نجاسة الميتة: هو وصف الجلد -إذا دبغ- بالطهارة، مما يدل أنه قبل الدبغ نجس، (إذا دُبِغَ الإيهابُ فقد طَهُرَ): يفهم منه أنه قبل أن يدبغ ليس بطاهر، بل هو نجس، وهو جزء من الميتة، إذن فالميتة كلها نجسة؛ ولهذا قال: ولبن الميتة، وجميع أجزائها نجسة، إلا الشعر ونحوه، كالوبر، فالشعر من المعز، والصوف من الضأن، والوبر من الإبل، أو إلا الصوف ونحوه، إذن عظام الميتة نجسة، فهي محرمة.
وفي هذا خلاف -في لبن الميتة، وفي عظامها-، ويرجح شيخ الإسلام: إباحة عظم الميتة، لأن عظمها كشعرها، ليس مما تحل فيه الحياة، ليس فيه حس، مثل السن، مثل العظم.
إذا نُقِّي من الرطوبة، يعني من جنس الجلد، إذا غُسل ونُظِّف من الرطوبة التي كانت ملتصقة به، فهو كالشعر، وأما حكم الشعر فهذا ظاهر؛ لأن الشعر يُجزُّ من الحيوان، وهو حيّ، ويقطع، ويُنتفع به.
(وما أُبينَ من حيٍّ فهو كميتتِهِ)
يعني ما قُطع من البهيمة، وهي حية، فهو كميتته حكماً: حِلاً، أو تحريماً، فما قُطع مما تُحرم ميتتُهُ فهو حرام، وما قُطع مما تُباح ميتتُهُ كالسمك، فهو حلال.
فما أُبينَ من حيّ فهو كميتته؛ لأنه ميتة، ما قُطع من الحيوان: كما إذا قطعت الإلية من الشاة، فهي حرام، ميتة، إلى آخره، ولكن ما قُطع من السمكة، وهي حلال، فلو قُطع من السمكة -وهي في البحر- قطعة، وذهب الباقي، فهذه القطعة حلال؛ لأن ميتة البحر حلال، وهذا معنى قوله: "وما أبينَ من حيّ فهو كميتته"، كلمة معبرة، وبهذا ينتهي الباب.
قوله: (ولبنُها، وكلُّ أجزائها نجسةٌ، غيرُ شعرٍ ونحوهِ)، ما الفرق بين اللبن والشعر، ولماذا الشعر حلال؟
الشعر حلال، يُباح، واللبن لا يُباح، لأنه في الحقيقة مباشر، وشيخ الإسلام له فيه رأي، في لبن الميتة، يعني ما لم يتغير بملامسة جزء الميتة، لأنه في وعاء نجس.
ضرع الميتة ما حكمه؟ أليس هو جزء من أجزاءها؟!، الضرع: وعاء اللبن، إذا كان نجساً، فاللبن فيه، كما لو وضعت لبناً في وعاء، أو في جلد ميتة، فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة.
لكن من ينظر ويشترط في النجاسة التغيير، يقول: لا يكون نجساً إلا أن يتغير، فإذا قُدِّر أن هذه البهيمة، إذا ماتت الآن، وضرعها مملوء من اللبن، ثم استخرجناه، ولم يتغير، يكون طاهراً، لكن إذا تغير ببقائه في ضرع الميتة، فإنه ينجس ويحرم.
ولكنه -على ما مشى عليه المؤلف- يجعل الحكم عاماً، مطلقاً، لبن الميتة كجزء منها، كجزء من أجزاءها، أما الشعر والصوف: فلأن حكمه في الحياة أنه -إذا قُطع- يُباح، فكذلك إذا ماتت، فلا أثر للموت بالنسبة للشعر؛ لأنه يجوز قطعه، وهي حية، بخلاف بقية الأجزاء.
أما الشعر فإنه يُفصل منها، ويُقص من البهيمة، ويُباح استعماله بالاتفاق.
قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في اللبن: "لبنُ الميتةِ نجسٌ، وإنْ لم يتغيّر بها؛ لأنه مائع لاقى نجسًا فتغير به .. إلى قوله: واللبنُ في الضرعِ قد يكونُ داخلاً في هذا العموم"
لاحظ: المؤلف لم يقيد ذلك بالتغيير، وقول الشيخ محمد وجيه؛ لأنه شيء يسير، وفي وعاء نجس، متنجس، ولا يخلو من أثر الموت، وعفونة الحيوان، والحيوان -إذا مات- فور موته يسري إليه التغير.