يسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
مقدمة الشّارح:
موضوع الزاد وشرحه هو: الفقه، فقه العبادات والمعاملات، فيجب أن يُعلم أن الفقه في الشرع هو المذكور في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يُردِ اللهُ بهِ خيراً يُفقِّهُ في الدّينِ).
ففي هذا الحديث بشارة لمن مَنَّ الله عليه بالفقه في الدين، وأن الله قد أراد به خيراً.
وقد فُسرت الحكمة في قوله سبحانه تعالى: }يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ{(البقرة: 269) فُسرت الحكمة: بالفقه في الكتاب والسنة.
والفقه أخص من العلم، الفقه: الفهم، فإن هذا أصله باللغة العربية، الفقه هو: الفهم، ولهذا قال علي -رضي الله عنه- لما سئل: هل خصكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء؟ قال: لا، إلا ما في هذه الصحيفة، أو فهماً يؤتيه الله عبداً في القرآن، أو كما قال -رضي الله عنه- فهماً يؤتيه الله عبداً في القرآن.
فهم: فتح إلهي، فهم القرآن وفهم السنة الفهم الصحيح، فإن كثيراً من الناس يفهم القرآن، أو يفهم السنة على خلاف مراد الله، ومراد رسوله، إما جهلاً، بحيث لا يكون عنده الأدوات والوسائل التي يفهم بها كلام الله، وكلام رسوله، أو يكون ذا مذهب، فلا يفهم كلام الله، وكلام رسوله إلا على أساس مذهبه، فيحمل النصوص على ما يوافق مذهبه، وما يخالف مذهبه يتصرف فيه، إما بالتفويض، أو بالتأويل.
وهذا يشمل أصحاب المذاهب الكلامية، والفلسفية، والصوفية، والمذاهب الفقهية، المذاهب يعني المقلدين، والمتعصبين كلهم لا يفهمون النصوص، متجردين عن الهوى، والتعصب لمذاهبهم، ونظرياتهم، وشبهاتهم، فيضلون بذلك، ويُضلون غيرهم من الأتباع –سبحان الله-.
والواجب هو فهم كلام الله، وكلام رسوله، على ما يوافق فهم السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، هم أعلم الناس بمراد الله، ومراد رسوله، هم الذين حملوا هذا الدين، وهذا العلم، فلا يجوز أن نفهم هذه النصوص فهماً يخالف ما فهموه.
إذن: فكل فهمٍ يخالف فهم الصحابة، والتابعين، ومن سلك سبيلهم، فهو باطل، كل فهم يناقض فهمهم، فهو باطل، لأن الحق لا يمكن أن يكون عند غيرهم.
وهذا لا يمنع من أن نفهم، ونستنبط الأمور، ولو لم تكون مأثورة، ولكن لا تناقض فهمهم، لا تناقض فهم الصحابة والتابعين، ومن سار على منهاجهم.
فالفقه بالدين: هو الفقه في جميع مسائل الدين: العلمية، الاعتقادية، كمسائل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والفقه في المسائل العملية، التي هي أعمال المكلفين.
فالفقه يشمل الفقه في الدين، الفقه في مفهوم الشرع، الذي تضمنه الحديث: (مَنْ يُردِ اللهُ بهِ خيراً يُفقِّههُ في الدّينِ).
قلت: إن هذا فيه بشارة، لمن يفتح الله عليه الفهم في دين الله، في كتاب الله، وسنة رسول الله، وفيه ترغيب عظيم، في هذا الشأن العظيم: الفقه في الدين.
وهذا ما دعا به الرسول -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عباس، قال: (اللهُمَّ فَقّههُ في الدين وعلِّمهُ الكتابَ)، أو (وعلِّمهُ التّأويل).
ولكن لما نشأت العلوم، وتقسيم العلوم الشرعية، خُصّ اسم الفقه بمعرفة أحكام أفعال المكلفين، من العبادات، والمعاملات، على وجه التفصيل، فإن العلوم الشرعية، قسمها أهل العلم أقساما كثيرة، هذا علم التفسير، وهذا علم الحديث، والحديث له علوم، والتفسير له علوم، والعقيدة فيها علوم الاعتقاد، والتوحيد، وما إلى ذلك، والأصول، ومنها الفقه، علم الفقه، وهو مخصوص بما ذكرت لكم بمعرفة أحكام أفعال المكلفين، أفعالهم والأحكام مبينه في الأصول، الأحكام الشرعية مقررة في الأصول أنها أحكام تكليفية، وأحكام وضعية، فهناك: الوجوب، والتحريم، والكراهة، والاستحباب، والإباحة، وهناك الأحكام الوضعية، مثل: الصحة، والفساد، هذا عقد فاسد، وهذا صحيح، العبادة: صحيحة، فاسدة.
وكذلك من الأحكام الوضعية، ما يعرف عند أهل العلم بـ: الرخصة، والعزيمة، والشروط، كذلك، والأسباب، والعلل، هذه كلها مفصلة في كتب الأصول، كلها أحكام شرعية، مستمدة من النصوص، نعرف الواجب، والمستحب.
المرد في هذا، والمرجع في هذا: النصوص، فإنه لا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرم، ولا واجب إلا ما أُجب، ولا مستحب إلا ما أحب الله، ورسوله، وندب إليه.
ثم إن أهل العلم عنوا بتفصيل الأحكام، واجتهدوا في ذلك، فالأحكام في الفقه على مراتب، يعني ما يذكره الفقهاء في كتب الفقه، وألفوا في ذلك الكتب الموسعة، المختصرة، وفي كتب الخلاف، وكتب المذاهب.
فالزاد الذي -إن شاء الله- سنقرأ معكم، هو من الكتب المختصرة، في مذهب الإمام أحمد، للعالم موسى الحجاوي -رحمه الله-، وكذلك شرحه لمنصور البهوتي -رحمه الله-، وهذان الرجلان عنيا بمذهب الإمام أحمد.
وإذا قيل: "مذهب أحمد" فهو مذهب اصطلاحي، ما يلزم أن يصير –فعلا- هو مذهب الإمام أحمد، يعني مسألة تعيين أن هذا المذهب لهم فيه اصطلاحات، وأنا لا أحيط بالمصطلحات المعروفة، إنما هذا أمر معروف، يعني المذهب عند المتأخرين كذا، المذهب عند المتقدمين كذا، أشبه ما يكون باصطلاح.
فهذان الرجلان –أعني: موسى الحجاوي، ومنصور البهوتي- رحمهما الله، كان لهم عناية، فموسى ألف كتابين مشهورين، "الإقناع" كتاب طويل، مطول، وكتاب "زاد المستقنع"، ومنصور البهوتي شرحهما، شرح الإقناع، وشرح الزاد: زاد المستقنع.
وزاد المستقنع، مختصر من المقنع، للموفق ابن قدامة، شيخ المذهب، فابن قدامه ألف المؤلفات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، فألف العمدة، "عمدة الفقه"، مختصر جداً، وألف "المقنع"، أوسع بكثير، وذكر فيه روايتين في المذهب، وألف كتابا "الكافي"، وألف الكتاب، المرجع الكبير، "المغني" وذاك في الخلاف، ولم يقتصر فيه على ذكر الاختلاف في المذهب فقط.
وكان مشايخنا -رحمهم الله- وخصوصاً محمد بن إبراهيم، والمشايخ قبله، وشيخنا، الشيخ عبد الله بن حميد، وكذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي، وبعده الشيخ محمد بن عثيمين: جروا على تدريس هذا المتن، أعني: متن الزاد "زاد المستقنع"، فهو كتاب -على اختصاره- قالوا فيه أكثر من ستة آلاف مسألة، هذه المسائل منها ما هو منصوص، يعني دليله نص من كتاب الله، أو من سنة رسوله، ومنها ما هو مستنبط من النصوص، ومنها ما العمدة فيه القياس، وهكذا.
فهو على مراتب، فمنه ما هو -يعني هذه المسائل التي فيه- ما هو متفق عليه، ومجمع عليه، ومنها ما هو متفق عليه في المذهب، ومنها ما هو محل خلاف، ولكن ما ذُكر فيه هو الراجح، من حيث الدليل، ومنها ما يكون مرجوحاً، وهذا قد اجتهد فيه الشراح، وأصحاب الحواشي خصوصاً، يعني من أحسن الحواشي التي عُنيت بذكر –مثلاً- اختيارات شيخ الإسلام ابن تيميه، والإشارة إلى الخلاف، حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم العاصمي -رحمه الله- وهي موجودة بأيديكم.
وكذلك من أعظم شروح هذا المتن: شرح الشيخ محمد بن صالح عثيمين -رحمهم الله- فهذا شرح جليل، عظيم، وحق له أن يسمى: "الممتع في شرح زاد المستقنع"، وهو مرجع لنا، ولسائر طلاب العلم، فجزى الله الجميع عنا وعنكم خيرا، وعن الإسلام والمسلمين.
هذه كلمات في حدود ما حضرني، تقديم بين يدي درسنا هذا، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ومما أحب أن أذكر به: حضور هؤلاء الشباب، ورغبتهم التي ما ساقهم إليها شهادة، ولا وظيفة، ولا شيء، إلا محبة العلم، الموروث عن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فهكذا ينبغي أن يطلب العلم، بتجرد، نسأل الله لنا ولكم الفقه في الدين، فنسأل الله أن يفتح علي وعليكم، وأن يمدكم بتوفيقه، وأن يحفظكم، وأن يقر عيون الأمة بكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
قالَ المؤلِّفُ أبو النجا موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي، في كتابه "زاد المستقنع في اختصار المقنع":
(المقدمة: الحمدُ للهِ حمداً لا يَنفدُ، أفضلَ ما ينبغي أنْ يُحمدَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على أفضلِ المصطفينَ محمَّدٍ، وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَنْ تعبَّدَ.
أمَّا بعدُ:
فهذا مختصرٌ في الفقهِ، مِن مُقنعِ الإمامِ الموفَّقِ أبي محمَّدٍ، على قولٍ واحدٍ، وهو الراجحُ في مذهبِ الإمام أحمد ، وربَّما حذفْتُ منهُ مسائلَ نادرةَ الوقوع.
وزدتُ ما على مثلهِ يُعتمَدُ، إذ الهممُ قد قصُرتْ، والأسبابُ المثبِّطةُ عن نيلِ المُرادِ قد كثُرتْ، ومع صِغرِ حجمهِ حوى ما يُغني عن التطويل.
ولا حولَ ولا قوَّةَ إلّا باللهِ، وهوَ حسبُنا ونعمَ الوكيل).
نقف مع هذه الخطبة، والمقدمة، ونقول ما تيسير: يقول في خطبته: "الحمد لله"، وهكذا ينبغي افتتاح الكلام، الخطبة، أو بحث، أو درس، أو تأليف، وهكذا درج أهل العلم، يفتتحوا مؤلفاتهم بحمد الله، والثناء عليه، كما كان -عليه الصلاة والسلام- إذا أراد أن يتحدث يفتتح كلامه بحمد الله، والثناء عليه، كما في خطبة الحاجة المشهورة: (إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينهُ).
يقول المؤلف: "الحمد لله حمداً لا ينفد"، تكلم المفسرون، وشرّاح الحديث، وأهل اللغة، تكلموا عن الحمد والشكر، والفرق بينهما، تكلموا عن هذا كثيراً، وهناك المدح والشكر، والحمد، فمنهم من يسوي بين والحمد والشكر، ويقول إنه يعني تعظيم المنعم، بقول أو فعل، ومدحه والثناء عليه، وما أشبهة ذلك من العبارات.
ومنهم من يفرق، ويقول: إن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص، وجه وهذا: الذي قرره ابن القيم، يقول: (إنَّ الحمدَ هو الثناءُ باللسانِ على الجميلِ الاختياري). فالحمد إنما يكون باللسان، ولا بد أن يكون في القلب، فالحمد والمدح -الذي باللسان- لا معنى له، لكن أداته اللسان فهو المدح والثناء باللسان، على الجميل الاختياري، سواء أكان نعمة، أو غير نعمة، ولهذا نقول: الحمد لله على كل حال، فله الحمد على العطاء والمنع، سبحانه وتعالى.
وأما الشكر، فإنه يختص بتعظيم المنعم بالقلب، وباللسان، وبالجوارح، فيقولون –مثلاً- أن الشكر أخص من جهة سببه، وأعم من جهة أداته، يكون بالقلب، واللسان، ويذكرون في هذا المقام بيت:
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثةً يدي ولساني والضَّميرَ المحجبَا
وأما الحمد، فإنه أعم من جهة سببه، وأخص من جهة أداته، والحمد ما يكون بالجوارح، والله تعالى حمدَ نفسه، وعلمنا أن نحمده.
فـ "ال" في الحمد: للاستغراق، أي: كل الحمد له، لأن موجب الحمد لا يجتمع إلا له –سبحانه- فهو الموصوف بجميع المحامد، إذن فهو المستحق للحمد كله.
فـ "ال" للاستغراق، فتساوي كل الحمد، والله تعالى حمدَ نفسه في كتابه في مواضع، سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الفاتحة:2)
وفي الحديث القدسي: (قالَ اللهُ تعالى: قسمتُ الصَّلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قالَ اللهُ تعالى: حمدني عبدي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قالَ اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قالَ: مجَّدني عبدي(
يقول المؤلف -رحمه الله-: (الحمد لله حمداً لا ينفد) يعني: لا ينقضي، ولا ينتهي، والمراد أن الله يستحق ذلك، يستحق الحمد الذي لا ينفد، أما العبد فإن حمده لربه ينفد، حمدك لربك ينفد!، أنت تفنى، وكلامك ينتهي، وينفد، وحمدك له ينفد، لكن معنى أنه –تعالى- حمده لا ينفد، يعني: أنه مستحق للحمد، الذي لا ينقطع، حمداً لا ينفد.
(أفضل ما ينبغي أن يحمد)
يظهر أن أفضل صفة لقوله حمداً –حمداً- مصدر مؤكد لقوله "الحمد لله"، ثم قوله "لا ينفد" صفة للمصدر المؤكد، ثم يقول "أفضل ما ينبغي أن يحمد"، يعني: أفضل ما ينبغي أن يحمد به –سبحانه وتعالى- فأفضل صفة ثانية للمصدر "حمداً" لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد.
(وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على أفضلِ المصطفّين محمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَن تعبَّد)
بعد الحمد، يصلي على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهذا -في الحقيقة- يتضمن تضمناً الشهادتين، فإنه لم يضمن خطبته الشهادتين، لكن افتتاحه بالحمد، ثم بالصلاة، يتضمن بالشهادتين تضمناً.
(على أفضلِ المصطفِّين محمَّدٍ)
والمصطفون هم الأنبياء، والمرسلون، قال الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}(النمل:59)
وقال -سبحانه وتعالى- في بعض أنبيائه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ*إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ*وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ){ص:44–46( عليهم الصلاة والسلام، وأفضل المصطفين هو محمد بن عبد الله، خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، أفضل المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- أحسن ما قيل فيها، أن الصلاة من الله هي ثناؤه على عبده، بالملأ الأعلى، ومن الملائكة، ومن المؤمنين، الدعاء بالصلاة عليه، صلاتنا عليه بم تكون؟ تكون بأن نقول: اللهم صلِّ عليه، هكذا علمنا -عليه الصلاة والسلام- قالوا كيف نصلِّ عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد، فالصلاة من المؤمنين إنما هي دعاؤهم الله، أن يصلي على نبيهم.
وآل الرسول -عليهم الصلاة والسلام- هم أتباعوه على شريعته، وعلى دينه، ويطلق اسم على أهل بيته، والـ(آل) في الصلاة على الرسول -عليه الصلاة والسلام- تفسر بهذا وبهذا.
وعلى آله وصحبه، والصحب: جمع صاحب، كالركب: جمع راكب، وعطف الصحابة على الـ (آل) إذا فسر بالأتباع، هو من عطف الخاص على العام.
(ومَن تعبَّدَ)
والمؤلف يتحرى في هذه العبارات التناسب، وتناسب الجمل، والسجع هو من أنواع تحسين الكلام، من أنواع البديع.
"ومن تعبد" يعني: من تذلل لله بطاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه إلى يوم القيامة، إذن قوله: "ومن تعبد"، معطوف على الـ (آل) والأصحاب، فعطف من على ما قبلها من عطف الأعم، يعني: "ومن تعبد" عطف على من قبلها، ومن تعبد، كل من تعبد لله.
(أمَّا بعدُ)
هذه الجملة يؤتى بها للانتقال من افتتاح الكلام، والشروع في المقصود، للانتقال من فواتح الكلام، إلى الشروع في المقصود.
"أما بعد" وهي جملة مِن هديه -عليه الصلاة والسلام- يقولها في خطبه، يقول في خطبه: أما بعد، ويفسرها النحاة: مهما يكن من شيء بعد، أو مهما يذكر من شيء بعد، فهو كذا، وكذا، ولهذا يؤتى في جوابها بالفاء، أما بعد فالأمر كذا وكذا.
ولهذا يقول المؤلف: "أما بعد: فهذا مختصر، يشير إلى المؤلف، يمكن أنه كتب الخطبة بعد التأليف، فتكون الإشارة إلى شيء موجود، وإما أن يكون كتب المقدمة قبل التأليف، فتكون الإشارة إلى ما تقرر في ذهنه.
"فهذا مختصر" إن كان قد ألف الكتاب، ثم كتب المقدمة، فهي إشارة إلى شيء موجود، حاضر، وإن كان قد كتب الخطبة والمقدمة قبل التأليف، فهي إشارة إلى ما تقرر في ذهنه أن يفعله، وأن يؤلفه.
(فهذا مختصرٌ في الفقهِ، مِن مُقنعِ الإمامِ الموفَّقِ أبي محمَّدٍ، على قولٍ واحدٍ، وهو الراجحُ)
يبين في هذا أصل هذا الكتاب، أصله هو كتاب "المقنع" للموفق ابن قدامه -رحمه الله-، فزاد المستقنع مختصر من كتاب الموفق، فهذا مختصر في الفقه، بالمفهوم الفقه الاصطلاحي الخاص، كما تقدم في الفقه، من كتاب "المقنع" للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله.
(على قولٍ واحدٍ)
قلت لكم: إن "المقنع" جرى فيه الموفق على ذكر روايتين، في كثير من المواضع، وأما المؤلف هنا، فهو يبين أنه بنى مختصره على قول واحد، لا يذكر فيه روايتين عن أحمد، إنما يذكر فيه قولاً واحد، يقول: "على قولٍ واحدٍ، وهو الراجحُ في مذهب أحمد".
قلت لكم إنه لا يلزم أن يكون ما ذكره هو الراجح دليلاً، لكن في الغالب أنه هو الراجح في مذهب الإمام أحمد، عند المتأخرين، وهو الراجح في مذهب أحمد، والإمام أحمد هو إمام أهل السنة، أحد الأئمة الأربعة، المتبوعين، الذين جعل الله لهم لسان صدق في الأمة، الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، العلم الإمام، الذي ثبته الله في المحنة، ونصر به السنة، وهو من رواة الحديث المكثرين، ومن فقهاء الحديث.
فالإمام أحمد جامع بين الرواية والدراية في الحديث، ففي الرواية له المسند الكبير، الذي ليس فيما صنف وخرج في الحديث مثله، فقد حوى ما يقرب من أربعين ألف حديث، وهو في الدراية من هو!، فقد أُخذ عنه أقوالاً كثيرة، وروايات كثيرة، من فتاويه في المسائل التي سئل عنها، وتلاميذه الكثيرون، سألوه مسائل كثيرة، ودونوها، وحفظوها، ونُقلت لمن بعدهم.
وله -رحمه الله- اجتهادات، فتكون له في المسألة الروايتان، والثلاث، والأربع، بناءاً على تغير الاجتهاد، وتبين بعض الأدلة، وهكذا ينبغي للعالم أن لا يلزم قولاً واحداً، لا ينتقل عنه مع ظهور ما يدل على خلافه، بل عليه أن ينتقل عملاً بالدليل، فيدور مع الدليل.
ولهذا العالم يتغير اجتهاده، فيتبين له اليوم رأي، وفي اليوم الآخر يتغير اجتهاده، وهذا أمر موروث عن الصحابة، والتابعين، وهكذا من بعدهم.
(وهو الراجحُ في مذهبِ أحمد)
قلت لكم، أنه لا يعني أنه الراجح دليلاً، لا يلزم أن يكون هو الراجح دليلاً، وسيتبين هذا في مسائل كثيرة كثيرة.
(ربَّما حذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ، وزدتُ ما على مثله يُعتمَدُ)
يقول أنه أيضاً -في هذه الجمل- بيان لمنهج المؤلف، في هذا المختصر، أولاً أنه مختصر من المقنع، ثانياً يقول أنه "ربما حذفت منه، -أي من مسائل المقنع- مسائل نادرة الوقوع"، فإذا كانت المسائل نادرة الوقوع، فحذفها أولى، "وزدت ما على مثله يعتمد" إذن عوض حذف مسائل، يرى أنها نادرة، وعوض مسائل، يرى أنها كثيرة الوقوع في نظره، والله أعلم.
(إذ الهممُ قد قصرتْ، والأسبابُ المثبِّطةُ عَن نيلِ المرادِ كثُرتْ)
ويعلل لاختصاره بأن همم الطالبين قد قصرت، والأسباب المثبطة عن تحصيل العلم قد كثرت، فحصلت العوائق، وضعفت الهمم، فهذا هو الحامل له على جنوحه إلى الاختصار، وإيجاد هذا المختصر، وهذا من تيسير الله فأهل العلم ألفوا المؤلفات المطولة، الموسعة، واختصروا، وهكذا حتى كل ينتفع بما يلائم حاله، ويناسب حاله.
ثم هذا –أيضا- يعين على التدرج في العلم، فيبتدئ طالب العلم بحفظ ودراسة بعض المختصرات، ثم ينتقل إلى ما بعده، ثم ينتقل إلى ما بعده، حتى يتأهل إلى القراءة الموسعة، والقراءة في الكتب المبسوطة.
(ومع صغرِ حجمهِ حوى ما يُغني عن التطويلِ، ولا حولَ ولا قوَّة إلّا باللهِ، وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل)
وهذا يعني -في نظري- يثني على كتابه، وهو حقيق بما ذكر، أنه قد حوى علماً كثيراً، وحوى ما يغني عن التطويل، يغني كثيرين عن التطويل، فلو ألم الواحد من طلاب العلم ألم بزاد المستقنع، وألم بمسائله، ودرسها دراسة واعية، ونظر في مآخذ هذه المسائل، بأن عرف أدلتها، ومآخذها، لقد نال حظاً كبيراً من العلم، وكثيراً، ولا يفوته إلا المسائل النادرة أيضاً.
انتهت المقدمة، والحمد لله رب العالمين.
الأسئلة:
س1: بعض من يعمل في المذابح يسأل عن حكم دم البهائم، الذي يصيب بدنه وثيابه، وكذلك عن حكم الصلاة ولما يغسل الدم عنه؟
ج: أما الدم السائل من الذبيحة عند ذبحها، واسمه المسفوح: {أوْ دَمًا مَّسْفُوحًا}(الأنعام:145) فهذا نجس، يجب أن يتطهر منه، إلا أن يكون يسيراً، نقط بسيطة، أما الدم الذي يكون في العروق من اللحم فهذا يعفى عنه.
وعلى من يمتهن مهنة الجزارة، أن يجعل له ثيابا، بحيث إذا حضرت الصلاة يخلع ثياب الشغل، ويلبس الثياب الطيبة، حتى يقف بين يدي الله، في حالة حسنة، ومظهر جميل، {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}(الأعراف:٣١)
س2: ما معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- (أقرؤهم) في الحديث المعروف في تقديم القارئ للإمامة، وهل يتقدم المجود قليل الحفظ، أم الحافظ الذي يلحن ان قدما جميعاً؟
ج: المقصود "الأقرأ" يحتمل أن يكون الأكثر حفظاً للقرآن، ويحتمل أن يكون الأجود، والذي يظهر أن المراد به: الأكثر قرآناً، لكن مع القدر المجزئ من الجودة، أما مَن يلحن: فلا، مَن يكون أكثر قرآناً مع القدر اللازم من الجودة.
س3: امرأة تعاني ضغوطاً من أهلها، فتركت الصلاة والحجاب، فعلى قول من يقول بكفر تارك الصلاة أيجب عليها إن أرادت أن تتوب أن تغتسل غسلاً للإسلام ؟
ج: لا؛ نسأل الله أن يهديها، وهذا ليس بضروري، وما هذا "إن أرادت"؟!، انصحوها وانصحوا أهلها، إن كان منهم تسبب في هذا الأمر، والأمر سهل، والمهم إذا عادت للصلاة فلا يجب عليها غسل أبداً، المهم أن تصلي، نسأل الله أن يردها للصواب، وأن يصلحنا وإياها.
س4: رجل وامرأة يعيشان سوية في بلاد الكفر، وقد تكررت منهما الفاحشة، ثم أرادا أن يتزوجا ببعضهما فهل يجوز؟
ج: أي، يجوز، هو زان، وهي زانية، ولكن ينبغي أن يتوبا، ويجعلا الحياة الزوجية حياة طهر وندم على ما فات، ولكن التوبة مطلوبة، والمسألة ليست مسألة زواج فقط، فعليهما التوبة، وأن يتوبا إلى الله، يستقبلان حياة الطهر، والعفة، وحياة الخير، والاستقامة، والله يتوب على من تاب.
س5: ما رأي فضيلتكم في من أتخذ طريقة في تعلم تفسير القرآن، يقرأ عشر آيات، ويقرأ في تفسير كتب التفسير المتوفرة لديه، ولا يتعداها حتى يتعلمها، وهل هذه الطريقة مثل طريقة السلف؟
ج: تشبهها، لكن لا ينبغي أن يطول، يتقصد، فكتب التفسير فيها تشعبات ولغويات -لا- يقرأ تفسيرا ميسرا، مثل تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي، لأنه تفسير قريب، وسهل.
ولكن كتب التفسير الأخرى يكون فيها نقول، ويكون فيها تحليل كلمات، وهذه مبتدأ، وخبر، أشياء يدخلوها فيها، يعني أدخلوا العلوم في التفسير، تفسير السعدي من أجمل ما يكون، كذلك تفسير ابن كثير إذ اقصر عليهما في هذه الطريقة فقد أحسن.