بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهداه، نختار في هذه الليلة الحديث عن سورة "الحجرات" سُمِّيَتْ سورة الحجرات لذكر الحجرات: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}[الحجرات:4]، فالسّور تُسمَّى لبعض ما جاء فيها مِن بعض الكلمات أو القصة.
وهذه السّورة موجَّهة للمؤمنين، يعني موجَّهة بالدرجة الأولى للمؤمنين، وإذا قيل: "المؤمنين" فإنّه يشمل الرّجال والنساء، فإذا قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فهذا خطاب للمؤمنين والمؤمنات، خطاب للمؤمنين والمؤمنات، كلُّهم يدخلون في هذا الوصف "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا"؛ وقال: جاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا سمعتَ الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فارعَها سمعَك" يعني انصتْ، خطاب من ربِّ العالمين، لا إله إلا الله، لو نستشعر هذا الأمر على حقيقته لكان له الأثر العظيم على القلوب، لكن نسأل الله أن يمنَّ علينا بصلاح قلوبنا.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا" يقول أهل العلم: إنّ هذا فيه تكريم، تكريم للمؤمنين أن ربَّ العالمين يوجِّه إليهم النداء، ويوجِّه إليهم الخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} هذا في مضمونه: يا عبادي، يا عبادي الذين آمنوا، خطاب للجميع للرجال والنساء.
وقد تضمَّنت هذه السورة يعني بعدَّة آيات صُدِّرَتْ بهذا الخطاب؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، خمس مرَّات، خمس مرَّات، أوَّلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الحجرات:1].
فهذا فيه خطاب تضمَّن وصيتين، وصية {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} يعني: لا تتسرَّعوا في الحكم والقول والفتوى قبل أن تعلموا وتسمعوا ما قال الله ورسوله، معنى ذلك أنّ ما قال الله ورسوله مُقدَّمٌ على قول كلِّ أحد، فلا يجوز لأحدٍ أنْ يقول، أنْ يعارض حكم الله وحكم رسوله برأي فلان أو رأي فلان، لا، لا، الحكم لله ورسوله، ولا قول لأحدٍ مع قول الله ورسوله.
"لَا تُقَدِّمُوا" -لا تتقدَّموا بحكمٍ أو رأي- "بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" يعني أن تتقدَّموا بين يدي الله ورسوله على حكم الله ورسوله، وأتبع ذلك بالوصية الجامعة العامَّة "وَاتَّقُوا اللَّهَ" هذه الوصية وصية جامعة عامَّة، جامعة من جهة أنها تتضمَّن كلَّ، يعني تتضمَّن الوصية بفعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، اتَّقُوا اللَّهَ، خافوا الله، راقبوا الله "إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ": يسمع أقوالكم، ويسمع ويرى أعمالكم، لا إله إلا الله، سَمِيعٌ عَلِيمٌ، كلُّنا نؤمن بأن الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ، لكن ليس كلُّنا يستحضر هذا الإيمان في قلبه، ولهذا يتكلم الإنسان بالفضول ويتكلَّم بالإثم ويتكلم، والله يسمعه ويفكِّر و.. بأفكار سيِّئة، ويهمُّ بأمورٍ مخالفةٍ، والله مطَّلعٌ على ما في نفسك أيُّها العبد، إنَّ اللهَ عليمٌ بذاتِ الصدورِ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}[البقرة:235]. هذا هو الخطاب الأوَّل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2].
"آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ": يعني هذا يتضمَّنُ الأدب مع الرسول في حياته، ألَّا يرفعَ أحدٌ الصوت عنده، ولا سيَّما إذا كان يتكلم وإذا كان يتحدَّث أو يخطب، "لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ": هذا أدبٌ، "وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ"، {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ …كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}[النور:63]، يعني: إذا نادوا الرسول، ما يروح يناديه بصوت عالي، ولا يناديه -أيضاً- ما كانوا يدعون الرسول باسمه، ما كانوا ينادونه، يعني هذا يقتضي أنَّهم لا ينادونه، يقولون: يا محمَّد، هذا يفعله الجهلة والأعراب الجهَّال الذين يعني حديثو عهدٍ بالإسلام أو لم يسلموا، سبحان الله لا، يا رسول الله، الصحابة -رضوان الله عليهم-، اقرؤوا الأحاديث كلَّها، لا يقول أحدٌ للنبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- إذا أراد يخاطبه، إلّا يقول: يا رسول الله، يا نبي الله، يدعوه، وهذا الخطاب يتضمَّن الإقرار، ولهذا يعني أفضل ما نذكر به الرّسول أنّه هو رسول الله، قال رسول الله، قال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.
"لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" وقالَ العلماءُ: أيضاً يلتحقُ بهذا رفعُ الصوتِ يعني عند ذكر الحديث، إذا كان أحدٌ مِن أهل العلم يحدِّثُ ويقرأ حديث الرسول فإنّه مِن الأدب ألَّا يرفعَ أحدٌ الصوتَ عنده؛ لأنّ هذا مِن رفع الصّوت عند النبيِّ؛ لأنّ هذا العالم وهذا الراوي يحدِّثُ بأقوال الرّسول -عليه الصّلاة والسّلام- فيجب الأدب عنده، وأعظم مِن ذلك وأولى مِن ذلك: القرآن، فإذا كنت عند قارئه فلا ترفع صوتك، من جهتين: مِن جهة أنّه رفع الصّوت على أفضل الكلام، وشيء ثاني أنّ فيه تشويش على القارئ.
"لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ"، معنى هذا: إنّ الجهر في خطاب النبيِّ يعني مِن أسباب حبوط العمل، لأن الجهر ورفع الصوت عليه فيه نوع استخفاف به.
وهذا أدبٌ معقول، يعني حتَّى العظماء لا يسمحون لأحدٍ أن يسيءَ الأدب، يسيء الأدب رفع الصوت، فهذا معقولٌ في في حقِّ غير الرسول، ومشروع وواجب وفرض في شأن الرسول -عليه الصّلاة والسّلام-.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} يغضُّونها: يخفضون أصواتهم عند الرسول أدبًا واحترامًا له عليه الصّلاة والسّلام، {يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}[الحجرات:3]، هذا جزاؤهم، يدلُّ على تقوى في قلوبهم، يدلُّ على وجود تقوىً في القلوب، والتقوى أصلها في القلب، التقوى هاهنا، ثم أنكر على الذين، على بعض الجهَّال الذين جاؤوا يريدون أن يتكلَّموا مع الرّسول، فصاروا وهم وراء الأبواب ينادون: يا محمّد يا محمّد، هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[الحجرات:4]، هذا التصرُّفُ نقصٌ في عقولهم وفي دينهم {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}[الحجرات:5]، لو صبروا دون أن ينادوا، وهذا أيضاً يعني أيضاً من الأدب المعتاد المعقول في العادات، تأتي عند باب صاحبٍ لك تنادي: يا فلان، يا فلان، لا، يعني اطرق الباب بأدب وانتظر أن يُؤذَنَ لك، أمّا أن تنادي بصراخ، وتنادي باسمه: يا فلان يا فلان، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"
هذا أيضاً مِن كرم الربِّ تعالى أنه وعدهم بالغفران؛ لأن ذلك وقع منهم عن جهلٍ، فيه نداء الثالث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات:6]، إذا جاء الخبر، إذا كان الآتي بالخبر عدلاً أمينًا معروفًا بالصّدقِ: فإنّه يجب اعتبار قوله والعمل بموجبه تصديقه، والعمل بموجبه، ويدخل في ذلك الشّهادات، الشهود في القضايا والحكومات إذا كان الشاهد عدلاً أمينًا لا جرح فيه، في دينه ولا في عقله، فإنّه يجب اعتبار شهادته والعمل بموجبها.
لكن إذا كان المخبر والشاهد -مثلاً- فاسقًا في دينه، فإنّه لا يجوز العمل بشهادته ولا التّصديق لخبره، لكن الواجب التثبُّت؛ لأنّه قد يصدق الكذوب، قد يصدق الكاذب، يمكن هذا الفاسق أن خبره صحيح، لكننا لا نعتبره ولا نعمل به، لكن نتثبَّت فإذا علمنا صحَّة قوله عملنا بموجبه لا بموجب شهادته ولا خبره، لكن بعدما ثبت عندنا بعد التحرِّي، "إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" تَبَيَّنُوا: معناها تثبَّتوا.
واحد أخبرك عن.. يقول لك: "في كيت وكيت وكيت"، هذا نفس هذا الذي يروي لك ما يسوْءُكَ ويجرح صاحبك هذا هو نفسه، هذا التدبير وهذا التصرُّف هو قادحٌ في عدالته؛ لأنه أصبح نمَّامًا، لكن ثم هذا فيما إذا كان فيه جرح لصاحب لا .. أعرضْ عنه، أعرض عنه.
{فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ*وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:6-7].
وهذا فضل ومنَّة على العبد أن يوفِّقه للإيمان ويحبِّب إلى قلبه، يحبِّب الإيمان في قلبه ويزيِّنه في قلبه، ويكرِّهُ إليه الكفر والفسوق، ولهذا من أحسن الدعاء أن تسأل الله ذلك، أن تسأل الله ذلك، اللَّهم حبِّبْ إليَّ الإيمان زيِّنْه في قلبي، وكرِّهْ إليَّ الكفر والفسوق والعصيان، واجعلني من الراشدين، فضلاً من الله ونعمةً، والله عليمٌ حكيمٌ.
ثم ذكر الله ما يجب على المؤمنين فيما بينهم إذا حصل بينهم اختلافٌ أو شقاق أو فوق ذلك قتال، إن عليهم أن يسعوا بالإصلاح وكفّ الشرّ وإطفاء الفتنة {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}[الحجرات:9]، إلى آخر الآية.
ثم النداء الرابع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ}[الحجرات:11]، السخرية: التنقُّص والاستهزاء، لا يسخر بعضكم ببعضٍ، وهذا من سوء من سوء المعاملة بين المؤمنين، السخريةُ حرامٌ، السخريةُ تتضمَّنُ الاحتقارَ، السخريةُ تتضمَّنُ الاحتقارَ، واحتقار المؤمن لأخيه حرامٌ، في الحديث الصحيح: (بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ).
وهذا أيضاً من جوانب الكبر، احتقار الغير، هذا من معاني الكبر، وهو غمط الناس، وفي هذا الموضع ينصُّ على الجميع، ينصُّ على الجنسين -الرجال والنساء-، "لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ" القوم: هم الرجال، لا يسخر أحدٌ من الرجال بإخوانه، "عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ": لعلَّ هذا الذي تسخر به خيرٌ منك، وما يدريك خيرٌ منك عند الله، وهكذا يتوجَّه هذا المعنى إلى النساء، النساء خصَّهنَ بالذكر لمسيس الحاجة إلى ذلك كما خصَّهنَّ بالذكر في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[النور:30-31]، هذا لتأكيد، ولم يُكتَفَ بتوجيه الوصيَّة باسم الذين آمنوا فقط لا، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا": خطاب للرجال والنساء، {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ}[الحجرات:11]، يعني: ولا تسخر نساءٌ من نساءٍ من أخواتهنَّ، "وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ"، عسى تلك المرأة التي تسخرين منها أو تسخر منها النساء، ربَّما تكون خيرًا مِن الساخرة، ربَّما تكون خيرًا مِن هذه التي تسخر منها.
{عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}[الحجرات:11]، نهيٌ عن اللمز والهمز؛ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1].
والنداء الخامس أو الخطاب الخامس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}[الحجرات:12]؛ هذا فيه نهي عن الظنون الكاذبة التي لا أصل لها ولا مستند لها، ما هي إلَّا من وحي الشيطان ووساوسه، سوء الظنّ بالمسلمين، "اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ" أكثر الظنِّ، كلُّه من وساوس الشيطان؛ ليفسد القلوب ويفسد الصلات والعلاقات بين الأحبَّة والأقارب وبين المسلمين عمومًا وخصوصًا، {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا}[الحجرات:12].
كذلك التجسُّس وتتبُّع العورات وتتبُّع الأمور المستورة، لا يجوز للإنسان أن يتجسس ويفتش ويسأل عمّا لا شأن له به، مِن حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه، لا يتجسس لا بسمعه ولا ببصره ولا بسؤاله ما الذي صار؟ وماذا فعل فلان؟ وماذا سوَّى فلان؟ لا، "وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ".
هذه الوصيَّة الأخيرة الخطيرة النهي عن الغيبة، الغيبة التي لا يكاد أحدٌ يسلم منها، لكن على كلِّ مسلمٍ وسلمةٍ أن يحذرها كلَّ الحذر، إنها مصيبةٌ عظيمةٌ وذنبٌ عظيمٌ جاء فيها الوعيد الشديد، وجاء فيها هذا التكريه والتقبيح: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}[الحجرات:12]، شبَّه الغائب بالميِّت، وشبَّه المغتاب بمن يأكله، شبَّه الغائب بالميِّت، وشبَّه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه وهو ميِّت، {فَكَرِهْتُمُوهُ} هذا أمرٌ مكروهٌ بالطبع، أكلُ الميِّتِ كريهٌ بالطبع، فيجب أن يكره الإنسان الغيبة أشدَّ من كراهته لأكل لحم الميِّت {فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:12].
فالحذر الحذر يا إخوان ويا أخوات، الحذر الحذر من الغيبة، وما الغيبة؟ الغيبة فسَّرها الصّادق المصدوق، قال -عليه الصّلاة والسّلام-: (إيَّاكم والغيبةَ)، إياكم: يعني احذروا الغيبة، قال: وما الغيبة يا رسول الله؟ قال: (ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ)، خلاص عبارة قصيرة صغيرة كافية شافية لأن نعرف ما الغيبة.
والله إنّ هذا لأمرٌ عجبٌ، تدبَّروا حالكم، تدبَّروا، المجالس أثر المجالس لا تخلو مِن الغيبة أبداً، لكن مستقلٌّ ومستكثرٌ، "ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ"، إما تذكره بأفعاله التي لا شأن لك بذكرها، وهو يكره أن تذكره بها، أو تذكره ببعض صفاته الخلقيَّة، والله كذا، حتى لو قال: إن فلان قصير قزم والله قزم، أو فلانة قصيرة، في حديث أن إحدى النساء قالت: "حسبك من فلانة أنها قصيرة"، قال لها -عليه الصّلاة والسّلام-: (لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماءِ البحرِ لمزجَتْهُ)، ماذا قالت!؟ قالت: إنها قصيرة! سبحان الله! هكذا يقول الناس: والله فلان قزم، فلان يعني كيت وكيت، يصف إن وجهه، أو طوله، أو قصره، أو تصرُّفاته، أو كلامه.
"ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ"؛ ولا يبيح ذلك أنك تقول: أنا أقدر أتكلم بهذا قدامه، هذا يقوله بعض الناس، يقول: أن أقدر أتكلم، ولو كان، تقدر تقول لي: أنك لا تخاف ولا تبالي به، وهذا لا يجوز لك، لا يجوز لك أن تغضب أخاك وتسيءَ إليه لا غائباً ولا حاضراً، بغير حقٍّ، لا يجوز أن تسيء إلى أخيك ولا أن تذكره بما يكره لا حاضرًا ولا غائبًا، وأقبح ما يكون أن تذكره وهو غائب.
ثم الله يعرض التوبة علينا جميعًا؛ {فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما نهاكم الله عنه، وبفعل ما أمركم به {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وفي ضمن ذلك فتوبوا، اتقوا الله وتوبوا إليه ممَّا وقع منكم من هذه الأمور، "وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ".
ثم يأتي خطاب عامٌّ لجميع الناس، يتضمَّن ما تقدَّم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13]، وهذا الخطاب يرجع مضمونه إلى النهي عن السّخرية وعن الاحتقار، فالجميع كلُّهم مخلوقون مِن أصل واحد من ذكرٍ وأنثى، ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى كما قاله -عليه الصّلاة والسّلام-، والله تعالى قاله وبيَّنه في قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13]، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيّنا.