الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه، سورةٌ في القرآن حِفظُها فرضٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ، ألا وهي سورةُ "الفاتحة"؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، هذه يجبُ حفظُها على كلِّ مكلَّفٍ؛ لأنَّها ركنٌ في الصّلاةِ، في كلِّ ركعةٍ، ركنٌ في كلِّ ركعةٍ مِن الصّلاة، كما صحَّ عن النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قولُه: (لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ)، وهذا يتضمَّنُ أنَّها أفضلُ سورةٍ، هي أفضلُ من جميع سور القرآن، وقد جاء في الآثار: أنَّه ما أُنزِلَ في التّوراة والإنجيل والقرآن أفضلُ منها.
ومِن فضل الله أنَّ اللهَ يسَّرها، سبع آيات قصيرة، سبع آيات، وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ} -امتنانٌ من الله على النبيِّ- {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}[الحجر:87]، جاء في التفسير أنَّها سورة الفاتحة، هي السبع المثاني والقرآن العظيم، سبع آيات أوَّلُها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذه الآية تضمَّنَتْ اسمين من أسماء الله: "الله" الّذي معناه الإله المعبود ذو الألوهيَّة، "الله" هذا هو الاسم الجامع لجميع معاني أسماء الله وصفاته، وكذلك "ربّ العالمين"، "ربّ العالمين" هذا اسمٌ من أسماء الله، تدعو تقول: يا ربَّ العالمين، يا الله، يا ربَّ العالمين، وتذكر حاجتك، يا ربَّ العالمين أصلحْ قلبي، يا ربَّ العالمين يسِّرْ أمري، يا ربَّ العالمين أصلحْ لي في ذُريَّتي، يا حي يا قيوم.
"ربُّ العالمين" يعني: خالق جميع المخلوقات، ومالكُ جميع المخلوقات، والمنعم لجميع النعم، والمدبِّر للأمر كلِّه، هذا من معاني هذا الاسم "ربّ العالمين"، ففيه معنى التربية والإنعام، "ربّ العالمين".
وفي الآية الثانية ذكرُ اسمين من أسماءِ اللهِ وهما: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وتقدَّم ذكرُ بعضِ ما يتعلَّق باسمه "الرحمن"، وأنّه ذو الرحمة الواسعة العامة، وهو -سبحانه وتعالى- ذو الرحمة التي هي من صفات ذاته، و"الرحيم" كذلك يتضمَّنُ صفة الرحمة، التي يرحم بها تعالى مَن شاء من عباده، وأحقّهم وأخصُّهم، أخصُّ الناسِ وأحقُّهم برحمة الله: المؤمنون، المؤمنون، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43]، وهو رحيمٌ بالناس كلِّهم، ولكن المؤمنون هم أخصُّ الناس وأحقُّهم وأحظُّهم نصيبًا وأعظمُهم نصيبًا من رحمة الله.
الآية الثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وفي قراءة: {مَلِكِ}، بل قراءة أكثر القارئين: "مَلِكِ"، {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ومعناهما متقاربٌ، فهو المالكُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وهو الملكُ في ذلك اليوم، والدين: هو الجزاء، ويوم الدين: هو يوم القيامة، يوم القيامة هو يوم الجزاء، يوم البعث ويوم الحساب، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يوم عظيم، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ*يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:17-19]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.
الآية الرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، هذه الآية الرابعة واشتملت على جملتين، الجملة الأولى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومعناها: التوحيد، معناها: لا نعبد غيرك، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لا سواك، يعني معناها: لا نعبدُ إلَّا إياك، لا نعبدُ إلَّا إياك، إذاً فهي دالَّةٌ على معنى: "لا إله إلَّا الله"، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي دالَّةٌ على معنى: "لا إله إلَّا الله"؛ لأن معنى "لا إله إلّا الله": لا معبود بحقٍّ إلَّا الله، كلُّ معبودٍ سوى الله باطلٌ، مِن الأحياء والأموات، مِن الملائكة والإنس والجنّ والشّجر والحجر وكلّ معبود، كلُّ ما يعبده المشركون فإنَّه معبودٌ بالباطل، والله تعالى هو المعبود الحقُّ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فالله علَّمَنا أن نقولَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كذلك لا نستعينُ سواك، يقول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في وصيته لابن عبَّاسٍ: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعني: لا نستعينُ غيرك، لا نستعين إلَّا أنت، لا نستعينُ إلَّا إيَّاك، قال أهلُ العلم: هذه الجملة تدلُّ على توحيد الرّبوبيَّة؛ لأنَّ الاستعانة إنَّما تكون بالمالك القادر على كلِّ شيءٍ، الذي بيده أزمَّةُ الأمورِ، بيده الخير وبيده الملك، أمَّا مَن لا يملك شيئًا: لا يُستعانُ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذه الآية الرابعة.
الآية الخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، وهذا دعاء علَّمَنا اللهُ إيَّاه ندعوه بكلِّ ركعة {اهْدِنَا}، نسأل الله الهداية إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي تضمَّنَه ودلَّ عليه القرآن ودلَّت عليه السنَّة، {اهْدِنَا} توجُّهٌ إلى الله بطلب الهداية، في الحديث القدسيّ: (يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلَّا مَن هديْتُهُ، فاستهدوني)، استهدوني: يعني اطلبوا منِّي الهدايةَ، استهدوني، فالمؤمن إذا قال: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ": هو يستهدي ربَّهُ، يستهدي، يطلب مِن ربِّه الهداية، والهداية إلى الصّراط: معناها الدلالة والإرشاد، يعني: دُلَّني وعلِّمني وبيِّنْ لي وأرشدني إلى صراطك المستقيم، ومن معناها: وفِّقْني وسدِّدني وأعنِّي، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صراط مستقيم، قال الله في الآية الأخرى التي فيها التفصيل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}[الأنعام:153]، "هذا": إشارة إلى دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وبعث به خاتمهم محمَّدًا -صلَّى الله عليه وسلَّم-، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}[الأنعام:153]، السّبل الأخرى: هي سبيل المغضوب عليهم والضّالِّين وأشباههم.
هذا الصراطُ صراطُ المنعَمِ عليهم، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، الصراط المستقيم: يعني الطّريق المستقيم الواضح السّهل الميسَّر، وهو صراط المُنعَم عليهم، هو صراطُ عبادِ الله المُنعَمِ عليهم، هو طريقُ المُنعَمِ عليهم، مَن هم المنعَمِ عليهم؟ الأنبياءُ والصدِّيقون والشّهداءُ والصّالحون، كما في سورة النساء الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء:69]، هؤلاء هم، آيةُ النّساء تفسِّرُ هذه الآية مِن سورة الفاتحة، هذه هي الآية السادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} يعني: غير طريق، اهدِنا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، لا طريق الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، والمغضوب عليهم: جاء في الحديث: أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود الَّذين عرفوا الحقَّ ولم يتَّبعوه، بل عاندوا واستكبروا عن قبوله وعن اتِّباع الرّسول، والضّالّون: هم النّصارى الذين يعني لهم عبادات ولهم أعمال يعملونها يتعبَّدون بها، منهم الرُّهبان، وممَّا ابتدعوه "الرّهبانيَّة"، ولكنَّهم على غير هدىً، فكانوا بذلك ضالِّين، لا يعرفون الحقَّ، فهم يعبدون الله على غير بصيرةٍ وعلى غير علمٍ.
فيجبُ الحذرُ مِن التّشبُّه باليهود والنّصارى، فعلى العبد أن يعرف الحقَّ، والمنعَمِ عليهم هم الذين عرفوا الحقَّ واتَّبعوه، عرفوا الحقَّ وعملوا به، فالسعادة والنعمة إنَّما تتمُّ بحصول هاتين النعمتين -العلم والعمل-، العلم والعمل، فصار الناس في هذه السورة ثلاثة أصنافٍ: المُنعَم عليهم، المغضوب عليهم، الضالّون، وهذه الأصناف أعماهم وأحوالهم وعواقبهم ومنهاهم مُفصَّلٌ في القرآن، في القرآن تفصيلٌ لما أُجمِلَ في هذه الآيات، وفي هذه الآية الأخيرة الآية السابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
فتدبَّروها، على المسلم أن يتدبَّرها، إذا قال: "اهْدِنَا" يتذكَّر ويستحضر ضرورته إلى هداية الله، العبد في ضرورةٍ إلى هداية الله، ينبغي أن يكثر مِن سؤال الله الهداية في الصّلاة وفي خارج الصّلاة، في الصّلاة في قراءة الفاتحة وفي سجوده يسأل ربَّه الهداية، اللَّهم اهدني الصراط المستقيم، اللهم اهدني، في سجوده، ادعُ ربَّك في السّجود، ولكن مِن طبع الإنسان إذا الشّيء صار يتكرَّر على باله وعلى سمعه يعني لا يكون عنده كثير اهتمام، يتكرَّر يعني عادي عنده، لكن ينبغي للإنسان أن يتذكَّر هذه المعاني، ويدفع كلَّ ما يشوِّشُ عليه ويشغله في صلاته ويصرفه عن تدبُّر ما يقول وما يقرأ، عن تدبُّر ما يقول مِن ذكر الله، وتدبُّر ما يقرأه مِن سورة الفاتحة وغيرها.
وممَّا يتعلَّقُ بهذه السورة، يعني ينبغي التنبيه عليه: أنَّها هي أفضلُ رُقيةٍ، الرقية رقية المريض أفضل ما يُرقَى به المريض هي سورة الفاتحة، فتُسمَّى الشّافية، فيها تُقرَاُ الآيات آيةً آيةً، ويُنفَثُ على المريض، هذا أفضلُ ما يُقرَأُ، فإذا الإنسان اشتكى، مع السّور الأخرى مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، والمعوذتَينِ، لكن سورة الفاتحة هي أفضل ما يُرقَى به المريضُ، فتكون الرُّقية إذاً بالفاتحة وبهذه السور: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، كان النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ينفثُ بهما في يديه إذا اشتكى ويمسحُ ما استطاعَ مِن بدنه.