الرئيسية/الكلمات العامة/تأملات تدبرية من سورة النساء
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

تأملات تدبرية من سورة النساء

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
 
تأملات تدبريّة من سورة "النساء"

 
الحمد لله، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه، نتدبَّر اليوم بعض الآيات من إحدى السور الطوال، وهي السورة الثالثة سورة النساء، وأوَّل آيةٍ فيها خطاب لجميع الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء:1]، هذا خطاب من ربِّ العالمين لجميع الناس، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، هذه وصيَّةٌ، وصية من الله لكلِّ الناس الأوَّلين والآخرين، والله تعالى يوصي بها العباد جميعًا عمومًا وخصوصاً؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]؛ وصية، فلابدَّ من فهم هذا المعنى الذي يُسمَّى في القرآن: {اتَّقُوا اللَّهَ} يعني: راقبوا الله، وخافوا الله، باتِّخاذ ما يقيكم عذاب الله، ولهذا قال العلماء: تقوى الله هي امتثال الأوامر، أي: فعل المأمورات وترك المنهيات، هذه هي الوقاية، ما الذي يقي العبد من عذاب الله ومن سخط الله ومن أسباب الشقاء؟ إنَّ ما يقيه هو طاعة الله وطاعة رسوله، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله.
{اتَّقُوا اللَّهَ}، اتَّقُوا ربَّكم، ثمَّ قوله: {ربَّكم}، {ربَّكم} هذا فيه تذكير بالسبب الذي -عقلاً- الذي يُوجب، يوجب تقواه فإنَّه الربُّ -سبحانه وتعالى- المالك المدبِّر المتصرِّف القادر على كلِّ شيءٍ، اتَّقُوا ربَّكم، فتقوى العبد لربِّه، تقوى العبد لربِّه يقتضيها أمران: النعم، فيتقي العبد ربَّه شكراً لنعمه، ويقتضيها أيضاً خوف عذابه فإنَّ الله شديدُ العقابِ وسريع العقاب وأليم العذاب؛ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25-26]
إذا آمن العبد بأنَّ الله هذا شأنه وهذه صفته، فإنَّه يجب له أن يراقبه وأن يخافه، أن يخاف الله أن يراقبه، أن يأخذ بالأسباب الواقية من عذاب الله ومن سخط الله، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}

ثمَّ يُذكِّرُ سبحانه وتعالى بمناسبة أن الخطاب عامٌّ بجميع الناس، يُذكِّرُ بأصل البشريَّة، أصل البشرية هو آدم، وهو نفسٌ واحدةٌ واحدة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]
جميع الناس الأولين والآخرين كلّهم أصلهم واحد، مثل النبتة التي تفرَّعَتْ وتوسَّعت وانتشرت من نفس واحدة، يعني الله يقول: {وَاحِدَةٍ}، {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، المرأة مخلوقة من الرجل، من آدم، أمُّنا الأولى، والمرأة الأولى المخلوقة من أصله، والله تعالى أنعم على آدم بأن خلق له زوجاً منه، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وهكذا أنعم على ذريَّته كذلك بأن خلق للعباد أزواجاً من أنفسهم، {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، إذاً صاروا اثنين بس، اثنين نفس الأول ثم زوجه فصارا اثنين، ومن هذين النفسين أو الاثنين انتشرت البشريَّة؛ {وَبَثَّ مِنْهُمَا}
{وَبَثَّ مِنْهُمَا}، بثَّ: هذا معناه نشرَ نشرَ {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]؛ يعني: ونساءً كثيرةً، ولم تزل البشريَّة هكذا تتنامى وتتناسل جيلاً وجيلاً وجيلاً، وتنتشر وتتَّسع، الآن البشريَّة في هذا العصر أكثر منها في العصر السابق، يعني ولهذا يسمُّونه الخبراء "النمو السكَّانيّ" ويعمل الكفَّار على الحدِّ من النمو البشريّ، ومن ذلك الأسباب التي يتَّخذونها ويوصون بها يعني التي تؤدِّي إلى تحديد النسل، وهذا ضدُّ مقتضى الشريعة، فشريعة الإسلام وشرائع الأنبياء كلُّها تدعو إلى النمو، نمو البشر، وأهل الجاهلية كان من تسويل الشيطان لهم، كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من ضائقة الرزق، يقتلون أولادهم خشية الفقر قال الله: والله يرزقهم، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31]
فالذين ينزعون إلى هذا التوجُّه وهو تحديد النسل خوفًا من الضائقة وخوفًا من المتاعب، وخوفًا من كذا، هؤلاء هم أهل الجاهليَّة الحديثة، يدعون إلى تحديد النسل، يعني يكتفي الواحد باثنين وثلاثة، لا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: (تزوَّجوا الودودَ الولودَ، فإنِّي مُكاثِرٌ بكم الأممَ يومَ القيامةِ) صلوات الله وسلامه عليه، المقصود قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ يعني: تأكيد، الوصية مؤكِّدة للتي قبلها {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في الأولى علَّقَ التقوى باسمه بصفة الربوبيَّة {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، وفي الثانية ربطها وعلَّقها بصفة الإلهيَّة، فاعبدوه، اعبدوا الله؛ لأنَّه ربُّكم، ولأنَّه إلهكم، اعبدوه، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} اتَّقُوا الذي خلقكم، اتَّقوا القادر على كلِّ شيءٍ، المنعم عليكم بجميع النعم، اتقوا الله الإله الحق الذي لا يستحق العبادة إلاه، اتقوا الله؛ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]

وكلُّ آيةٍ يعني تُختَم، أو كثير من الآيات تُختَم وتُذيَّل بذكر بعض أسمائه وتعالى، إنَّ الله كان سميعاً بصيراً، إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ، وهو عزيزٌ حكيمٌ، إنَّ اللهَ كان على كلِّ شيءٍ شهيداً، إنَّ اللهَ كانَ عليماً قديراً، هكذا، وبهذه الآية قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كلِّ شيءٍ رَقِيبًا، ثمَّ ذكر أحكاماً تتعلَّقُ بالجنس البشريِّ، ذكر يعني ما يجب من حفظ أموال اليتامى وما يجب من العدل بين النساء، وما يجب كذلك من رعاية اليتامى في دفع أموالهم إليهم، آيات كثيرة في مطلع هذه السورة.
وذكر كذلك أحكام المواريث التي سببها القرابة، سببها القرابة، ميراث الأولاد وميراث الوالدين، وكذلك للميراث أسباب من أهمِّها القرابة والزواج والنكاح، {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] الآية.
فذكر هذه الأحكام المتعلِّقة بشأن الجنس البشريِّ، حقوق بين الناس، حقوقٌ بين الناس، بين الأقارب وبين الأصهار، الأصهار التي الصلة بينهم المصاهرة والنكاح، والله جعل الإنسان، يعني الرابطة بين الجنس البشريّ الطبعيّ النسب والصهر، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54]
النسب: القرابة، والصهر: النكاح أو الحاصل بالنكاح ولزواج، ثم ذكر جملةً من أحكام النكاح، فذكر سبحانه وتعالى المُحرَّمات من النساء بالنسب والمُحرَّمات بالمصاهرة والمُحرَّمات بالرضاع، ذكر هذا في الآيات، من هذه السورة.
وفي هذه السورة آية تُسمَّى "آية الحقوق العشر"، "آية الحقوق العشر"، وهي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:36]
فالحقُّ الأول: هو حقُّ الله على عباده وهو عبادته وحده لا شريك له، هذا هو الحق الأعظم {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} والحقوق التسعة الباقية هي حقوقٌ للناس بعضهم على بعض، حق الوالدين، وحق الأقارب، وحق اليتامى، والمساكين، والجيران، وذلك بالإحسان، الإحسان الذي يقتضيه العرف وتقتضيه القربى، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} فينبغي للمسلم أن يتدبَّر مثل هذه الآية، هل قام بهذه الحقوق أم هو مقصِّرٌ؟ الأغلب على النفوس التقصير، حقُّ الوالدين أعظمُ الحقوق بعد حقِّ اللهِ، وحقِّ رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنَّ حقَّ الرسول تابعٌ لحقِّ الله، فإنَّ طاعة الرسول هي طاعةٌ لله، وفي هذه السورة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]
{وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}، حقُّ الجوار عظيمٌ، حقُّ الجوار عظيمٌ، ولكن يغلب على أكثر الناس التقصير في هذا الحقِّ، ولكن الرسول –عليه الصلاة والسلام- يعني عظَّمَ شأن الجار وحقَّ الجار، حتَّى قال: (ما زالَ جِبْرِيلُ يوصيني بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)، وقال في الحديث الصحيح: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ) وفي اللفظ الآخر: (فليُكرِمْ جارَهُ) وفي لفظٍ ثالثٍ: (فليحسنْ إلى جارِهِ).

فالإنسان يتدبَّر القرآن والسُّنَّة، ويتدبَّر نفسه، يعني هل قام بم عليه من حقوقٍ؟ هل قام بما أوجب الله عليه؟ هل اجتنب ما حرَّم الله عليه من الأقوال والأعمال؟ والوصيَّةُ الَّتي افتُتِحَتْ بها السورةُ، ذكرها الله في آيةٍ ونوَّهَ بعمومها كذلك، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فهي وصيَّة الله للأوَّلين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ثمَّ خُتِمَتْ السورة أيضاً بخطابٍ عامٍّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء:174]، فيه امتنان من الله على العالم على البشريَّة ببعثة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيه امتنانٌ من الله؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174] وهو القرآن، فهذه أعظم نعمةٍ على البشريَّة إرسال محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، أرسله الله رحمةً للعالمين، فمن آمن به واتَّبعه نال هذه الرحمة، ومن كذَّبه وأعرض عنه خسر الرحمة خسر الرحمة وباءَ بالشقوة وباء بالشقوة.
وعلى كلِّ حالٍ فنسألُ الله أن ينفعنا بكتابه، وأن يعيننا ويوفِّقنا لتدبُّره، وأن يجعله حجَّةً لنا لا حجَّةً علينا، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله.