الرئيسية/فتاوى/توجيه كلام ابن قدامة بأن محض المحبة هو الباعث على العبادة
share

توجيه كلام ابن قدامة بأن محض المحبة هو الباعث على العبادة

السؤال :

قرأتُ في كتاب "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامه ما نصّه: "متى حصلتْ محبَّةُ الله لشخصٍ صارَ قلبُه مستغرقًا بها ولا يلتفتُ إلى جنَّة، ولا يخافُ مِن نارٍ، وأنَّه قد بلغَ النَّعيمَ الذي ليس فوقه نعيمٌ" انتهى كلامه. هل ما ذكره الشَّيخ يوافقُ مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في شأن المحبَّة ؟ نفع الله بعلمكم .

 

الحمدُ الله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على مَن لا نبي بعده، أمَّا بعد :

فالمعروفُ أنَّ كتاب "مختصر منهاج القاصدين" لأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عمر بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي -رحمه الله- اختصارٌ لكتاب "منهاج القاصدين" لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله،  الذي اختصر فيه كتاب "إحياء علوم الدّين" للشيخ العَلم أبي حامد الغزالي رحمه الله، وهو المعروف بخوضه في علم الكلام والفلسفة، ودخوله في التَّصوُّف، فكتابه "الإحياء" مع ما فيه مِن الفوائد الكثيرة في فنون العلم والرَّقائق، فإنَّ عليه مآخذ فيما دوَّنه وقرَّره في الفنون التي عرضَ لها في أقسام الكتاب وأبوابه، ومِن ذلك ما رسمه ونصَره وقرَّره مِن نظريات في السّلوك والتَّصوف، ومِن أبرز هذه النَّظريات وأشهرها قولُهم في الباعث على عبادة الله، إنَّه يجبُ أن يكون محض المحبَّة لذات الله، لا خوفًا مِن ناره ولا طمعًا في جنَّته، وأنَّ هذا المقام أعلى مقامات العبوديَّة، لذلك يرون مقام الخوف ومقام الرَّجاء كلًّا منهما مقامًا ناقصًا، ويُزرون على مَن يعبدُ الله خوفًا مِن النَّار، أو طمعًا في الجنَّة، وقد نقلَ الغزالي وأمثاله مِن المصنِّفين جملة مِن أقوال الصُّوفيَّة المتضمنة لهذا المذهب.

وفي قولهم هذا حقٌّ وباطلٌ، فإنَّه لا ريب أنَّ محبَّة الله أصلٌ لتحقيق العبوديَّة، ولكن ذلك لا يوجبُ التَّهوين مِن خوف الله ورجائه، بل بذلك تكمل العبوديَّة، ولذلك أثنى الله على أنبيائه وأوليائه بجمعهم لهذه المقامات الثلاثة: الحب والخوف والرجاء، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] وقال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:58].

ومعرفةُ الله بأسمائه وصفاته توجبُ محبَّته وخوفه ورجاءه والتَّوكل عليه والاستعانة به؛ فإنَّ أسماءه تعالى وصفاته تختلفُ مقتضياتُها؛ فمَن عبدَ الله بالخوفِ فقط أو بالرَّجاء فقط أو بالمحبَّة فقط؛ فإنَّه لم يقم بموجَب أسمائه تعالى وصفاته، ولهذا قال بعضُ السَّلف: مَن عَبد الله بالحبّ وحده فهو زنديق، ومَن عَبَدَه بالرَّجاء وحده فهو مُرجئ، ومَن عَبَده بالخوف وَحده فهو حروري، ومَن عَبَده بالحبِّ والخوف والرَّجاء فَهُوَ مُؤمن موحِّدٌ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا الكلام: "وذلك لأنَّ الحبَّ المجرَّد تتبسَّط النُّفوس فيه حتى تتسعَ في أهوائها إذا لم يزعها وازعُ الخشية لله، حتى قالت اليهود والنَّصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه"، ثم قال رحمه الله: "ويوجد في مُدِّعي المحبَّة مِن مخالفة الشَّريعة ما لا يوجد في أهل الخشية، ولهذا قُرن والخشية بها في قوله:  هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ" [ق:32-34] أهـ. من التحفة العراقية (ص74).

وبعد هذا أقول: إنَّ ما وردَ في مختصر "منهاج القاصدين" لابن قدامة -رحمه الله- يحتملُ أنَّه أثبته مقررًا له وراضيًا به، ويحتمل أنَّه دخلَ عليه هذا المعنى بسبب الاختصار، فكان في جملة ما أبقاه، لا فيما حذفه، ولم يمعن النَّظر فيه، ولم يتنبه إلى ما فيه مِن المخالفة، وأيًّا كان الأمر، فإنَّ هذا الكلام غيرُ مقبول، وهو مخالفٌ للأدلّة مِن الكتاب والسُّنَّة، وهو مِن مذاهب الصوفيَّة التي لا يقبلها أهل السُّنَّة، بل أهل السُّنَّة يأمرون بكل ما شرعه الله مِن أعمال الجوارح وأعمال القلوب، مِن المحبَّة والخوف والرَّجاء والتَّوكل، والله أعلم.

نسألُ الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعمَ الله عليهم مِن النَّبيين والصّديقين والشُّهداء والصَّالحين، وحسنَ أولئك رفيقا، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد .

 

أملاه :

عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك 

في 23 صفر 1436هـ