الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الحشر/(4) من قوله تعالى {يا أيها الذين امنوا اتقوا الله} الآية 18 إلى قوله تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا} الآية 21
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(4) من قوله تعالى {يا أيها الذين امنوا اتقوا الله} الآية 18 إلى قوله تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا} الآية 21

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة  الحشر

الدَّرس: الرَّابع

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:18-21]

– الشيخ : إلى هنا، لا إله إلَّا الله.

تُختَمُ هذه السُّورةُ بتوجيهِ الخطابِ للمؤمنين بوصايا من اللهِ تعالى لهم، وأوَّلُ ذلك الوصيَّةُ العامَّةُ الجامعةُ: تقوى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} وتقوى اللهِ: هي مراقبتُه بفعلِ ما أمرَ به وتركِ ما نهى عنه، وسُمِّيَ ذلك "تقوىً"؛ لأنَّ ذلك يقي العبدَ من عذابِهِ وسخطِهِ، فالإيمانُ والعملُ الصَّالحُ وتركُ الذُّنوبِ وقايةٌ ينجو به العبدُ من خزي الدُّنيا والآخرةِ وعذابِ الدُّنيا والآخرةِ، {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، ويومَ {يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61]، ينجِّي اللهُ الَّذين آمنُوا بمفازتِهم.

{اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} أمرٌ من اللهِ ووصيَّةٌ بأنْ ينظرَ الإنسانُ فيما قدَّمَ، انظرْ ماذا قدَّمْتَ لغدِكَ، وغدٌ هو اليومُ الآخرُ يومُ الحسابِ، فلا بدَّ، فهذه وصيَّةٌ بالاستعداد لذلك اليومِ والقدومِ على ذلك اليومِ، لا إله إلَّا الله، {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ} وهذا هو الحزمُ، الحزمُ يقتضي أنْ يستعدَّ الإنسانُ للحساب والعرضِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ثمَّ يؤكِّدُ اللهُ تعالى هذه الوصيَّةَ مرَّةً أخرى في آيةٍ واحدةٍ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعني: فراقبوه هو خبيرٌ بأعمالِكم مطَّلِعٌ على أقوالِكم وأعمالِكم وسرِّكم وعلانيتِكم، خبيرٌ بما تعملونه ظاهرًا وباطنًا من الخيرِ والشَّرِّ، {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

ثمَّ يحذِّرُ تعالى المؤمنين أيضًا أنْ يسلكوا مسالكَ الكفَّارِ والمنافقين المعرِضِين عن ذكرِ اللهِ المعرِضِين عن آياتِه التَّاركِينَ لأسبابِ مرضاتِهِ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} أيُّها المؤمنون لَا تَكُونُوا كالكفَّار والمنافقين الَّذين {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عاقبَهم بأنْ أنساهم مصالحَ نفوسِهم وحظوظَهم، {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} هؤلاء هم الفاسقون الخارجون عن طاعةِ اللهِ بكفرِهم ونفاقِهم ومعاصيهم.

ثمَّ يذكرُ تعالى موازنةً بينَ السُّعداءِ والأشقياءِ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} بدهيٌّ، هذا أمرٌ معقولٌ أنَّهم لا يستويان، لا يستوي من يكونُ مصيرُهُ النَّارَ أبدَ الآبادِ ومن يكونُ مصيرُه الجنَّةَ، لا يستويان، كما لا يستوي الأعمى والبصيرُ، والسَّميعُ والأصمُّ، واللَّيلُ والنَّهارُ، والظُّلماتُ والنُّورُ، كذلك لا يستوي أهلُ الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ، {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} وأولئك الأشقياءُ أصحابُ النَّارِ هم الخاسرون الخسرانَ المبينَ.

ثمَّ ينوِّهُ تعالى بعظمةِ هذا القرآنِ وأنَّ تأثيرَهُ عظيمٌ وهو أفضلُ وأعظمُ كتابٍ أنزلَه اللهُ على رسولٍ {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} هذا مثلٌ ضربَه اللهُ للمؤمنين تنبيهًا لهم على تعظيمِ القرآنِ والإقبالِ عليه والتَّدبُّر، والعمل بأوامرِه ونواهيه، وأنَّه مؤثِّرٌ تأثيرًا عظيمًا حتَّى لو أُنزِلَ على جبلٍ لتصدَّعَ الجبلُ وخشعَ من خشيةِ اللهِ.

ثمَّ قالَ تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} هذا مثلٌ يضربُه اللهُ، ضربَ المثلَ بالجبلِ تنبيهًا على عظمةِ القرآنِ وعِظمِ تأثيرِه وما ينبغي أن يكونَ المؤمنُ عليه، أن يكون معظِّمًا للقرآنِ خاشعًا ذاكرًا، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء:107-108]

فنعوذُ بالله من قسوةِ القلوبِ، يقرأُ الإنسانُ القرآنَ ويختمُه ولا يتأثَّرُ به ولا يظهرُ عليه الخشوعُ والقُشعريرةُ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]، اللهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنَ عَافَيْتَ، وتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وانفعْنا وارفعْنا بهذا القرآنِ، واجعلْهُ حجَّةً لنا لا حجَّةً علينا.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ

– الشيخ : اللَّهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ

– القارئ : قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الآياتِ:

يأمرُ تعالى عبادَهُ المؤمنينَ بما يوجبُهُ الإيمانُ ويقتضيهِ مِن لزومِ تقواهُ، سرًّا وعلانيةً، في جميعِ الأحوالِ، وأنْ يراعوا ما أمرَهم اللهُ بهِ مِن أوامرِهِ وشرائعِهِ وحدودِهِ، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلُوا عليهِ مِن الأعمالِ الَّتي تنفعُهم أو تضرُّهم في يومِ القيامةِ، فإنَّهم إذا جعلُوا الآخرةَ نصبَ أعينِهم وقبلةَ قلوبِهم، واهتمُّوا للمقامِ بها، اجتهدُوا في كثرةِ الأعمالِ الموصِلةِ إليها، وتصفيتِها مِن القواطعِ والعوائقِ الَّتي توقفُهم عن السَّيرِ أو تعوقُهم أو تصرفُهم

– الشيخ : هذا معنى المحاسبة، محاسبةُ النَّفسِ من النَّظر فيما قدَّمَ الإنسانُ، فإنْ وجدَ خيرًا حمدَ اللهَ واستمرَّ وجاهدَ، وإنْ وجدَ تقصيرًا وتفريطًا وذنوبًا تابَ إلى اللهِ واستغفرَ ودعا ربَّه صلاحَ الحالِ، أنْ يصلحَ قلبَه وأن يعيذَه من الشَّيطانِ، هذه الغايةِ من المحاسبةِ ينظر.. مثل أصحاب المطالبِ الماليَّةِ والتِّجاراتِ يحاسبون هم أحوالهم وينظرون في حساباتهم ويراجعونها؛ ليعرفوا قدرَ الرِّبحِ والخسرانِ.

 

– القارئ : وإذا علمُوا أيضًا، أنَّ اللهَ خبيرٌ بما يعملونَ، لا تخفى عليهِ أعمالُهم، ولا تضيعُ لديهِ ولا يهملُها، أوجبَ لهم الجدَّ والاجتهادَ.

وهذهِ الآيةُ الكريمةُ أصلٌ في محاسبةِ العبدِ نفسَهُ، وأنَّهُ ينبغي لهُ أنْ يتفقَّدَها، فإنْ رأى زللًا تداركَهُ بالإقلاعِ عنهُ، والتَّوبةِ النَّصوحِ، والإعراضِ عن الأسبابِ الموصِلةِ إليهِ، وإنْ رأى نفسَهُ مقصِّرًا في أمرٍ مِن أوامرِ اللهِ، بذلَ جهدَهُ واستعانَ بربِّهِ في تتميمِهِ وتكميلِهِ وإتقانِهِ، ويُقايسُ بينَ مننِ اللهِ عليهِ وإحسانِهِ وبينَ تقصيرِهِ، فإنَّ ذلكَ يوجبُ لهُ الحياءَ بلا محالةَ.

والحرمانُ كلُّ الحرمانِ، أنْ يغفلَ العبدُ عن هذا الأمرِ، ويشابهُ قومًا نسَوا اللهَ وغفلُوا عن ذكرِهِ والقيامِ بحقِّهِ، وأقبلُوا على حظوظِ أنفسِهم وشهواتِها، فلم ينجحُوا، ولم يحصلُوا على طائلٍ، بل أنساهم اللهُ مصالحَ أنفسِهم، وأغفلَهم عن منافعِها وفوائدِها، فصارَ أمرُهم فُرُطًا، فرجعُوا بخسارةِ الدَّارَينِ، وغُبِنُوا غبنًا، لا يمكنُهم تداركُهُ، ولا يُجبَرُ كسرُهُ، لأنَّهم هم الفاسقونَ، الَّذين خرجُوا عن طاعةِ ربِّهم وأوضعُوا في معاصيهِ، فهل يستوي مَن حافظَ على تقوى اللهِ ونظرَ لِما قدَّمَ لغدِهِ، فاستحقَّ جنَّاتِ النَّعيمِ، والعيشِ السَّليمِ -معَ الَّذينَ أنعمَ اللهُ عليهم مِن النَّبيِّينَ والصِّديقينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ- ومَن غفلَ عن ذكرِ اللهِ، ونسيَ حقوقَهُ، فشقيَ في الدُّنيا، واستحقَّ العذابَ في الآخرةِ، فالأوَّلونَ هم الفائزونَ، والآخرونَ هم الخاسرونَ.

ولمَّا بيَّنَ تعالى لعبادِهِ ما بيَّنَ، وأمرَ عبادَهُ ونهاهم في كتابِهِ العزيزِ، كانَ هذا موجبًا لأنْ يبادرُوا إلى ما دعاهم إليهِ وحثَّهم عليهِ، ولو كانُوا في القسوةِ وصلابةِ القلوبِ كالجبالِ الرَّواسي، فإنَّ هذا القرآنَ لو أنزلَهُ على جبلٍ لرأيْتَهُ خاشعًا متصدِّعًا مِن خشيةِ اللهِ، أي: لكمالِ تأثيرِهِ في القلوبِ، فإنَّ مواعظَ القرآنِ أعظمُ المواعظِ على الإطلاقِ، وأوامرَهُ ونواهيَهُ محتويةٌ على الحكمِ والمصالحِ المقرونةِ بها، وهيَ مِن أسهلِ شيءٍ على النُّفوسِ، وأيسرِها على الأبدانِ، خاليةٌ مِن التَّكلُّفِ لا تناقُضَ فيها ولا اختلافَ، ولا صعوبةَ فيها ولا اعتسافَ، تصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وتليقُ لكلِّ أحدٍ.

ثمَّ أخبرَ تعالى أنَّهُ يضربُ للنَّاسِ الأمثالَ، ويوضِّحُ لعبادِهِ الحلالَ والحرامَ، لأجلِ أنْ يتفكَّرُوا في آياتِهِ ويتدبَّرُوها، فإنَّ التَّفكُّرَ فيها يفتحُ للعبدِ خزائنَ العلمِ، ويبيِّنُ لهُ طرقَ الخيرِ والشَّرِّ، ويحثُّهُ على مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ الشِّيمِ، ويزجرُهُ عن مساوئِ الأخلاقِ، فلا أنفعَ للعبدِ مِن التَّفكُّرِ في القرآنِ والتَّدبُّرِ لمعانيهِ. انتهى