الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة القلم/(1) من قوله تعالى {ن والقلم وما يسطرون} الآية 1 إلى قوله تعالى {سنسمه على الخرطوم} الآية 16
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(1) من قوله تعالى {ن والقلم وما يسطرون} الآية 1 إلى قوله تعالى {سنسمه على الخرطوم} الآية 16

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة القلم

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، بسم الله الرحمن الرحيم

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:1-16]

– الشيخ : إلى هنا.

الحمد لله، هذه سورةُ "ن"، مكيَّة، افتُتحَتْ بحرفٍ واحدٍ مِن الحروف المقطَّعة "ن" مثل "ص" و"ق"، افتُتحتْ بقَسَمٍ، قَسَمٌ مِن اللهِ بالقلمِ، {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، والقلمُ يُحتملُ أن يُراد به قلم مُعيَّن كقلمِ القَدَر الأول القلم الأول، ويُحتمل أنه جنسُ القلمِ فيشملُ الأقلام كلَّها: قلمُ القَدَر، وقلم الأعمالِ التي يَكتبُ بها الملائكةُ، الكرامُ الكاتبين، ويُحتملُ أن يكون عامًّا يشملُ الأقلامَ التي يَكتبُ بها الناس.

والقلمُ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ؛ فإنه وسيلةٌ لحفظِ العلومِ، ولهذا قال -سبحانه وتعالى- امتنَّ على الإنسانِ بتعليمِ القلمِ وهو الكتابة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [القلم:1-5] فبالقلمِ تُحفَظُ العلومُ بأنواعِها المختلفة: العلوم البشرية التجريبيَّة، وعلوم التاريخ، وعلوم الشرائع، فهو آيةٌ مِن آياتِ الله ونعمةٌ عظيمةٌ مِن نعمِهِ، وكلُّ نوعٍ مِن أنواعِ العلومِ وأنواع المعارف لَه قَلَم، وأعظمُ هذه الأقلامِ هو قَلَمُ القَدَر الذي قالَ الله له: (اكْتُبْ. قالَ: ما أكتبُ؟ قال: اكْتُبْ ما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ) {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} يعني هذا يقتضي أنَّه أقسمَ بالقلمِ وبما يسطرُ الكاتبون، فأقسمَ بالقلمِ وبالكتابة.

أقسمَ على تنزيهِ الرسولِ، أقسمَ اللهُ على تنزيهِ الرسولِ عمَّا رماهُ به الكافرون الـمُفْترون {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} تنزيهٌ للرسول -عليه الصلاة والسلام- عن قول الـمُفترين الذين يصفونَهُ بالجنون، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور:29] نعمةُ النبوةِ لا تُثْمِرُ إلا الخيرَ، والحقَّ، وحُسْنَ السيرةِ، وحسنَ الخُلُق، وسلوكَ الطريقِ المستقيم.

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أيضًا وهذا مِن الـمُقسَم عليه، عندنا: القَسمُ، ومُقسِم، ومُقسَمٌ عليه، فالـمُقسِم هو الله، والـمُقسَم به هو الْقَلَمُ وَمَا يَسْطُرُونَ، والـمُقسَمُ عليه قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهذه ثلاثة أمور هي كلها داخلةٌ في الـمُقسَم عليه {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}وفي هذا تزكيةٌ للرسولِ وتكريمٌ وإظهارٌ لـِمَا شرَّفه اللهُ بِه مِن الخلقِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فالرسولُ -عليه الصلاة والسلام- هو أكمل الناس خُلقًا، وخُلُقُهُ هو التَّخلُّق بالقرآنِ، كما جاءَ عن أمِّ المؤمنين عائشة، قيلَ لها: "كيفَ كانَ خُلُق النبي صلى الله عليه وسلَّمَ؟ قالت: "كانَ خُلُقُهُ القرآن"، يعني: العمل بالقرآن، كلُّ ما في القرآن مِن الإرشادِ إلى مكارمِ الأخلاقِ، فالرسولُ هو مُتخلقٌ به على أحسنِ وأكملِ وجهٍ صلى الله عليه وسلَّمَ.

ثم يقولُ تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} سَتَرَى ويَرَون مَنْ هو المفتون، سَتَتبيَّنُ الحقائقُ وتظهرُ الأمورُ ويتبيَّنُ مَن هو المهتدي ومَنْ الضَّالُّ، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} إلى آخر الآيات.

 

(تفسيرُ السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه الله تعالى-: تفسير سورةِ "نون" وهي مكية:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} الآيات.

يُقْسِمُ تَعَالَى بِالْقَلَمِ -وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ شَامِلٍ لِلْأَقْلَامِ- الَّتِي تُكْتَبُ بِهَا أَنْوَاعُ الْعُلُومِ، وَيُسَطَّرُ بِهَا الْمَنْثُورُ وَالْمَنْظُومُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ وَمَا يُسْطَرُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مِنْ آيَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْسِمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى بَرَاءَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْجُنُونِ، فَنَفَى عَنْهُ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ، حَيْثُ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ، وَالرَّأْيِ الْجَزْلِ وَالْكَلَامِ الْفَصْلِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَسَطَّرَهُ الْأَنَامُ، وَهَذَا هُوَ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا.

ثُمَّ ذَكَرَ سَعَادَتَهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أَيْ: لَأَجْرًا عَظِيمًا كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ، غَيْرَ مَقْطُوعٍ بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ، وَذَلِكَ لَمَّا أَسْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أَيْ: عَلِيًّا بِهِ، مُسْتَعْلِيًا بِخَلْقِكَ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بِهِ، وَحَاصِلُ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ مَا فَسَّرَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لِمَنْ سَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} الْآيَةَ [آل عمران:159] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الْآيَةَ [التوبة:128]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى اتِّصَافِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْآيَاتِ الْحَاثَّاتِ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ عظيم، فَكَانَ لَهُ مِنْهَا أَكْمَلُهَا وَأَجَلُّهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلًا لَيِّنًا قَرِيبًا مِنَ النَّاسِ، مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَاهُ، قَاضِيًا لِحَاجَةِ مَنِ اسْتَقْضَاهُ، جَابِرًا لِقَلْبِ مَنْ سَأَلَهُ، لَا يَحْرِمُهُ، وَلَا يَرُدُّهُ خَائِبًا، وَإِذَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ مِنْهُ أَمْرًا وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَابَعَهُمْ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْتَبِدْ بِهِ دُونَهُمْ بَلْ يُشَاوِرُهُمْ وَيُؤَامِرُهُمْ، وَكَانَ يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَعْفُو عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَاشِرُ جَلِيسًا إِلَّا أَتَمَّ عِشْرَةً وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ لَا يَعْبَسُ فِي وَجْهِهِ، وَلَا يُغْلِظُ عَلَيْهِ فِي مَقَالِهِ، وَلَا يَطْوِي عَنْهُ بِشَرِّهِ، وَلَا يُمْسِكُ عَلَيْهِ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ جَفْوَةٍ، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَيَحْتَمِلُهُ غَايَةَ الِاحْتِمَالِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَلَمَّا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي أَعْلَى الْمَنَازِلِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ أَعْدَاؤُهُ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَجْنُونٌ مَفْتُونٌ قَالَ: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْدَى النَّاسِ،

– الشيخ : كما قال تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر:26] لَمَّا قال قومُ صالح أنه كذَّاب أَشِر، قال الله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} مِن هذا الجنس: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} ويتبيَّنُ مَن هو المفتون، ومَن هو المجنون.

 

– القارئ : وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْدَى النَّاسِ، وَأَكْمَلَهُمْ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ أَضَلُّ النَّاسِ، وَشَرُّ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ فَتَنُوا عِبَادَ اللَّهِ وَأَضَلُّوهُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، وَكَفَى بِعِلْمِ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُحَاسِبُ الْمُجَازِي.

{إِنَّ ربَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وَهَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ لِلضَّالِّينَ، وَوَعْدٌ لِلْمُهْتَدِينَ، وَبَيَانٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ، حَيْثُ كَانَ يَهْدِي مَنْ يَصْلُحُ لِلْهِدَايَةِ، دُونَ غَيْرِهِ.

قال الله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الآيات.

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الَّذِينَ كَذَّبُوكَ وَعَانَدُوا الْحَقَّ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يُطَاعُوا، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِمَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْبَاطِلَ،

– الشيخ : وشواهدُ هذا كثيرةٌ في القرآن ينهى اللهُ نبيَّه والمؤمنين عَن طاعةِ الكافرين {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24،23] فالمقصودُ أنَّ النهي عَن طاعةِ الكفار والمنافقين كثيرٌ في القرآن عمومًا وخصوصًا، كما في هذه الآية.

 

– القارئ : فَالْمُطِيعُ لَهُمْ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يَضُرُّهُ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُكَذِّبٍ، وَفِي كُلِّ طَاعَةٍ نَاشِئَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَيَسْكُتُوا عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَدُّوا} أَيِ: الْمُشْرِكُونَ {لَوْ تُدْهِنُ} أَيْ: تُوَافِقُهُمْ عَلَى بَعْضِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوْ بِالسُّكُوتِ عَمَّا يَتَعَيَّنُ الْكَلَامُ فِيهِ، {فَيُدْهِنُونَ} وَلَكِنِ اصْدَعْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَظْهِرْ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ تَمَامَ إِظْهَارِهِ، نَقْضُ مَا يُضَادُّهُ، وَعَيْبِ مَا يُنَاقِضُهُ.

{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ} أَيْ: كَثِيرَ الْحِلْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ كَذَّابٌ، وَلَا يَكُونُ كَذَّابًا إِلَّا وَهُوَ {مَهِينٍ} أَيْ: خَسِيسُ النَّفْسِ، نَاقِصُ الْهِمَّةِ، لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْخَيْرِ، بَلْ إِرَادَتُهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةِ.

{هَمَّازٍ} أَيْ: كَثِيرُ الْعَيْبِ لِلنَّاسِ وَالطَّعْنِ فِيهِمْ بِالْغِيبَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أَيْ: يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ بِالنَّمِيمَةِ، وَهو: نَقْلُ كَلَامِ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ، لِقَصْدِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ، وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.

{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} الَّذِي يُلْزِمُهُ الْقِيَامُ بِهِ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {مُعْتَدٍ} عَلَى الْخَلْقِ فِي ظُلْمِهِمْ، فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ {أَثِيمٍ} أَيْ: كَثِيرِ الْإِثْمِ وَالذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: غَلِيظٍ شَرِّ الْخَلْقِ قَاسٍ غَيْرِ مُنْقَادٍ لِلْحَقِّ {زَنِيمٍ} أَيْ: دَعِيٍّ، لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَ لَا مَادَّةٌ يَنْتُجُ مِنْهَا الْخَيْرُ، بَلْ أَخْلَاقُهُ أَقْبَحُ الْأَخْلَاقِ، وَلَا يُرْجَى مِنْهُ فَلَاحٌ، لَهُ زَنَمَةٌ أَيْ: عَلَامَةٌ فِي الشَّرِّ، يُعْرَفُ بِهَا.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ طَاعَةِ كُلِّ حَلَّافٍ كَذَّابٍ، خَسِيسِ النَّفْسِ، سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ، خُصُوصًا الْأَخْلَاقَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الْخَلْقِ، وَالِاحْتِقَارِ لِلنَّاسِ، بالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالطَّعْنِ فِيهِمْ، وَكَثْرَةِ الْمَعَاصِي.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ -وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ، كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَوْ غَيْرِهِ- لِقَوْلِهِ عَنْهُ: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ: لِأَجْلِ كَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، طَغَى وَاسْتَكْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَدَفَعَهُ حِينَ جَاءَهُ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، الَّتِي يُمْكِنُ صِدْقُهَا وَكَذِبُهَا- فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنِ اتُّصِفَ بِهَذَا الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَوَّلُ الْأُمَّةِ وَآخِرُهُمْ، وَرُبَّمَا نَزَلَ بَعْضُ الْآيَاتِ فِي سَبَبٍ أَوْ فِي شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ، لِتَتَّضِحَ بِهِ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ، وَيُعْرَفُ بِهِ أَمْثَالُ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ فِي الْقَضَايَا الْعَامَّةِ.

– الشيخ : إلى آخره.

– القارئ : أحسنَ الله إليك

– الشيخ : الله المستعان، ومِن قواعدِ التفسيرِ أنَّ العبرةَ بعمومِ اللَّفظِ لا بخصوصِ السببِ، ويظهرُ مِن سياقِ هذه الآياتِ أنَّ الله لَمَّا أثنى على نبيِّه بالخلق العظيم ذكرَ صفةَ بعض أعدائِه مما هو ضِدُّ الخُلُقِ الكريم والخُلُق العظيم، فأين هذا مَن هذا؟ أينَ صاحبُ الخُلق العظيم مِن صاحبِ هذه الأخلاق الخبيثة؟ فكأنَّه يذكرُ الصورةَ المظلمة في مقابلِ الصورةِ النَّيرةِ الـمُشرقة، فسيرةُ النبي مُشرقةٌ نَيِّرةٌ طيبةٌ، وسيرةُ هذا اللَّئيمِ مِن الكفرة في غاية مِن القُبْحِ والظلامِ، والشيء يتبيَّنُ بضِدِّهِ، صلى الله عليه وسلَّمَ.