بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: الثَّامن والأربعون بعد المئة

***    ***    ***    ***

 

- القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أما بعد؛ فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في كتابه "الجوابُ الصَّحيحُ لِمَن بدَّلَ دِينَ المسيحِ"، يقول رحمه الله:

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: مَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْمَعْقُولِ

- الشيخ : "بالمعقولِ" ولَّا "بالعقولِ"؟

- القارئ : عندي –أحسن الله إليك- "بالمعقول"

- الشيخ : عندكم كلكم؟ "بالمعقول"؟

- القارئ : نعم أحسن الله إليك

- الشيخ : يعني قريب المعنى قريبٌ

- القارئ : أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: مَا لَمْ يُعْلَمْ بِالْمَعْقُولِ، فَلَيْسَ فِي الْمَنْقُولِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَأَنْتُمْ لَا تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَرَفْتُمُوهُ بِالْعَقْلِ، لَكِنْ بِمَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتُمْ قَدْ فَسَّرْتُمْ كَلِمَتَهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَرُوحَ الْقُدُسِ بِحَيَاتِهِ، فَمِنْ أَيِّ نَبِيٍّ تَنْقُلُونَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَحِكْمَتَهُ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى ابْنًا، وَأَنَّ عِلْمَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّ حَيَاتَهُ خَلَقَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنَّ عِلْمَهُ خَالِقٌ وَإِلَهٌ وَرَبٌّ، وَحَيَاتَهُ خَالِقَةٌ وَإِلَهٌ وَرَبٌّ، وَلَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاءِ مَنْ سَمَّى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ وَلَدًا لَهُ وَلَا ابْنًا، وَلَا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ وَلَدَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ. فَدَعْوَاكُمْ أَنَّ صِفَتَهُ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ وُلِدَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً وِلَادَةً قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً، وَوِلَادَةً حَادِثَةً مِنْ فَرْجِ مَرْيَمَ كَذِبٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّ اللَّهَ وَلَدَ، وَلَا إِنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ وَلَدَهُ،

- الشيخ : إِنَّ اللَّهَ وَلَدَ، ولَّا [أم] أن لله ولد؟

- القارئ : عندي -أحسن الله إليك- إِنَّ اللَّهَ وَلَدَ، هكذا

- الشيخ : ماشي

- القارئ : وَلَا إِنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ وَلَدَهُ، لَا وِلَادَةً رُوحَانِيَّةً، وَلَا وِلَادَةً جُسْمَانِيَّةً.

وَهَذَا وَإِنْ أَبْطَلَ قَوْلَ الْمَلَكِيَّةِ، فَهُوَ لِقَوْلِ الْيَعْقُوبِيَّةِ أَشَدُّ إِبْطَالًا، وَهُوَ مُبْطِلٌ أَيْضًا لِقَوْلِ النُّسْطُورِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ مَوْلُودٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَإِنَّ طَوَائِفَهُمُ الثَّلَاثَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْأَمَانَةِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا فِي زَمَنِ "قُسْطَنْطِينَ" بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ الْمَسِيحِ.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُكُمْ: بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ فَهَبَطَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ الَّتِي بِهَا خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ، لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً، وَلَكِنْ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِلَا كَلِمَتِهِ وَلَا رُوحِهِ قَطُّ.

مَنْ قَالَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِلَا رُوحِهِ قَطُّ، أَوْ إِنَّ رُوحَهُ صِفَةٌ لَهُ قَدِيمَةٌ، أَوْ إِنَّهَا حَيَاتُهُ؟

وَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ كُلُّهُ يَنْطِقُ بِأَنَّ رُوحَ اللَّهِ وَرُوحَ الْقُدُسِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ مَا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَالْوَحْيِ وَالتَّأْيِيدِ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ، فَلَيْسَتْ رُوحُ اللَّهِ صِفَةً قَائِمَةً بِهِ وَلَا غَيْرَهَا، وَلَكِنَّهَا أَمْرٌ بَائِنٌ عَنْهُ.

الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ وَهَبَطَتْ وَالْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ، فَهُوَ نَفْسُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَبَطَ وَالْتَحَمَ مِنْ مَرْيَمَ، أُمُّ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَفْسُهُ لَمْ يَهْبِطْ وَلَمْ يَلْتَحِمْ مِنْ مَرْيَمَ، وَإِنَّمَا هَبَطَ وَالْتَحَمَ الْكَلِمَةُ الَّتِي أَرْسَلَهَا؟

فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ نَفْسُهُ هَبَطَ وَالْتَحَمَ، كَانَ الْأَبُ الْوَالِدُ لِلْكَلِمَةِ، هُوَ الَّذِي هَبَطَ وَالْتَحَمَ، وَكَانَ الْأَبُ هُوَ الْكَلِمَةُ، وَهَذَا مُنَاقِضٌ لِأَقْوَالِكُمْ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّ الْمَبْعُوثَ الْهَابِطَ الْمُلْتَحِمَ لَيْسَ هُوَ الْأَبُ، بَلْ هُوَ كَلِمَةُ الرَّبِّ، فَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ الْخَالِقَ، فَيَكُونُ هُنَاكَ خَالِقَانِ، خَالِقٌ أُرْسِلَ فَهَبَطَ وَالْتَحَمَ، وَخَالِقٌ أَرْسَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَهْبِطْ وَلَمْ يَلْتَحِمْ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ خَالِقًا ثَالِثًا، وَهُوَ الرُّوحُ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِثَلَاثَةِ آلِهَةٍ خَالِقِينَ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ كَلِمَتَهُ الْخَالِقَةَ الَّتِي بِهَا خَلَقَ كُلُّ شَيْءٍ فَمَعَ كَوْنِهِ جَعَلَهَا خَالِقَةً، جَعَلَ أَنَّهُ بِهَا خَلَقَ كُلُّ شَيْءٍ، وَالَّذِي خَلَقَ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ هُوَ خَالِقٌ، فَجَعَلَهَا خَالِقَةً، وَجَعَلَ خَالِقًا آخَرَ، وَجَعَلَ أَحَدَ الْخَالِقَيْنِ قَدْ خَلَقَ الْآخَرُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ هَذَا الْخَالِقَ قَدْ بَعَثَ ذَاكَ الْخَالِقَ الَّذِي بِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَجَعَلَ الْكَلِمَةَ الْخَالِقَةَ احْتَجَبَتْ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا بِمَسَرَّةِ الْأَبِ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ الْقُدُسِ خَلْقًا جَدِيدًا.

وَإِذَا كَانَتْ هِيَ الْخَالِقَةُ بِمَسَرَّةِ الْأَبِ الْخَالِقِ عَلَى الْخَلْقِ، فَالْأَبُ لَمْ يَخْلُقْهُ، بَلْ سُرَّ بِذَلِكَ، وَرُوحُ الْقُدُسِ وَازَرَتْ ذَلِكَ، وَالْخَالِقُ خَلَقَ الْخَلْقَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْخَالِقِ مَنْ يُوَازِرُهُ عَلَى الْخَلْقِ، لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِالْخَلْقِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ.

فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ، تَارَةً يَقُولُونَ: هِيَ الْخَالِقَةُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: خَلَقَ بِهَا الْخَالِقُ فَخَلَقَتْ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ وَازَرَهَا فِي الْخَلْقِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

فَإِنْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ فَالْخَالِقُ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ هُنَاكَ خَالِقٌ آخَرُ وَلَا شَرِيكٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ.

وَالْخَالِقُ إِذَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِقَوْلِهِ: "كُنْ" لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ خَالِقًا، وَلَوْ كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ إِلَهًا خَالِقًا، لَكَانَ الْآلِهَةُ الْخَالِقُونَ كَثِيرِينَ لَا نِهَايَةَ لَهُمْ.

قَالَ: لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ وَلَكِنْ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ مِنْ قَبْلِ كُلِّ الدُّهُورِ.

فَيُقَالُ: مَنْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَمَّى شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَوْلُودًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ مَوْلُودًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا؟ وَهَلْ يُعْقَلُ مَوْلُودٌ إِلَّا مُحْدَثًا؟

وَأَيْضًا فَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يُفَسِّرُونَهَا بِالْعِلْمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مَوْلُودَةً مِنْهُ، فَكَذَلِكَ حَيَاتُهُ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ مُنْبَثِقَةً مِنْهُ، فَكَلِمَتُهُ مُنْبَثِقَةٌ مِنْهُ.

فَجَعْلُ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْأَزَلِيَّتَيْنِ مَوْلُودَةً مِنَ الْأَزَلِ غَيْرَ مُنْبَثِقَةٍ، وَالْأُخْرَى لَيْسَتْ مَوْلُودَةً مِنَ الْأَزَلِ، بَلْ مُنْبَثِقَةٌ - مَعَ كَوْنِهِ بَاطِلًا فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.

فَإِنَّهُ إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ لِلصِّفَةِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ: إِنَّهَا مَوْلُودَةٌ مِنْهُ فَالْحَيَاةُ مَوْلُودَةٌ.

وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا مُنْبَثِقَةٌ، فَالْكَلِمَةُ مُنْبَثِقَةٌ.

وَأَيْضًا فَكَوْنُ الصِّفَةِ إِلَهًا خَالِقًا، وَإِثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ خَالِقِينَ -مَعَ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ- تَنَاقُضٌ آخَرُ.

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: "وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِلَا كَلِمَتِهِ وَلَا رُوحِهِ قَطُّ" إِنْ أَرَادَ بِرُوحِهِ حَيَاتَهُ، فَهَذَا صَحِيحٌ، لَكِنْ مَنْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَمَّى حَيَاةَ اللَّهِ رُوحَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهَ رُوحًا قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا افْتِرَاءٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟

وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِرُوحِ اللَّهِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يُرِدْ أَحَدٌ بِذَلِكَ حَيَاةَ اللَّهِ قَطُّ.

فَتَسْمِيَةُ حَيَاةِ اللَّهِ رُوحًا، وَتَفْسِيرُ مُرَادِ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ.

الْوَجْهُ الثَّامِنُ:

- الشيخ : إلى هنا يا شيخ .