الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية/(149) فصل متابعة حكاية كلام ابن البطريق عن النصارى قوله “فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(149) فصل متابعة حكاية كلام ابن البطريق عن النصارى قوله “فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت

 

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
شرح كتاب (الجواب الصَّحيح لِمَن بدّل دين المسيح) لابن تيمية
الدّرس: التَّاسع والأربعون بعد المئة

***    ***    ***    ***

 

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ، أمَّا بعدُ؛ فيقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في كتابِهِ: "الجوابِ الصَّحيحِ لِمَن بدَّلَ دينَ المسيحِ":

الْوَجْهُ الثَّامِنُ: قَوْلُهُ "فَهَبَطَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ الْخَالِقَةُ بِقِوَامِهَا الْقَائِمِ الدَّائِمِ الثَّابِتِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ، فَالْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ طَاهِرَةٌ، مُخْتَارَةٌ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، اصْطَفَاهَا اللَّهُ لِهَذَا التَّدْبِيرِ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَطَهَّرَهَا بِرُوحِ الْقُدُسِ، رُوحِهِ الْجَوْهَرِيَّةِ، الَّتِي جَعَلَهَا أَهْلًا لِحُلُولِ كَلِمَةِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيَّةِ بِهَا، فَاحْتَجَبَتِ الْكَلِمَةُ الْخَالِقَةُ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا بِمَسَرَّةِ الْأَبِ وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ الْقُدُسِ خَلْقًا جَدِيدًا".

فَيُقَالُ: إِنَّ الْكُتُبَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ تَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، وَهَكَذَا هُوَ فِي الْأَمَانَةِ الَّتِي لَهُمْ، وَبِهَذَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ حَيْثُ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَنَّهُ نَفَخَ فِي مَرْيَمَ مِنْ رُوحِهِ مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهَا رُوحَهُ.

قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:16-23]

وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91]

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]

فَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

لَكِنَّ دَعْوَاكُمْ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ، رُوحُ اللَّهِ الْجَوْهَرِيَّةُ؛ أَيْ: حَيَاتُهُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ – أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ.

فَلَمْ يُفَسِّرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ رُوحَ الْقُدُسِ بِصِفَةِ اللَّهِ، لَا جَوْهَرِيَّةً وَلَا غَيْرَ جَوْهَرِيَّةٍ، وَلَا قَدِيمَةً وَلَا غَيْرَ قَدِيمَةٍ، وَلَا أَرَادُوا بِذَلِكَ حَيَاةَ اللَّهِ.

فَقَوْلُكُمْ هَذَا، تَبْدِيلٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- كَمَا أَنَّكُمْ فِي قَوْلِكُمْ: إِنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ أَوْ عِلْمَهُ أَوْ حَيَاتَهُ مَوْلُودَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّ صِفَتَهُ الْقَدِيمَةَ الْأَزَلِيَّةَ هِيَ ابْنُهُ – مِمَّا حَرَّفْتُمْ فِيهِ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمْ يُرِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ قَطُّ، وَلَمْ يُطْلَقْ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي عِنْدَكُمْ لَفْظُ الِابْنِ الْمَوْلُودِ إِلَّا عَلَى مُحْدَثٍ مَخْلُوقٍ لَا عَلَى شَيْءٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ، لَا مَوْصُوفٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا عِلْمٍ، وَلَا كَلَامٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكُلُّ وِلَادَةٍ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغَيْرِهَا، فَهِيَ وِلَادَةٌ حَادِثَةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَوْلُودٍ، فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ زَمَانِيٌّ، لَيْسِ فِي الْكُتُبِ وِلَادَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَا مَوْلُودٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، كَمَا أَنَّكُمْ ذَكَرْتُمْ ذَلِكَ فِي أَمَانَتِكُمْ وَغَيْرِهَا.

فَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُمْكِنًا فِي الْعُقُولِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْعَلُوهُ مَوْجُودًا وَاقِعًا، وَتَقُولُوا: الْأَنْبِيَاءُ أَرَادُوا ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا بَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُهُمْ.

فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمْ صَرِيحًا فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ، وَالْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ يُنَاقِضُ ذَلِكَ، كَانَ مَا قُلْتُمُوهُ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَمَسِيحِهِ، وَكَانَ بَاطِلًا فِي الْمَعْقُولِ، وَكُنْتُمْ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]

ثُمَّ يُقَالُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ: "إِنَّ الْكَلِمَةَ الْخَالِقَةَ هَبَطَتْ فَالْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ، وَاحْتَجَبَتْ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا"، وَقُلْتُمْ: "إِنَّ مَرْيَمَ حَمَلَتْ بِالْإِلَهِ الْخَالِقِ وَوَلَدَتْهُ الَّذِي هُوَ الِابْنُ".

فَإِذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ هِيَ أُمًّا لِلْخَالِقِ الَّذِي هُوَ الِابْنُ حَمَلَتْهُ وَوَلَدَتْهُ – فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِلْخَالِقِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ مَعَ أَنَّ الْخَالِقَ الْتَحَمَ مِنْ مَرْيَمَ؟ وَقَدْ قُلْتُمْ: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِلَا كَلِمَتِهِ وَلَا رُوحِهِ قَطُّ، وَلَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ بَرِيَّةً مِنْهُ قَطُّ، وَلَا مِنْ رُوحِهِ الْخَالِقَةِ وَلَا مِنْ جَوْهَرِهِ.

فَجَعَلْتُمُ الرُّوحَ خَالِقَةً، وَاللَّهَ الَّذِي هُوَ الْأَبُ خَالِقًا، وَالْمَسِيحُ قَدْ تَجَسَّدَ مِنَ الرُّوحِ الْخَالِقَةِ وَمِنْ مَرْيَمَ، فَكَمَا أَنَّ مَرْيَمَ أُمُّهُ، فَالرُّوحُ الْخَالِقَةُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ.

وَأَيْضًا فَمَرْيَمُ لَهَا اتِّصَالٌ بِالْأَبِ وَبِرُوحِ الْقُدُسِ، وَكِلَاهُمَا أَبٌ لِلْمَسِيحِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ.

فَإِذَا كَانَتْ مَرْيَمُ مُتَّصِلَةً بِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ جَعَلْتُمُوهُ أَبًا لِلْمَسِيحِ، وَقُلْتُمْ: إِنَّ الْخَالِقَ الْتَحَمَ مِنْ مَرْيَمَ، فَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ جَعْلِ الْخَالِقِ زَوْجَ مَرْيَمَ.

وَمَهْمَا فَسَّرْتُمْ بِهِ اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ الْمَخْلُوقِ مِنْهَا، كَانَ تَفْسِيرُ الْتِحَامِ اللَّاهُوتِ بِنَاسُوتِ مَرْيَمَ حَتَّى يَصِيرَ زَوْجًا لِمَرْيَمَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ إِلَّا وَفِي كَوْنِ اللَّاهُوتِ ابْنَ مَرْيَمَ، مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أُمَّ الْإِنْسَانِ أَعْلَى قَدْرًا عِنْدَهُ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَأَنَّ تَسَلُّطَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى أُمِّهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مَالِكٌ لِلزَّوْجَةِ، قَوَّامٌ عَلَيْهَا، وَالْمَرْأَةَ أَسِيرَةٌ عِنْدَ زَوْجِهَا، بِخِلَافِ أُمِّهِ.

فَإِذَا جَعَلْتُمُ اللَّاهُوتَ الْخَالِقَ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ ابْنًا لِنَاسُوتِ مَرْيَمَ بِحُكْمِ الِاتِّحَادِ مَعَ كَوْنِهِ خَالِقًا لَهَا بِلَاهُوتِهِ وَابْنًا لَهَا بِنَاسُوتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا عِنْدَكُمْ وَلَا قَبِيحًا، فَأَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ صَاحِبَةً لَهُ وَزَوْجَةً وَامْرَأَةً بِحُكْمِ الِالْتِحَامِ بِالنَّاسُوتِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

وَإِنْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا وَقَبِيحًا، فَذَاكَ أَشَدُّ امْتِنَاعًا وَقُبْحًا.

وَلِهَذَا ذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ النَّصَارَى إِلَى أَنَّ مَرْيَمَ امْرَأَةُ اللَّهِ وَزَوْجَتُهُ، وَقَالُوا أَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرُوا شَهْوَتَهُ لِلنِّكَاحِ.

وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ عُقَلَاءِ الْمُلُوكِ مِمَّنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَبَّهُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحْبَلَ أُمَّهُ وَوَلَدَتْ لَهُ الْمَسِيحَ ابْنَهُ، كَمَا يُحْبِلُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَتَلِدُ لَهُ الْوَلَدَ، فَيَكُونُ قَدِ انْفَصَلَ مِنَ اللَّهِ جُزْءٌ فِي مَرْيَمَ بَعْدَ أَنْ نَكَحَهَا، وَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي مِنَ اللَّهِ وَمِنْ مَرْيَمَ وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ كَمَا تَلِدُ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ الَّذِي مِنْهَا وَمِنْ زَوْجِهَا، وَقَدْ قَالَتِ الْجِنُّ الْمُؤْمِنُونَ: وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا [الجن:3]

فَنَزَّهُوهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا، وَهَؤُلَاءِ الْجِنُّ الْمُؤْمِنُونَ أَكْمَلُ عَقْلًا وَدِينًا مِنْ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى.

وَقَالَ تَعَالَى: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام:101]

فَقَوْلُهُ: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، تَقْدِيرُهُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ فَـ (أَنَّى) فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.

فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ، وَأَنَّ هَذَا الِامْتِنَاعَ مُسْتَقِرٌّ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ.

ثُمَّ إِذَا كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ الْخَالِقُ الْمَخْلُوقُ بِهِ قَدْ حَلَّتْ فِي جَوْفِ مَرْيَمَ وَالْتَحَمَتْ مِنْ مَرْيَمَ، وَخَلَقَتْ مِنْهَا إِنْسَانًا هُوَ الْمَسِيحُ خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا وَاحْتَجَبَتْ بِهِ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، فَهَلْ كَانَ خَلْقُهَا لِهَذَا الْإِنْسَانِ قَبْلَ الِاتِّحَادِ وَالِاحْتِجَابِ، أَمْ حِينَ ذَلِكَ؟

فَإِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَاهِرُ الِامْتِنَاعِ، مُحَالٌ أَنَّهَا بَعْدَ الِاحْتِجَابِ بِهِ وَالِاتِّحَادِ خَلَقَتْهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَلَقَتْهُ قَبْلَهُ أَوْ مَعَهُ.

فَإِنْ كَانَ مَعَهُ، لَزِمَ كَوْنُ الْمَخْلُوقِ مُتَّحِدًا بِالْخَالِقِ دَائِمًا، لَمْ تَمُرَّ عَلَيْهِ لَحْظَةٌ إِلَّا وَهُوَ مُتَّحِدٌ بِهِ.

فَإِذَا كانَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَارِنَ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ -وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَقَامَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ حَمْلًا كَعَامَّةِ النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْبِطْرِيقِ هَذَا- فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ الرَّبُّ مُتَّحِدًا بِالْمُضْغَةِ وَالْجَمَادِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ.

وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِ هَذَا، جَازَ أَنْ يَتَّحِدَ بِسَائِرِ الْجَمَادَاتِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا نُفِخَتْ فِيهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا نُفِخَتْ فِيهِ مِنْ حِينِ أَخَذَ الْجَسَدَ مِنْ مَرْيَمَ، وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ جُمْهُورِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ وَصُلِبَ وَفَارَقَهُ الرُّوحُ النَّاطِقَةُ الْمَنْفُوخَةُ فِيهِ، وَالْإِلَهُ الْمُتَّحِدُ بِهِ لَمْ يُفَارِقْهُ أَبَدًا، بل هو الْخَالِقُ الْقَدِيمُ وَالْأَبُ هُوَ الْإِلَهُ الْخَالِقُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِاتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ قَبْلَ النَّفْخِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إِلَى أَنْ قَامَ مِنْ قَبْرِهِ، فَعَادَتِ الرُّوحُ إِلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ تِلْكَ الْمُضْغَةِ شَيْءٌ مِنَ الْعَجَائِبِ.

وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى إِلَهِيَّةِ الْمَسِيحِ بِالْعَجَائِبِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْإِلَهُ مُتَّحِدًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ الْعَجَائِبَ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ظُهُورِ الْعَجَائِبِ مِنْ شَيْءٍ الْجَزْمُ بِأَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَتَّحِدْ بِهِ مَعَ إِمْكَانِ الِاتِّحَادِ.

وَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ جَامِدٍ وَحَيٍّ ظَهَرَتْ مِنْهُ الْعَجَائِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ اتَّحَدَ بِهِ.

وَحِينَئِذٍ فَعُبَّادُ الْعِجْلِ أَعْذَرُ مِنَ النَّصَارَى، وَإِنْ كَانَ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّنَمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ أَعْذَرُ مِنَ النَّصَارَى; لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَجَائِبِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ وَالْجَمَادِ أَعْظَمُ مِنْ ظُهُورِهَا مِنَ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ، لَا سِيَّمَا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ مَعْرُوفُونَ بِظُهُورِ الْعَجَائِبِ عَلَى أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ مَنْ يَقُولُ: إِنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ لَا عَلَى إِلَهِيَّتِهِ.

وَالْمَسِيحُ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي الْإِنْجِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ الْأَعْجَمُ وَالْجَمَادُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا.

فَإِنْ جَازَ الِاتِّحَادُ بِالْمُضْغَةِ وَالْجِسْمِ الْمَقْبُورِ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ، فَاتِّحَادُهُ بِالْعِجْلِ وَبِالصَّنَمِ أَوْلَى، وَحِينَئِذٍ فَخُوَارُ الْعِجْلِ عَجِيبٌ مِنْهُ.

فَاسْتِدْلَالُ عُبَّادِ الْعِجْلِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ، خَيْرٌ مِنِ اسْتِدْلَالِ النَّصَارَى عَلَى إِلَهِيَّةِ الْمُضْغَةِ إِنْ قُدِّرَ ظُهُورُ شَيْءٍ مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي قَدْ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا.

وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى نُبُوَّتِهِ تَسْلِيمًا.

الْوَجْهُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ: "فَاحْتَجَبَتِ الْكَلِمَةُ الْخَالِقَةُ بِإِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ خَلَقَتْهُ لِنَفْسِهَا"، وَقَوْلُهُ: "فَكَانَتْ مَسْكَنًا فِي حُلُولِهِ وَاحْتِجَابِهِ لِلُطْفِهَا عَنْ جَمِيعِ مَا لَطُفَ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ"

يُقَالُ لَهُمْ -أَوَّلًا-: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ رُوحَ الْإِنْسَانِ أَلْطَفُ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38] وَأَنَّهَا أَلْطَفُ مِنَ الرُّوحِ الَّتِي نَفَخَ فِي آدَمَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَلْطَفَ، فَأَنْتَ لَا تَقُولُ: إِنَّ الِاحْتِجَابَ وَالِاتِّحَادَ كَانَ بِرُوحِ الْإِنْسَانِ مُجَرَّدَةً، بَلْ بِالْجَسَدِ النَّاسُوتِيِّ الدَّمَوِيِّ الْغَلِيظِ، وَتَقُولُ: "إِنَّ الْخَالِقَ الْتَحَمَ مِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ" فَتَجْعَلُ الْخَالِقَ قَدِ الْتَحَمَ مِنْ لَحْمِ مَرْيَمَ، وَمِنْ رَحِمَهَا الَّذِي هُوَ لَحْمٌ وَدَمٌ وَهَذِهِ أَجْسَادٌ كَثِيفَةٌ، بَلْ جُمْهُورُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ اتَّحَدَ بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ قَبْلَ النَّفْخِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ قَبْرِهِ.

وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُكُ: "فَكَانَتْ مَسْكَنًا لِلَّهِ فِي حُلُولِهِ وَاحْتِجَابِهِ لِلُطْفِهَا عَنْ جَمِيعِ مَا لَطُفَ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ" – وَصْفٌ مَمْنُوعٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِهِ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَسْكَنًا لِلُطْفِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْكُنَ إِلَّا فِي الرُّوحِ اللَّطِيفَةِ، فَلَمَّا أَثْبَتَ اتِّحَادًا بِالْجَسَدِ الْكَثِيفِ، بَطَلَ قَوْلُكَ: "إِنَّهُ اتَّحَدَ بِالْإِنْسَانِ لِلُطْفِهِ".

الْوَجْهُ الْعَاشِرُ

– الشيخ : حسبُكَ يا أخي جزاكَ اللهُ خيرًا، أقولُ: توسَّعَ توسَّعَ في نقضِ كلامِ النَّصارى وهو كلامٌ متناقضٌ متهافتٌ فاسدٌ في العقلِ والشَّرعِ، وهم في اضطرابٍ في دينهم وافتراقٍ يكفِّرُ بعضُهم بعضًا، ودينُهم ليسوا فيه على بيِّنةٍ، بل هم متخبِّطون في أصلِ دينهم في خلقِ المسيح وفي إلهيَّتِه واتِّحادِ الإلهِ به، فمنهم القائلُ بالحلولِ ومنهم القائلُ بالاتِّحادِ، وما أشارَ إليه من الكلامِ الشَّنيع من الالتحامِ بمريمَ وعدمِ الالتحامِ، الشَّيخُ أفاضَ في هذا غفرَ اللهُ له، وهو كلُّه كلامٌ لا يخرجُ فيه الإنسانُ بنتيجةٍ ولا بتصوُّرٍ لدين النَّصارى، دين النَّصارى يصعبُ تصويرُه، يصعبُ عليهم تصويرُه لمن يريدون دخولَهم فيه؛ لأنَّه كلامٌ مناقضٌ للفطرِ والعقولِ، بل تصويرُه منفِّرٌ… شرحُهم لعقيدتهم تنفِّرُ العقلاءَ، تنفِّرُ كلَّ عاقلٍ عن قبولِه، الحمدُ لله على نعمةِ الإسلامِ والتَّوحيدِ، آمنَّا باللهِ ورسولِه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75]، فهو عبدُ اللهِ ورسولُه عليه الصَّلاة والسَّلام، خلقَه اللهُ كما خلقَ سائرَ المخلوقاتِ، إلَّا أنَّه خلقَه من أنثى بلا ذكرٍ، فخلقه كانَ من مريم ومن نفخةِ روحِ القدسِ، نفخة جبريل، فهو مخلوقٌ من عنصرين: عنصرِ النَّفخةِ وعنصرِ جسدِ مريمَ.

 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة