الرئيسية/فتاوى/شبهات ووساوس في اسمي الله الرحمن والرحيم
share

شبهات ووساوس في اسمي الله الرحمن والرحيم

السؤال :

سماحة الشيخ نحبكم في الله، هذا سؤال مني، ولكنه قد جاءني عن طريق أحد الأشخاص وألقى عليَّ هذه الشُّبهة، وأنا حقًّا لم أجد جوابًا لها، يقول: إنّه لا يشك في وجود خالق للكون رزاقٍ عليمٍ حكيمٍ قويٍّ، ولكنه لديه شكٌّ في هذين الاسمين: "الرحمن والرحيم"، ومعناهما واحد، يقول: إنّه كيف يكون رحمانًا رحيمًا وهو يعاقبنا بخطأ أبوينا عندما أكلا مِن الشجرة، فأُهبطا إلى الأرض، وأصبحنا في كدر الدّنيا بعد نعيم الجنة، بسبب خطأ لم يفعل من باقي البشر؟ وكيف هو رحيم وقد خلق نارًا ليعاقب به خلقه؟ لا يتصوّر هذا مِن رحيم في الأرض، فكيف بإله؟ وكيف يكون رحمانًا رحيمًا، وهو الذي وضع فينا شهواتنا، ثم منع عنا ما خلقه من جمال ومتع! وهو أيضا مَن خَلَق الشّهوة! هذا مِن أشد العذاب! وكيف بهذه الابتلاءات والأمراض والمصائب؟!
أجيبوا -فضيلتكم- عن هذه الشّبهة، وأسأل الله الثبات لي ولكم ولسائر المسلمين، وجزاكم الله خيرًا.
  

الحمدُ لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه، أمّا بعد:
فقد أخبر الله عن نفسه بأنّه الرحمن الرّحيم، وأنّه أرحم الرّاحمين، وأنّه الغفور ذو الرّحمة، وأخبر عن نفسه أنّه شديد العقاب، وشديد البطش، وسريع العقاب، وأخبر أنّه حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فيضع فضله ورحمته في موضعهما، ويضع عذابه في موضعه، كلّ ذلك بمشيئته، ومردُّ ذلك إلى كمال علمه وحكمته، فهو أرحم الرّاحمين لِمَن كان أهلًا لرحمته، وهو شديد العقاب لِمَن كان أهلًا لعقابه، قال تعالى: ﴿رَّبُّكُم أَعلَمُ بِكُم إِن يَشَأۡ يَرحَمۡكُم أَو إِن يَشَأۡ يُعَذِّبۡكُم وَمَآ أَرسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِم وَكِيلٗا﴾[الإسراء:54]
وقد جعل الله لرحمته أسبابًا، ولعذابه أسبابًا، فعلى مَنْ منَّ الله عليه بالإيمان أن يتعرض لرحمة الله للأخذ بأسبابها، ويحذر مِن عذاب الله بتجنب أسبابه، فعلى العبد أن يؤمن بكلّ ما أخبرَ الله به عن نفسه مِن أسمائه وصفاته وأفعاله، وأن يعمل بموجَب هذا الإيمان، فيرجو رحمة الله ويخاف عذابه، ويدعو ربّه أن يغفر له ويرحمه، ويعوذ به مِن غضبه وعذابه، وعليه بعد ذلك أن يدفع كلّ خاطر وهاجس يرد على قلبه يعارض اعتقاده وإيمانه، وأن يُعرض عن ذلك فلا يتابع التفكير في هذه الخواطر والواردات، وتمام ذلك بالاستعاذة بالله مِن الشيطان، وبتجديد الإيمان، وبتأكيد الإيمان، فيقول: آمنت بالله ورسله، ويدعو بالدعاء النبوي: (اللهمّ مقلبَ القلوب ثبّت قلبي على دينك)، وبدعاء الرّاسخين: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيۡتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلوَهَّابُ﴾[آل عمران:8]، ويكثر مع ذلك من ذكر الله، ﴿أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَئِنُّ ٱلقُلُوبُ﴾[الرعد:28]

ويجب مع ما تقدّم: العلمُ والإيمانُ بأنّ مِن حكمته وسنّته -تعالى- أنْ خلقَ هذا الوجود؛ السّماوات والأرض، وخلَق ما على الأرض مِن زينة، وخلق الموت والحياة: ليبتلي العباد أيّهم أحسن عملًا، قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلٗاۗ﴾[هود:7]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلٗا﴾[الكهف:7]، وقال سبحانه: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلٗاۚ﴾[الملك:2].
والآيات في سنّة الابتلاء كثيرة، ومِن الابتلاء: الابتلاء بالشّر والخير؛ بالمصائب والنعم، وابتلاءُ الخلق بعضهم ببعض، قال تعالى: ﴿وَنَبلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيرِ فِتۡنَةٗ -أي: ابتلاءً- وَإِلَيۡنَا تُرجَعُونَ﴾[الأنبياء:35]، وقال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعضَهُم بِبَعض﴾[الأنعام:53] أي: المؤمنين والكفار، وقال: ﴿وَلَٰكِن لِّيَبلُوَاْ بَعضَكُم بِبَعضٖ﴾[محمد:4]، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُم عَنهُمۡ لِيَبتَلِيَكُم﴾[آل عمران:152]، وقال سبحانه: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم حَتَّىٰ نَعلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُم وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَا أَخبَارَكُمۡ﴾[محمد:31]
 
وإنّ مِن سنّة الابتلاء: الابتلاء بالأوامر والنّواهي، كما ابتلى الملائكة وإبليس بالأمر بالسّجود لآدم، وابتلى آدم وزوجه بالنّهي عن الأكل مِن الشّجرة، ثمّ إنّه -تعالى- يمنُّ على مَن شاء بالتوفيق والعصمة، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، ويمنع ذلك مَن يشاء، فمنَّ على الملائكة بالتوفيق لطاعته دون إبليس، ﴿فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُم أَجۡمَعُونَ * إِلَّآ إِبلِيسَ أَبَىٰٓ﴾[الحجر:30-31].
ولم يعصم آدم من الأكل مِن الشجرة، ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾[طه:121]، فترتّب على ذلك بدوُّ سوآتهما لهما، ثم إخراجهما مِن الجنة وإهباطهما إلى الأرض، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَت لَهُمَا سَوءَٰتُهُمَا﴾[الأعراف:22]، وقال سبحانه: ﴿فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلنَا ٱهبِطُواْ بَعضُكُمۡ لِبَعضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُم فِي ٱلۡأَرضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾[البقرة:36]
ثم إنّه -تعالى- يمنُّ على مَن يشاء ممن عصى، فيتوب عليه بتوفيقه للتوبة، ثم يقبلها منه، وهذا ما جرى لآدم عليه السّلام؛ ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ﴾[طه:121-122]، وقال سبحانه: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِر لَنَا وَتَرحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾[الأعراف:23]، ولم يمنَّ على إبليس بالتوفيق للتوبة، فتمادى في غيّه عاصيًا مستكبرًا، فباء بلعنة الله إلى يوم الدّين.
ثم إنّه -تعالى- أهبط إبليس والأبوين إلى الأرض، والعداوة قائمة بينهم، ووعدهم أن يأتيهم الهدى مِن عنده؛ ﴿قَالَ ٱهبِطَا مِنهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ﴾[طه:123] الآيات.
فمِن ذلك الوقت جرت على البشريّة -وهم على الأرض- سنّة الابتلاء بالشّر والخير، والأوامر والنّواهي، وابتلاء بعضهم ببعض، فهم على ذلك ماضون إلى الأجل المحتوم المعلوم، ﴿وَلَكُم فِي ٱلۡأَرضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ﴾[الأعراف:24] ، وقال: ﴿ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗا وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمتَرُونَ﴾[الأنعام:2]
ثم إنّه -تعالى- أرسل الرّسل وأنزل الكتبَ ليُخرِج بدعوتهم مَن شاء مِن الظّلمات إلى النّور، فيُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء وهو العزيز الحكيم، وبذلك قامت حجة الله على العباد، وبطلت حجتهم على الله؛ ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعدَ ٱلرُّسُلِۚ﴾[النساء:165]، وقال سبحانه: ﴿قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلحُجَّةُ ٱلبَٰلِغَةُ فَلَو شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجمَعِينَ﴾[الأنعام:149]
 
ومما يتعلّق بسنّة الابتلاء: ما رُكِّب في الإنسان مِن الغرائز الطبيعية؛ كحبّ النّساء والبنين وأنواع المال، فكل ذلك فتنة، أي: ابتلاء، قال -صلّى الله عليه وسلّم: (ما تركتُ بعدي فتنة أضرّ على الرّجال مِن النّساء) متفق عليه، وفي صحيح مسلم: (فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء،)، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَموَٰلُكُم وَأَولَٰدُكُم فِتنَة﴾[التغابن:15]، وقال: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنعَٰمِ وَٱلۡحَرثِ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسنُ ٱلمَ‍َٔابِ﴾[آل عمران:14]
وليتدبّر المسلم قوله تعالى بعد ذكر هذه الفتن: ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجرٌ عَظِيمٞ﴾[التغابن:15]، وقوله سبحانه: ﴿قُل أَؤُنَبّئُكُم بِخَيرٖ مِّن ذَٰلِكُم لِلَّذِينَ ٱتَّقَوا عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتٞ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ﴾[آل عمران:15]، ففي هذا إرشادٌ لكلّ عاقل إلى إيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الأعلى على الأدنى، وسبيل ذلك: توجيه هذه الشّهوات إلى ما أباح الله، وإلى ما يحبّ الله، وبهذا تكون هذه الشّهوات طريقًا إلى الحسنات، فليست شرًّا محضًا، بل بحسب تصرف الإنسان فيها، إحسانًا أو إساءة، كما يشير إلى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (وفي بضعِ أحدكم صدقةٌ) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له أجرٌ).
وإنّما يؤتى الإنسان مِن اتباع هواه وشهواته، وإيثاره لدنياه، كما قال تعالى: ﴿بَل تُؤثِرُونَ ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلأٓخِرَةُ خَيرٞ وَأَبۡقَىٰٓ﴾[الأعلى:16-17]، وقال سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفسَ عَنِ ٱلهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ﴾[النازعات:40-41]، وقال سبحانه في الذين تنكبوا طريق الاستقامة: ﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعدِهِمۡ خَلۡفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِۖ فَسَوۡفَ يَلۡقَوۡنَ غَيًّا إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا﴾[مريم:59-60] 
 
وبعد؛ فجماع الأمر: هو الإيمان بشرع الله وقدره مع الإيمان بحكمته في شرعه وقدره، فلا يعارَض بينهما، ولا يُحتجُّ بالقدر في معارضة الشرع؛ كالذين قالوا: ﴿لَو شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا﴾[الأنعام:148]، وقالوا: ﴿لَو شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدنَٰهُمۗ﴾[الزخرف:20]، قال تعالى ردًّا عليهم: ﴿مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِن عِلۡمٍۖ إِن هُم إِلَّا يَخرُصُونَ﴾[الزخرف:20].  
فهذا هو الصّراط المستقيم الذي مَن استقام عليه: كان مِن المنعَم عليهم، ومَن زاغ عنه: كان مِن المغضوب عليهم أو الضّالين، وقد فرض الله على العباد أن يستهدوه الصّراط المستقيم، نسأل الله الهداية إلى صراطه المستقيم، صراط المنعَم عليهم مِن النّبيين والصّديقين والشّهداء والصّالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل مِن الله وكفى بالله عليمًا.
وفي الختام نذكّر ونؤكّد على الأمور المتقدّمة في مقاومة الواردات والخواطر الشّيطانية، وهي: الإعراض عنها، وتجديد الإيمان، ثم اللجأ إلى الله بالاستعاذة به من الشيطان، وسؤاله الثبات، ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ﴾[آل عمران:8]. حرر في: 10-9-1437هـ
 

 أملاه:
عبدالرّحمن بن ناصر البرّاك