الرئيسية/فتاوى/حكم تأجير النخل
share

حكم تأجير النخل

السؤال :

فيعلم فضيلتكم الكريم بأهميَّة شروط البيع وحرص الإسلام على سَدِّ طريق الشَّحناء وتلافي المنازعات في المعاملات وغيرها، وبما أن كلَّ عام تزدهر مبايعات النَّخيل غير أن هذا البيع ربَّما دخله مَن لا يعرف أحكامه لجهله أو بُعده عن قواعد الشَّريعة.

سؤالنا فضيلة عن حكم المعاملة التي تعارف عليها كثير مِن أصحاب المزارع، بحيث يأتي المشتري ويطلب مِن صاحب المزرعة أن يؤجّره النَّخيل؛ كلّ نخلة مثلًا بمئة وخمسين ريالًا، هذا قبل خروج الثَّمرة، وربَّما بعد خروجها، ولكن قبل أن تحمرَّ أو تصفرَّ، وربَّما سمّوا هذا بيعًا، فهل يصح أن يسمَّى بيعًا؟ وما حكمه؟ والبعض الآخر ربَّما تلافى هذه المعاملة، ولكنه أجَّر مزرعته كلَّها بما فيها النَّخل بمبلغ كذا وكذا، واستثنى مجموعة مِن النَّخيل محددًا نوعها ومكانها.
وهناك حالة أخرى: يؤجّر مزرعة النَّخيل بمبلغ كذا وكذا لمدَّة عام، غير أنَّه يشترط على المستأجر ألا يستخدم الأرض بالزّراعة وغيرها مِن المنافع، فهل تسمَّى إجارة؟ وهل تصح هذه الطَّريقة؟
نأمل مِن فضيلتكم بيانًا شافيًا كافيًا لهذه المعاملات التي علت في واقعنا اليوم، لتتضح المعاملات المباحة مِن المحرَّمة، وليكون النَّاس على بصيرة مِن دينهم، رزقنا الله وإيَّاكم العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وجزاكم الله خيرًا.
 
الجواب: الحمدُ لله، وصلَّى الله وسلَّم على محمَّد، أمَّا بعد:
فقد أجمع العلماء على تحريم بيع الثَّمر الموجود في النَّخل قبل بدو صلاحه، إلا بشرط القطع في الحال، فضلًا عن بيعه قبل وجوده، فبيعُه قبل وجوده أولى بالتَّحريم؛ لِمَا صحَّ عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- مِن الأحاديث في النَّهي عن ذلك، نهى البائع والمبتاع.
فمنها ما في الصَّحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن بيع الثّمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع، وفيهما أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نهى عن بيع الثّمار حتى تُزهى. قيل: وما زهوها؟ قال:
(تَحْمارُّ وتَصْفارُّ)، وعن أنس ‑أيضا‑ أنَّ النَّبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نهى عن بيع العنب حتى يسودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يشتدَّ.
وما حرَّمه الله ورسوله يحرمُ التَّحيُّل عليه؛ فإنَّ ذلك فعل اليهود لمَّا حرَّم الله عليهم الشّحوم جملوه فباعوها فأكلوا ثمنها، كما جاء في الحديث الصَّحيح عن جابر -رضي الله عنه- أنَّه سمع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول:
(قاتلَ اللهُ اليهودَ! إنَّ الله لمَّا حرَّمَ شحومَهَا جَمَلُوه، ثمَّ باعوه فأكلوا ثمَنَه).
وما ذُكِرَ في السُّؤال مِن صور ما سُمّي تأجيرًا لجملة نخيل البستان أو لبعضها، فيقوم المستأجِر بما يلزم مِن التَّلقيح والتَّركيب في مقابل أن تكون له الثَّمرة، فحقيقته بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، أو قبل وجودها، وتسميةُ ذلك "إجارة" حيلةٌ على الحرام بقصد أو بغير قصد، وحقيقة الأمر أنَّ صاحب البستان باعَ ثمرة بستانه على مَن سُمِّي مستأجرًا بمال وعمل، والمال ما يدفعه المستأجر مِن الدراهم، والعمل ما يقوم به المستأجر مِن التَّلقيح والترَّكيب، فهذا الذي سُمّي مستأجِرًا هو مشترٍ للثَّمرة، وأجير لصاحب البستان بما يقوم مِن عمل في النَّخل، فالثَّمرة نسبة منها أجرة مجهولة لذلك الأجير المسمَّى مستأجِرًا، ومعظم الثَّمرة في مقابل المال الذي سُمّي أجرة، وهو في الحقيقة ثمن الثَّمرة، فآل الأمرُ إلى أن صاحب البستان في الظَّاهر مؤجِّر، وما قبضه أجرة، والحقيقة أنَّه بائع ومستأجر للطَّرف الآخر، والآخر أجير ومشترٍ، فتبيَّن أن هذا العقد قد اشتمل على:

أولًا: بيع وإجارة، وبذا فسّر بعضُ أهل العلم حديث: نهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم عن بيعتين في بيعة.
ثانيًا: بيع الثَّمرة قبل بدو صلاحها أو قبل وجودها، وهذا ما علم تحريمه بالنَّص والإجماع.
ثالثًا: التَّحيُّل على ذلك.
رابعًا: الجهالة بأجرة من سمِّي مستأجرًا، وهو في الحقيقة أجير ومشترٍ.
خامسًا: الغرر والخطر في هذه المعاملة، وذلك مِن وجوه:
الجهالة في عوض عمل الأجير المستأجِر.
قد تتلف الثَّمرة أو تخفق، فينشأ مِن ذلك النّزاع والضَّرر على مَن سُمّي مستأجِرًا؛ لأن صاحب البستان قد قبض العوض في الغالب.
استثناء بعض النَّخل -كما جاء في السؤال- يؤدّي إلى الغرر في جانب المستأجِر المشتري في الحقيقة، أو في جانب صاحب البستان الذي هو بائع في الحقيقة، حسبما يحصل مِن جودة ثمر المستثنى أو ضعفه أو تلفه، وبناء على ما سبق أرى أنَّ هذه العقود محرَّمة لِمَا تفضي إليه مِن المفاسد والمخالفات الشَّرعيَّة.
وأما تأجير البستان جملة بأجرة معلومة ليقوم المستأجِر بسقي الشَّجر وبكلّ ما يلزم لإصلاح الثَّمرة؛ فإنَّ ذلك يجوز على الشَّرط ولو شرط صاحب البستان على المستأجِر ألا يزرع الأرض؛ فإنَّ مقصود هذا العقد هو استئجار الشَّجر لاستثمارها، وهذا نظير إجارة الأرض للزَّرع ليقوم المستأجر بحرثها وبذرها، وتكون له غلّتها، فالقيام على الشَّجر وإصلاحها بمنزلة شقِّ الأرض وسقي الزَّرع.
وهذا ما قرَّره واختاره شيخ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- في كتابه القواعد النّورانيَّة، وذكر أنَّه إجماع من السَّلف، وذكر مِن أدلَّة هذا القول أنَّ عمر -رضي الله عنه- قبَّل حائط أسيد بن حضير، يعني أجَّره، بعد موته لقضاء دينه، وتأجير الشَّجر ليس مِن قبيل بيع الثَّمرة قبل بدو صلاحها، بل هو مِن بيع المنافع، كسائر الأعيان، فالثَّمرة بمنزلة منفعة الأعيان المؤجَّرة؛ فإذا تلفت الثَّمرة أو أصيبت بجائحة رجع المستأجر على صاحب البستان، كما يرجع المستأجر للدَّار على مالكها إذا تعطَّلت منفعتها بأي سبب مِن الأسباب.
وأمَّا المستأجر في الصّورة المسؤول عنها: فلا أثر لعمله في وجود الثَّمرة؛ لأنَّه يستأجر الشَّجر بعد وجود الثَّمرة، بل بعد بروزها أحيانًا، فهو في الحقيقة مشترٍ للثَّمرة، فما يدفعه مِن المال هو ثمن للثَّمرة التي سيستقل بها، كما سبق تفصيله. 
وأمَّا دفع الشَّجر لِمَن يقوم عليها بالسَّقي وغيره فتلك هي المساقاة، وليست مِن الإجارة في شيء، بل هي نوع مِن الشّركة، وهي جائزة بالسّنّة الصَّحيحة، فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها مِن أموالهم، وله شطر ثمرها. رواه الشيخان، وهذا لفظ مسلم، والله أعلم. وصلَّى الله وسلَّم على محمَّد.

أملاه:
عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك
في 13جمادى الآخرة 1439هـ