بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (مُـختصر الصَّواعقِ الـمُرسلة على الجهميَّة والـمُعطِّلة) للموصلي
الدّرس: السَّادس والخمسون
*** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "مختصرِ الصَّواعقِ المرسلةِ":
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَلَاثُونَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي فَاتَ بِهَا شَبَهَ الْمَخْلُوقِينَ، وَاسْتَحَقَّ بِقِيَامِهَا أَنْ يَكُونَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وَهَكَذَا كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ، أَيْ: مَثِيلٌ يُسَامِيهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا مَنْ يُكَافِيهِ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ مَسْلُوبَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَمَنْفِيًّا عَنْهُ مُبَايَنَةُ الْعَالَمِ وَمُحَايَثَتُهُ وَاتِّصَالُهُ بِهِ وَانْفِصَالُهُ عَنْهُ وَعُلُوُّهُ عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ يَمْنَتَهُ أَوْ يَسْرَتَهُ، أَوْ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ، لَكَانَ كُلُّ عَدَمٍ مِثْلًا لَهُ فِي ذَلِكَ
– الشيخ: يعني هذا لا ينطبقُ إلَّا على المعدومِ، لا فوقَ ولا تحتَ ولا يمينَ ولا شمالَ ولا داخلَ العالمِ ولا خارجَه، هذا لا يصدقُ إلَّا على المعدومِ.
– القارئ: فَيَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مُمَاثَلَةَ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَثْبَتَ لَهَا مُمَاثَلَةَ الْمَعْدُومَاتِ، فَهَذَا النَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْمَلِ الْمَوْجُودَاتِ وَعَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، فَإِنَّ العدم الْمَحْضَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا كُفْءَ وَلَا سَمِيَّ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بهذا نفي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَتَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، لَكَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لَهُ بِغَايَةِ الْعَدَمِ، فَهَذَا النَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَعَلَى مَنْ كَثُرَتْ أَوْصَافُ كَمَالِهِ حَتَّى تَفَرَّدَ بِذَلِكَ الْكَمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ فِي كَمَالِهِ وَلَا سَمِيٌّ وَلَا كُفْءٌ.
فَإِذَا أَبْطَلْتُمْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحَ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْبَاطِلَ قَطْعًا، فصَارَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِصِفَةٍ أَصْلًا فَلَا يَفْعَلُ فِعْلًا، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَلَا يَدَ، وَلَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَعْلَمُ، وَلَا يَقْدِرُ، تَحْقِيقًا لِمَعْنَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]
– الشيخ: تحقيقٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنَّه المعدومُ ما له مثل في الموجودات، المعدومُ هل له مثل في الموجودات؟ لا، لا هذا معدومٌ وهذا موجودٌ.
– القارئ: وَقَالَ إِخْوَانُكُمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ: لَيْسَ لَهُ ذَاتٌ أَصْلًا، تَحْقِيقًا لِهَذَا النَّفْيِ، وَقَالَ غُلَاتُهُمْ: لَا وُجُودَ لَهُ، تَحْقِيقًا لِهَذَا النَّفْيِ، وَأَمَّا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّه حَيٌّ وَلَهُ حَيَاةٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ وَلَهُ الْقُوَّةُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي قُوَّتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَمُتَكَلِّمٌ، وَلَهُ يَدَانِ، وَمُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مَثِيلٌ، فَهَذَا النَّفْيُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُ وَثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ
– الشيخ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ليسَ شيءٌ من الموجودات يشبهُه في صفاتِ كماله، فيما يختصُّ به، وهذا لا يقتضي نفيَ المشابهة من بعضِ الوجوه، فإنَّه لا بدَّ منه، وهو القدرُ المشتركُ، فالمخلوقُ لا يشاركُ الخالقَ فيما يختصُّ به، فنقولُ: مطلقُ العلم هذا مشتركٌ يثبتُ للمخلوقِ ويثبتُ للخالق، وقلْ مثل ذلك في الحياةِ والوجود، ولكن وجود الخالق يختصُّ به، وعلمُ الخالقِ يختصُّ به، وعلمُ المخلوقِ يختصُّ به، فلا الخالقُ يشركُ المخلوقَ في خصائصِه ولا المخلوقُ يشركُ الخالقَ في خصائصِه، وإنْ كانَ بينهما اتِّفاقٌ في المعنى الكليِّ المطلقِ.
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، هذا هو الاشتراكُ اللفظيُّ؟
– الشيخ: لا، اشتراكٌ لفظيٌّ ومعنويٌّ، لفظيٌّ معنويٌّ ما فيه فائدةٌ، لا اشتراك معنويّ، يعني الخالقُ موجودٌ بمعنى الوجود ضدّ العدم، والإنسانُ المخلوقُ موجودٌ بمعنى الوجودِ الَّذي هو ضدُّ العدمِ، ووجودُ الخالقِ ووجودُ المخلوقِ كلاهما بمعنى ضدِّ العدمِ، ما يخالفُ العدمَ ويقابلُ العدمَ، لكنَّ وجودَ الخالق وجودُ كمال، وجودٌ واجبٌ لا يقبلُ الحدوثَ ولا العدمَ، وجودُ كمالٍ لا يلحقُه نقصٌ، وجودُ المخلوقِ وجودٌ محدثٌ، ممكن، ناقص، قابل للعدمِ.
– القارئ: قالَ رحمَهُ اللهُ: فَهَذَا النَّفْيُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُ وَثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُمْدَحُ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَكُونُ كَمَالًا لَهُ، بَلْ هُوَ أَنْقَصُ النَّقْصِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إِذَا تَضَمَّنَ الْإِثْبَاتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255] لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، وَقَوْلِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] لِكَمَالِ غِنَاهُ وَمُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَغِنَاهُ وَرَحْمَتِهِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ[ق:38] لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [يونس:61]
– الشيخ: هذا يتضمَّنُ قاعدةً: وهو أنَّ كلَّ نفي في صفات اللهِ يتضمَّنُ إثباتاً، ولا يدخلُ النفي المحضُ لا يدخل في صفاته، لأنَّ النفيَ المحضَ هذا عدمٌ، عدمٌ محضٌ، والعدمُ المحضُ لا مدحَ فيه، النفي الَّذي هو مدحٌ هو ما يتضمَّنُ إثباتَ الكمال، فنفي الظلمِ يستلزمُ إثباتَ العدلِ، ونفي اللغوبِ يستلزمُ إثباتَ كمالِ القدرةِ وهكذا.
– القارئ: وَقَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] لِعَظَمَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِمَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ وَاسِعٌ؛ فَيَرَى وَلَكِنْ لَا يُحَاطُ به إِدْرَاكًا؛ كَمَا يُعْلَمُ
– الشيخ: ولا يُحاطُ به
– القارئ: كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا، فَيَرَى ولا يحاط فيَرى ولا، فيُرى، فيَرى وَلَا يُحَاطُ بهِ
– الشيخ: لا، فيُرى فيُرى
– القارئ: فيُرى، أحسنَ اللهُ إليكَ؟
– الشيخ: أي أجل
– القارئ: فَيُرَى وَلَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً، وَهَكَذَا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِإِثْبَاتِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي فِطَرِ النَّاسِ، فَإِذَا قَالُوا: فُلَانٌ عَدِيمُ الْمِثْلِ، أَوْ قَدْ أَصْبَحَ وَلَا مِثْلَ لَهُ فِي النَّاسِ، أَوْ مَا لَهُ شَبِيهٌ وَلَا مَنْ يُكَافِيهِ، فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَفَرَّدَ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْمَجْدِ بِمَا لَا يَلْحَقْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَصَارَ وَاحِدًا من الْجِنْسِ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَلَوْ أَطْلَقُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نَفْيِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَجْدِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَايَةَ الذَّمِّ وَالنَّقْصِ لَهُ، فَإِذَا أطلقَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لَمْ يَشُكَّ عَاقِلٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ كَثْرَةَ أَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الَّتِي لَهَا حَقَائِقُ تُحْمَلُ عَلَيْهَا، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ لِمَنْ لَا عِلْمَ له ولَا قُدْرَةَ ولا سمعَ ولا بَصَرَ وَلَا يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا لَهُ وَجْهٌ، وَلَا يَدٌ وَلَا قُوَّةٌ، وَلَا فَضِيلَةٌ مِنَ الْفَضَائِلِ: إِنَّهُ لَا شَبَهَ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ؛ وَأَنَّهُ وَحِيدُ دَهْرِهِ وَفَرِيدُ عَصْرِهِ وَنَسِيجُ وَحْدِهِ؟ وَهَلْ فَطَرَ اللَّهُ الْأُمَمَ وَأَطْلَقَ أَلْسِنَتَهُمْ وَلُغَاتِهِمْ إِلَّا عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ؟ وَهَلْ كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَّا بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى؟
– الشيخ: "وهل" أيش؟
– القارئ: وَهَلْ كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَّا
– الشيخ: لا، وهل كانَ، كأنَّه وهل كانَ ربَّ العالمين، أهل الثّناءِ، يحتملُ أنَّ أهلَ تصير هي خبرُ كان، نعم.. هل كانَ ربّ، ماشي، وهل كانَ ربّ العالمين أهل الثّناء والمجدِ.
– القارئ: وَهَلْ كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَّا بِأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى؟ وَإِلَّا فَبمَاذَا يُثْنِي عَلَيْهِ الْمُثْنُونَ؟ وَلِأَيِّ شَيْءٍ يَقُولُ أَعْرَفُ خلقَهُ بِهِ: "«لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»"؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الثَّنَاءَ الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحْصِيهِ لَوْ كَانَ للنَّفْيِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُ وَأَشَدَّ إِحْصَاءً لَهُ، فَإِنَّهُمْ نَفَوْا عَنْهُ حَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ نَفْيًا مُفَصَّلًا، وَذَلِكَ ممَّا يُحْصِيهِ الْمُحْصِي بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا تَعَبٍ، وَقَدْ فَصَّلَهُ النُّفَاةُ وَأَحْصَوْهُ وَحَصَرُوهُ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالثَلَاثُونَ
– الشيخ: إلى هنا يا أخي .