بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (مُـختصر الصَّواعقِ الـمُرسلة على الجهميَّة والـمُعطِّلة) للموصلي
الدّرس: الثَّالث والسّتون
*** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ رب العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وبعد؛ يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى:
وَالنَّاسُ إِلَى الْيَوْمِ فِي شُرُورِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَعَ هَذَا الشَّيْخِ الْمُتَأَخِّرِ الْمُعَارِضِ أَشْيَاءُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ قَبْلَهُ: حَسَّةِ الْعَمِيدِيِّ [أو قال: حِسَّة الْعَمِيدِيِّ، في الحاشيةِ يقولُ: كذا في الأصلِ ولعلَّها: حِسِّيَّاتُ] حِسِّيَّاتُ الْعَمِيدِيِّ أو العُمِيديّ، وَحَقَائِقُ ابْنِ عَرَبِيٍّ، وَتَشْكِيكَاتُ الرَّازِيِّ، وَقَامَ سُوقُ الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ
– الشيخ: هذا يقولُه ابنُ القيِّمِ؟ أيش يقول؟
– القارئ: ثُمَّ ظَهَرَ مَعَ هَذَا الشَّيْخِ الْمُتَأَخِّرِ الْمُعَارِضِ أَشْيَاءُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ قَبْلَهُ
– الشيخ: أشياء، لا إله إلا الله، يقولُ: أشياء
– القارئ: أَشْيَاءُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ قَبْلَهُ حِسِّيَّاتُ الْعَمِيدِيِّ
– الشيخ: أيش ما في تعليق؟
– القارئ: في التعليق يقولُ: كذا في الأصلِ، ولعلَّها حِسِّيَّاتُ. مكتوب عندي: حاء سين تاء
– الشيخ: اتركْ "الحِسِّيات"، بس [فقط] العميدي.
– القارئ: ما في شيء أحسنَ الله إليك.
– الشيخ: ما عَلَّقَ على العميديّ؟
– القارئ: لا، أحسنَ الله إليك، مافي شيء .
– الشيخ: إي أيش بعدَه؟
– القارئ: وَحَقَائِقُ ابْنِ عَرَبِيٍّ، وَتَشْكِيكَاتُ الرَّازِيِّ، وَقَامَ سُوقُ الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ وَعُلُومِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ.
ثُمَّ نَظَرَ الله إِلَى عِبَادِهِ وَانْتَصَرَ لِكِتَابِهِ وَدِينِهِ، وَأَقَامَ جُنْدًا يَغْزُو مُلُوكَ هَؤُلَاءِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَجُنْدًا يَغْزُو عُلَمَاءَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، ثُمَّ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنْهُمْ فِي رَأْسِ الْقَرْنِ السَّابِعِ، فَأَقَامَ الله لِدِينِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ الله رُوحَهُ.
أحسنَ اللهُ إليكَ، في نسخةٍ أخرى مكتوبٌ "جستا العميديّ" قالَ: جست كلمة فارسية.
– الشيخ: جَست
– القارئ: جَست أو جُست: قالَ في الحاشيةِ: كلمةٌ فارسيةٌ معناهَا بحثٌ وفحصٌ وهي أيضاً اسمُ عَلَمٍ مِن العلومِ ونوعٌ مِن فَنِّ الخلافِ. قالَ: والعَمِيدي هو محمدُ وقيلَ: أحمدُ بنُ محمدِ بن محمدِ بن محمدِ أبو حامد ركنُ الدينِ السَّمَرقنديّ الحنفيّ عُنِيَ بالخلافِ حتى برعَ فيهِ، قالَ الذهبيُّ: وليسَ عِلمُهُ مِن زادِ المعادِ، ماتَ ببُخارى سنةَ ستمائة وخمسةَ عشرَ
– الشيخ: هذا العميديّ؟
– القارئ: إي، نعم، أحسنَ الله إليك، قالَ: وليسَ عِلمُهُ مِن زادِ المعادِ.
– الشيخ: أيش هو زاد المعاد؟
– القارئ: أنا أسأل عن هذه، أنا أعدتها لأسأل عنها أحسنَ الله إليك؟
– الشيخ: زادُ المعادِ: العلمُ النافعُ والعمل ُالصالحُ، هذا هو زادُ المعادِ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] يعني: عِلمُهُ ليسَ مما يَنفعُ في الآخرةِ، يعني عِلمُهُ إمَّا أنَّها غاضَّةٌ، وإمّا أنَّها قشورٌ وتَوَافِهُ كَمَا هو الحال اليومَ، كثيرٌ مما يقرؤُهُ ويُدَرِّسُهُ الناسُ ليسَ مِن زادِ الآخرةِ، والعربُ والمسلمون بُلُوا أيضاً بأخذِ الفُتَاتِ مِن علومِ الكفرةِ وحضارتِهم يأخذونَ الفُتَاتَ ولهذا ما انتفعوا به، والكفرةُ يَشِحُّونَ عليهم، ما يُـمَكِّنُونَ المسلمينَ مِن علومِهم الكبيرةِ ذاتِ الأثرِ، وتجعلُ مِن يُحسنُها ينهضُ بالأمةِ، لا، لكن عندَ المسلمين زادُ الآخرةِ ميسورٌ لكنه بالنسبةِ لأكثرِهِم مهجورٌ.
– القارئ: فَأَقَامَ الله لِدِينِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ الله رُوحَهُ، فَأَقَامَ عَلَى غَزْوِهِمْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ بِالْيَدِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ; وَكَشَفَ لِلنَّاسِ بَاطِلَهُمْ وَبَيَّنَ تَلْبِيسَهُمْ وَتَدْلِيسَهُمْ، وَقَابَلَهُمْ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، وَشَفَى وَاشْتَفَى، وَبَيَّنَ تُنَاقُضَهُمْ وَمُفَارَقَتَهُمْ لِحُكْمِ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يَدُلُّونَ وَإِلَيْهِ يَدْعُونَ، وَأَنَّهُمْ أَتْرَكُ النَّاسِ لِأَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، فَلَا وَحْيَ وَلَا عَقْلَ، فَأَرْدَاهُمْ فِي حُفَرِهِمْ، وَرَشَقَهُمْ بِسِهَامِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ صَحِيحَ مَعْقُولَاتِهِمْ خَدْمٌ [قال – القارئ: ولعلها هدمٌ] لِنُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، فَجَزَاهُ الله عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقُوَّةُ كُلُّهَا لله، وَكَذَا الْعِزَّةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ، وَسَائِرُ صِفَاتِ الْكَمَالِ التَّامِّ اثْنَانِ، وَأَنَّ الْكَمَالَ التَّامَّ لَا يَكُونُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، وَهَاتَانِ مُقَدِّمَتَانِ يَقِينِيَّتَانِ مَعْلُومَتَانِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، وَجَاءَتْ نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ مُفَصَّلَةً بِمَا فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ إِدْرَاكُهُ قَطْعًا، فَاتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، قَالَ الله تَعَالَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا [البقرة:165]، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا بِمَاذَا؟
– الشيخ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا أَوَ لمْ يرَ الذين، هذه هي الرؤيةُ العلميةُ؛ لأنَّ "رأى" تأتي علميةً فهي مِن أعمالِ القلوبِ، وتأتي بَصَرِيَّةً، والرؤيةُ العِلميةُ الفعل "رأى" مِن الرؤيةِ العلميةِ ينصبُ مفعولين، فمعنى "أولمْ يَرَوا" لها معنى "وَلَو يَرَى" يعني: ولو يعلمُ الذينَ ظلمُوا حينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا فتصيرُ الجملةُ أنَّ هِي مفعولين واقعةٌ في موضعِ مفعولَيْ "يرى" العلميةِ، أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا تكونُ الجملةُ في موضعِ مفعولَيْ "يرى" العِلمية، وَقُرِئَ: "أَوَ لَمْ تَرَ الذينَ ظَلَمُوا".
– القارئ: قَالَ الله تَعَالَى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ: أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا بِمَاذَا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَفْعُولُ يَرَى، أَيْ فَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا لَمَا عَصَوْهُ وَلَمَا كَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقَدَّمُوا عُقُولَهُمْ عَلَى وَحْيِهِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلِ الْمَعْنَى: لِأَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى التَّقْدِيرين، أَيْ وَلَوْ يَرَى هَؤُلَاءِ حَالَهُمْ وَمَا أَعَدَّ الله لَهُمْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَالَ: أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعًا، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله [آل عمران:154]، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كله فِي يَدَيْكَ، وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ: (اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ).
فَلله سُبْحَانَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، وَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ صِفَةً وَاحِدَةً يُعْتَبَرُ بِهَا سَائِرَ الصِّفَاتِ: وَهُوَ أَنَّكَ لَوْ فَرَضْتَ جَمَالَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى جَمَالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَكَانَ نِسْبَتُهُ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دُونَ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى جِرْمِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ قَوَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَعَلِمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَقُدْرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَوُجُودُهُ، وَسَائِرُ صِفَاتِهِ، وَهَذَا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ الْكَوْنِىةُ السَّمْعِيَّةُ، وَأَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ).
فَإِذَا كَانَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ الْأَعْلَى لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَوْ كَشَفَ حِجَابَ النُّورِ عَنْ تِلْكَ السُّبُحَاتِ لِأَحْرَقَ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ، فَمَا الظَّنُّ بِجَلَالِ ذَلِكَ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ؟ وَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ مَعَ سَعَتِهَا وَعَظَمَتِهَا يَجْعَلُهَا عَلَى إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ، وَالْأَرْضُ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْبِحَارُ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالُ عَلَى إِصْبَعٍ، فَمَا الظَّنُّ بِالْيَدِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ؟ وَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ بِأَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَلَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ وَلَا تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ وَلَا يَغْلَطُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ تَحْتَ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّهُ الْقُلُوبُ وَأَخْفَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا لَمْ يَخْطُرْ لَهَا أَنَّهُ سَيَخْطُرُ لَهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالْعَالَمِ مِدَادًا وَيُحِيطُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ كُلُّهَا مِدَادٌ، وَجَمِيعُ أَشْجَارِ الْأَرْضِ، وَهُوَ كُلُّ نَبْتٍ قَامَ عَلَى سَاقِهِ مِمَّا يُحْصَدُ وَمِمَّا لَا يُحْصَدُ، أَقْلَامٌ يُكْتَبُ بِهَا، لَنَفِدَتِ الْأَقْلَامُ وَالْبِحَارُ وَلَمْ يَنْفَدْ كَلَامُهُ.
وَهَذَا وَغَيْرُهُ بَعْضُ مَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ كَمَالِهِ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، فَكُلُّ الثَّنَاءِ وَكُلُّ الْحَمْدِ وَكُلُّ الْمَجْدِ، وَكُلُّ الْكَمَالِ لَهُ سُبْحَانَهُ، هُوَ الَّذِي وَصَلَتْ إِلَيْهِ عُقُولُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَتَلَقَّوْهُ عَنِ الرُّسُلِ صلى الله عليهم وسلم وَلَا يَحْتَاجُونَ فِي ثُبُوتِ عِلْمِهِمْ وَجَزْمِهِمْ بِذَلِكَ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهِ الْقَادِحَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقْدَحْ فِيمَا عَلِمُوهُ وَعَرَفُوهُ ضَرُورَةً مِنْ كَوْنِ رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَذَلِكَ، وَفَوْقَ ذَلِكَ.
فَلَوْ قَالَ لهم قَائِلٌ: هَذَا الَّذِي عَلِمْتُمُوهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْجَوَابِ عَمَّا عَارَضَهُ مِنَ الْعَقْلِيَّاتِ، قَالُوا لِقَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: هَذَا كَذِبٌ وَبَهْتٌ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْحِسِّيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ وَالْيَقِينِيَّةَ قَدْ وَقَعَ فِيهَا شُبَهَاتٌ كَثِيرَةٌ تُعَارِضِ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، فَلَوْ تَوَقَّفَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ عَلَى الْجَوَابِ عَنْهَا وَحَلِّهَا لَمْ يَثْبُتْ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا نِهَايَةَ لِمَا تَقْذِفُ بِهِ النُّفُوسُ مِنَ الشُّبَهِ الْخَيَالِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ وَالْخَيَالَاتِ الَّتِي لَا تَزَالُ تَحْدُثُ فِي النُّفُوسِ شَيْئًا فَشَيْئًا، بَلْ إِذَا جَزَمْنَا بِثُبُوتِ الشَّيْءِ جَزَمْنَا بِبُطْلَانِ مَا يُنَاقِضُ ثُبُوتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مَا يُقَدَّرُ مِنَ الشُّبَهِ الْخَيَالِيَّةِ عَلَى نَقِيضِهِ مَانِعًا مِنْ جَزْمِنَا بِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الشُّبْهَةُ مَا كَانَتْ، فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ يُدْرِكُهُ الْحِسُّ إِلَّا وَيُمْكِنُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَدَمِهِ شُبُهًا كَثِيرَةً يَعْجِزُ السَّامِعُ عَنْ حَلِّهَا، وَلَوْ شِئْنَا لَذَكَرْنَا لَكَ طَرَفًا مِنْهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ شُبَهِ الْجَهْمِيَّةِ النُّفَاةِ لِعُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى خَلْقِهِ وَكَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَقَدْ رَأَيْتَ أَوْ سَمِعْتَ مَا أَقَامَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الشُّبَهِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ تَتَبَدَّلُ نَفْسُهُ النَّاطِقَةُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَرَّةٍ، وَكُلُّ لَحْظَةٍ تَذْهَبُ رُوحُهُ وَتُفَارِقُ وَتَحْدُثُ لَهُ رُوحٌ أُخْرَى
– الشيخ: هذا الذي يقولُون فيه طفرةُ النِّظَّام وهو أنَّ العَرَضَ لا يَبقى زماناً، لا يَبقى زماناً، وصورتُك مثال عن عَرَض، والعَرَضَ لا يبقى زماناً، ومعناه أنه يتبدَّلُ، هذه الأعراضُ القائمةُ بجسمِ الإنسانِ هذه لا تثبتُ لحظةً؛ لأنَّها تتبدلُ، يعني الآن الصورةُ التي هذه اللحظةُ غيرُ الصورةِ قبلَ ثانيةٍ أو عُشْرِ ثانيةٍ، الله الـمُستعان.
– القارئ: وَكُلُّ لَحْظَةٍ تَذْهَبُ رُوحُهُ وَتُفَارِقُ
– الشيخ: ما في تعليق على هذا الكلام؟
– القارئ: لا، أحسنَ الله إليك، يقول: ابراهيمُ بنُ سيار المعتزليّ وقد تقدَّمتْ ترجمتُه ومسألتُه الطفرة لمْ يَسبقُهُ إليها أحدٌ وهي غريبةٌ مُنكرةٌ، وقد بنَاهَا على أنَّ الأجسامَ فيها أجزاءٌ لا نهايةَ لها، وفيها وفي غيرِها يُقالُ: ثلاثةٌ لا يُعْلَمُ لها حقيقةٌ: طفرةُ النِّظامِ، وأحوالُ أبي هاشم، وَكَسْبُ الأشعريِّ، وأنشدُوا في ذلكَ:
مِمَّا يُقَالُ ولا حقيقةَ تَحتَهُ معقولةٌ تَدْنُو إلى الأفْهامِ
الكَسْبُ عندَ الأشعريِّ والحالُ عندَ البَهْشَمِي وطفرةُ النَظَّامِ.
قال ابنُ حزم في الفِصَل: ونسبَ قومٌ مِن المُتكلمين إلى إبراهيمَ النظَّامِ أنَّه قالَ: أنَّ المارَّ على سطحِ الجسمِ يَسيرُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ بينهمُا أماكنُ لمْ يقطعْهَا المارُّ ولا مَرَّ عليها ولا حاذَاهَا ولا حَلَّ فيها. قالَ أبو محمدٍ: وهذا عينُ المُحَالِ والتخليطِ.. إلى آخرِ الكلامِ
– الشيخ: إلى آخرِه، حدد موقفْ طال عمرك، شوف مكان.
– القارئ: نقفْ ولا نكمل
– الشيخ: لا حدِّد بس المقطع الـمُناسب.
– القارئ: وَكُلُّ لَحْظَةٍ تَذْهَبُ رُوحُهُ وَتُفَارِقُ وَتَحْدُثُ لَهُ رُوحٌ أُخْرَى غَيْرُهَا أَبَدًا
– الشيخ: لأنَّ الروحَ عندَهم عَرَضٌ فتدخلُ في هذه النظريةِ الساذجةِ.
– القارئ: وَتَحْدُثُ لَهُ رُوحٌ أُخْرَى غَيْرُهَا أَبَدًا، وَمَا أَقَامُوا مِنَ الشُّبَهِ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَالْبِحَارَ تَتَبَدَّلُ كُلَّ لَحْظَةٍ وَيَخْلُفُهَا غَيْرُهَا، وَمَا أَقَامُوا مِنَ الشُّبَهِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ فِيهِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ فِي الرُّوحِ، وَمَا أَقَامُوه مِنَ الشُّبَهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لَمْ يَمُرَّ عَلَى تِلْكَ الْأَجزاء الَّتِي هي مِنْ مَبْدَأِ حَرَكَتِهَا وَنِهَايَتِهَا وَلَا قَطَعَهَا وَلَا حَاذَاهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ طَفْرَةِ النَّظَّامِ؟ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةُ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنَّ ذَاتَ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنُ
– الشيخ: خلك هنا.. تفضَّل، تفضَّل.
– القارئ: قال: وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةُ الْمَلَاحِدَةِ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنَّ ذَاتَ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنُ ذَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ، وإنَّ الِاثْنَيْنِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا الْحِسُّ وَالْوَهْمُ يَغْلَطُ فِي التَّعَدُّدِ وَيُقِيمُونَ عَلَى ذَلِكَ شُبُهًا كَثِيرَةً قَدْ نَظَمَهَا ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ، وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُتُوحَاتِ فِي فُصُوصِهِ وَغَيْرِهَا، وَهَذِهِ الشُّبَهُ كُلُّهَا مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَهِيَ خَزَانَةُ الْوَسَاوِسِ، وَلَوْ لَمْ نَجْزِمْ بِمَا عَلِمْنَاهُ إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِرَدِّ تِلْكَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَثْبُتْ لَنَا عِلْمٌ أَبَدًا، فَالْعَاقِلُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صَادِقٌ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا عَارَضَهُ فَهُوَ كَذِبٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَعْرِفَ أَعْيَانَ الْأَخْبَارِ الْمُعَارِضَةِ لَهُ وَلَا وُجُوهَهَا، وَالله الْمُسْتَعَانُ.
– الشيخ: أثابكم الله، بارك الله بك.