file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(64) إفحام من ينكر الصفات

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (مُـختصر الصَّواعقِ الـمُرسلة على الجهميَّة والـمُعطِّلة) للموصلي
الدّرس: الرَّابع والسّتون

***    ***    ***
 
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ سيدِنا ونبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى:
الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ: أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا نُفَاةُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالتَّكليمِ مِنْ مُعَارَضَةِ النُّصُوصِ الْإِلَهِيَّةِ بِآرَائِهِمْ هِيَ بِعَيْنِهَا الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكَهَا إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ فِي مُعَارَضَةِ نُصُوصِ الْمَعَادِ بِآرَائِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَمُقَدِّمَاتِهَا، ومُقدِّماتُها مُقدِّماتُها

– الشيخ: المقصود، بس أنا أقصد أن قولَهُ: "نُفَاةُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالتَّكليمِ" عَطْفُ العُلُوِّ والتَّكليمِ على الصفاتِ مِنْ عطفِ الخاصِ على العامِّ.
ومسألةُ العُلُو والتكليمِ لهما خصوصيةٌ: فالكلامُ فيهمِا كثيرٌ، مسألةُ الكلامِ -مسألةُ كلامِ اللهِ- يعني فيها أقاويلُ للناسِ، واضطرابٌ عظيمٌ، وهكذا مسألةُ العلوِّ.
فلهذا خَصَّهَا المؤلِّفُ بالذِّكْرِ، "نُفَاةُ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالتَّكليمِ"، فهو يُريدُ ضَرْبَ المتكلِّمينَ بالفلاسفةِ، وأنَّ شبهاتِ المتكلِّمينَ في نَفْي ما نَفَوا مِن الصفاتِ هِي من جنسِ شبهاتِ الفلاسفةِ في نفيهِم لمعادِ الأجسادِ وتأويلِهم لنصوصِ المعادِ، وعلى هذا، ومعلومٌ أنَّ طوائفَ المتكلمين يَردُّونَ على الفلاسفةِ، فيُقالُ لهؤلاء: ما تردُّونَ بِه على الفلاسفةِ في تأويلهِم وتحريفِهِم لنصوصِ المعادِ، هو رَدُّنَا عليكمْ في تحريفِ وتأويلِ نصوصِ الصفاتِ، فإذا كانتْ تأويلاتُ الفلاسفةِ في نصوصِ المعادِ باطلةً فأنتمْ وتأويلاتُكُم لنصوصِ الصفاتِ كذلكَ.
 
– القارئ: قَالَ: ثُمَّ نَقَلُوهَا بِعَيْنِهَا إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
– الشيخ: "ثُمَّ نَقَلُوهَا" يعني: الملاحدةُ نقلُوا هذه التأويلاتُ في نصوصِ المعادِ إلى نصوصِ الأعمالِ: الأوامرُ والنواهي، فجعلُوا لها تأويلٌ، وهؤلاءِ هم الباطنيةُ، الملاحدةُ الباطنيةُ لمْ يقفُوا في تحريفِهم وتأويلِهم على النصوصِ الخبريةِ بل سلكُوا هذا المسلكَ في النصوصِ الشرعيةِ الطَّلَبِيةِ الأمْرِيةِ، كنصوصِ الصلاةِ والصيامِ والحجِّ والجهادِ وغيرِ ذلكَ، أعد الجملة ذي.
 
– القارئ: قالَ: ثُمَّ نَقَلُوهَا بِعَيْنِهَا إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ
– الشيخ: هذا منهمُ الفلاسفةُ الملاحدةُ، الملاحدةُ نقلُوا المسلكَ في نصوصِ المعادِ نقلُوهُ إلى نصوصِ الأمرِ والنهيّ.
 
– القارئ: ثُمَّ نَقَلُوهَا بِعَيْنِهَا إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، فَجَعَلُوهَا لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، فَآلَ الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى أَنْ أَلْحَدُوا فِي الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْمِلَلِ، وَجَاءَتْ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَهِيَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ
– الشيخ: المذكورة في قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا.
 
– القارئ: قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]
فَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَحْتَجُّونَ عَلَى نُفَاةِ الصِّفَاتِ

– الشيخ: يَحْتَجُّونَ على، يعني: نفاةُ الصفاتِ: المتكلِّمونَ كالجهميةُ والمعتزلةُ وأشباهُهم ومَنْ تَبِعَهُم..
– القارئ: فَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَحْتَجُّونَ عَلَى نُفَاةِ الصِّفَاتِ
– الشيخ: ها، الملاحدةُ الفلاسفةُ والباطنيةُ يَحْتَجُّونَ على المتكلِّمِينَ.
 
– القارئ: فَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَحْتَجُّونَ عَلَى نُفَاةِ الصِّفَاتِ بِمَا وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ سِينَا فِي رِسَالَتِهِ الْأَضْحَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا لَمَّا ذَكَرَ حُجَّةَ مَنْ أَثْبَتَ مَعَادَ الْبَدَنِ، وَأَنَّ الدَّاعِيَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مَنْ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ، فَقَالَ: وَأَمَّا أَمْرُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِيهِ قَانُونٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ
– الشيخ: أنْ يُعمَلَ؟
– القارئ: قال في نسختي: يُعْلَمَ.
– الشيخ: لا، أنْ يُعمَل، "أعمِلْ فيهِ هذا الشيءَ" أعمِلْ فيهِ هذا الشيءَ".
– القارئ: قال: وَأَمَّا أَمْرُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ فِيهِ قَانُونٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلَّةَ الْآتِيَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُرَامُ بِهَا خِطَابُ الْجُمْهُورِ كَافَّةً، ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ الْوَاضِحِ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ فِي صِحَّةِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ مُوَحَّدًا مُقَدَّسًا عَنِ الْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَالْأَيْنِ وَمَتَى وَالْوَضْعِ وَالتَّغْيِيرِ، حَتَّى يَصِيرَ الِاعْتِقَادُ بِهِ أَنَّهُ ذَاتٌ وَاحِدَةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا شَرِيكٌ فِي النَّوْعِ، أَوْ يَكُونَ لها جُزْءٌ وُجُودِيٌّ كَمِّيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ خَارِجَةً عَنِ الْعَالِمِ وَلَا دَاخِلَةً فِيهِ، وَلَا حَيْثُ تَصِحُّ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا بِأَنَّهَا هُنَا أَوْ هُنَاكَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إِلْقَاؤُهُ إِلَى الْجُمْهُورِ، وَلَوْ أُلْقِيَ هَذَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَى الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ وَالْعِبْرَانِيِّينَ الْأَجْلَافِ لَسَارَعُوا إِلَى الْعِنَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَدْعُوَّ إِلَيْهِ إِيمَانٌ بِمَعْدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَلِهَذَا وَرَدَ مَا فِي التَّوْرَاةِ تَشْبِيهًا كُلَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْفُرْقَانِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْأَهَمِّ شَيْءٌ، وَلَا أتى تَصْرِيحِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّوْحِيدِ بَيَانٌ مُفَصَّلٌ، بَلْ أَتَى بَعْضُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ فِي الظَّاهِرِ، وَبَعْضُهُ جَاءَ تَنْزِيهًا مُطْلَقًا عَامًّا جِدًّا لَا تَخْصِيصَ وَلَا تَفْسِيرَ لَهُ، وَأَمَّا الأخبار التَّشْبِيهِيَّةُ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَلَكِنْ لقومٍ أنْ لا يَقْبَلُوهَا.
فَإِن كَانَ الْأَمْرُ فِي التَّوْحِيدِ هَكذَا فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ؟
وَلِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُولَوا: إِنَّ لِلْعَرَبِ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ وَمَجَازًا، وَإِنَّ الْأَلْفَاظَ التَّشْبِيهِيَّةَ مِثْلَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْإِتْيَانِ فِي ظُلَلٍ الْغَمَامِ، وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ وَالضَّحِكِ وَالْحَيَاءِ والغضب صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ مُسْتَعْمَلَةٌ اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا غَيْرَ مَجَازِيَّةٍ وَلَا مُسْتَعَارَةٍ بلْ هي محققةٌ أَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يُورِدُونَهَا حُجَّةً فِي أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِالِاسْتِعَارَاتِ وَالْمَجَازِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهَا الظَّاهِرَةِ مَوَاضِعَ في مِثْلَهَا يَصْلُحُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ تَلْبِيسٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210] ، وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] عَلَى الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَلَيْسَ تَذْهَبُ الْأَوْهَامُ فِيهِ الْبَتَّةَ إِلَى أَنَّ الْعِبَارَةَ مُسْتَعَارَةٌ أَوْ مَجَازِيَّةٌ، فَإِنْ كَانَ أُرِيدَ فِيهَا ذَلِكَ إِضْمَارًا فَقَدْ رَضِيَ بِوُقُوعِ الْغَلَطِ وَالتَّشْبِيهِ وَالِاعْتِقَادِ الْمُعْوَجِّ بِالْإِيمَانِ بِظَاهِرِهِا تَصْرِيحًا.
وَأما قَوْلُهُ: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وَقَوْلُهُ تعالى: مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56] فَهُوَ مَوْضِعُ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَلَا يلْبِيسَ عَلَى ذِي مَعْرِفَةٍ فِي لُغَتِهِمْ، كَمَا تلْتَبِسُ فِي تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ لَا تقَعُ شُبْهَةٌ أَنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ مَجَازِيَّةٌ، كَذَلِكَ فِي تِلْكَ لَا تقَعُ شُبْهَةٌ فِي أَنَّهَا لَيْسَتِ اسْتِعَارِيَّةً وَلَا مَجَازِيَّةً، وَلَا مُرَاداً فِيهَا شَيْءٌ غَيْرَ الظَّاهِرِ.
ثُمَّ هَبْ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ، فَأَيْنَ التَّوْكِيدُ وَالْعِبَارَةُ الْمُشِيرَةُ بِالتَّصْرِيحِ إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ حَقِيقَةُ هَذَا الدِّينِ الْمُعْتَرَفِ بِجَلَالَتِهِ عَلَى لِسَانِ حُكَمَاءِ الْعَالَمِ قَاطِبَةً؟
ثُمَّ قَالَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْجَائِيَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا

– الشيخ: المهم أنَّ ابنُ سِيْنَا هو زعيمُ الفلسفةِ، وزعيمُ الإلحادِ الفَلْسَفي في المنتسبينَ للإسلامِ، ويذكرُهُ ابنُ القَيِّم وابنُ تيميةَ كثيراً. وشقيقُهُ ورفيقُهُ في الذِّكْرِ الفارابيُّ، فهما يعني عَلَمَا الفلسفةِ، أو عَلَمَانِ في الفلاسفةِ الإسلامييِّن يعني المنتسبينَ للإسلامِ، وإلا فَلَيْسَا بمسلمَيْن، فإنَّ أصولَهُم كُفْرِيَّةٌ، فعندَهُم حقيقةُ التوحيدِ أنَّ اللهَ واحدٌ مِن كلِّ وجهٍ فلا تقومُ بِهِ أيُّ صفةٍ، ويجعلونَ ذلكَ تفسيراً لقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، أحدٌ مِن كلِّ وجهٍ، ولو قامَتْ به صفةٌ مِن الصفاتِ لكانَ اثنين، لكانَ مُرَكَّبَاً، وهكذا.
وعندَهم في النّبوةِ: أنَّ النُّبوةَ تقومُ على التَّخَيُّلِ والتَّخييلِ، ليسَ هناكَ كلامٌ يَنزلُ أو ملائكةٌ تَنزلُ، لا، هم لا يؤمنونَ الإيمانَ الحقَّ باللهِ، ولا بالملائكةِ، ولا بالأنبياءِ، ولا بالمعادِ على معناهُ الشرعيّ الذي دَلَّتْ عليه نصوصُ الوحي.
فهو يقولُ أنَّ هذا كلَّهُ مِن الخِطابِ الجمهوريّ، يقولُ: خطاباتُ الشَّرعِ وأخبارُ الشَّرعِ هِي مِن قبيلِ خطابِ الجمهورِ، الجمهورُ يعني: العامةُ، العامةُ، يعني: عامةُ الناسِ ما ينفعُ فيهِم، لو بُيِّنَ لهم التوحيدُ على حقيقتِه -عندَهم، أعني: عندَهم- لَنَفَرُوا منه، لأنَّه شيءٌ لا يعقلونَهُ، لا يُعقَلُ، شيءٌ لا تقومُ بِه أيُّ صفةٍ أن هذا هو يعني خالقُ كلِّ شيءٍ وهو المألوهُ، لا يُطَاقُ، فجاءتِ الأخبارُ وجاءتِ النصوصُ أنَّ الإلهَ هكذا، وأنه كذا، وأنه كذا، وأن لَه وجهٌ، هذا كلُّهُ تخييلٌ، تخييلٌ، هذا ما هو بحقيقة.
فعُلِمَ بذلك أنَّ قولَ المتكلمين والـمُعطلّة -نفاة الصفاتِ- أنه رَشْحٌ مِن رَشْحِ الفلاسفةِ، فالرُّسلُ يتخيَّلونَ، ما جاءُوا به وأخبرُوا بِه إنَّما هو مِن تخيُّلاتِهم، ثمَّ إنَّهم يخيِّلُونَ للناسِ فيجعلونَ مِن خصوصياتِ النَّبي أنه قادرٌ على التخيُّلِ في نفسِهِ، وقادرٌ على التَّخييلِ لعامَّةِ الناسِ، وكفَى بهذا كُفْراً وإِلْحَاداً، إلحادٌ في جانبِ الله، وإلحادٌ في جانبِ الرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم.
الحمدُ للهِ الذي عافانا، نسألُ اللهَ العافية، الحمدُ لله.
ومعَ ذلكَ يُعَظَّمُ عندَ ضُلّالِ وجهلةِ المسلمين، ابنُ سِينا الفيلسوفُ، الفيلسوفُ ابنِ سِينا، يعني يتكلَّمُونَ به ويذكرونَهُ على وجهِ التَّفخيمِ، يقولُ ابنُ القيم في النونيةِ:
وأتى ابنُ سِيْنَا بعدَهُم بطريقةٍ ** أُخْرَى ولمْ يَأْنَفْ مِن الكُفْرانِ
هذا الذي قادَ ابنُ سِيْنَا والأُلَى ** قَالوا مَقَالَتَهُ إلى الكُفْرانِ
 
– القارئ: ثُمَّ قَالَ فِي ضِمْنِ كَلَامِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْجَائِيَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا جَاءَتْ أَفْضَلَ
– الشيخ: نَبِيِّنَا شوف، نَبِيِّنَا!
– القارئ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْجَائِيَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا جَاءَتْ أَفْضَلَ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَجِيءَ بِمِثْلِهِ الشَّرَائِعُ وَأَكْمَلَهُ، وَلِهَذَا صَلَحَتْ أَنْ تَكُونَ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ وَآخِرَ الْمِلَلِ، قَالَ: وَأَيْنَ الْإِشَارَةُ إِلَى الدَّقِيقِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُيَسَّرَةِ إِلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ؟ مِثْلَ إِنَّهُ عَالِمٌ بِالذَّاتِ، أَوْ عَالِمٌ بِعِلْمٍ، قَادِرٌ بِالذَّاتِ، أَوْ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ، وَاحِدٌ بِالذَّاتِ عَلَى كَثْرَةِ الْأَوْصَافِ أَوْ قَابِلٌ لِلْكَثْرَةِ، تَعَالَى عَنْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، مُتَحَيِّزُ الذَّاتِ أَوْ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَاجِبًا تَحَقُّقُهَا وَإِتْقَانُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ فِيهَا، أَوْ يَسَعُ الصُّدُوفُ عَنْهَا وَإِغْفَالُ الْبَحْثِ وَالرَّوِيَّةِ فِيهَا:
فَإِنْ كَانَ الْبَحْثُ فِيهَا مَعْفُوًّا عَنْهُ وَغَلَطُ الِاعْتِقَادِ الْوَاقِعِ فِيهَا غَيْرُ مَؤاخذٍ بِهِ، فَجُلُّ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ تَكَلُّفٌ وَعَنْهُ غُنْيَةٌ.
وَإِنْ كَانَ فَرْضًا مُحْكَمًا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ التَّصْرِيحُ الْمعَمي أَوِ الْمُلَبَّسِ أَوِ الْمُقْتَصِرِ فيه بِالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ، بَلِ التَّصْرِيحُ الْمُسْتَقْصَي فِيهِ وَالْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ وَالْمُوَفي حَقَّ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ وَالتَّعْرِيفِ عَلَى مَعَانِيهِ، فَإِنَّ الْمُبْرِزِينَ الْمُنْفِقِينَ أَيَّامَهُمْ وَلَيَالِيَهُمْ وَسَاعَاتِ عُمُرِهِمْ عَلَى تَمْرِينِ أَذْهَانِهِمْ وَتَذْكِيَةِ أَفْهَامِهِمْ وَتَرْشِيحِ نُفُوسِهِمْ لِسُرْعَةِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعَانِي الْغَامِضَةِ يَحْتَاجُونَ فِي تَفهيمِ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى فَضْلٍ وَشَرْحِ عِبَارةٍ، فَكَيْفَ غُتِمَ الْعِبْرَانِيِّينَ وَأَهْلِ الْوَبَرِ مِنَ الْعَرَبِ؟ لَعَمْرِي لَوْ كَلَّفَ اللَّهُ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يُلْقِيَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى الْجُمْهُورِ مِنَ الْعَامَّةِ الْغَلِيظَةِ طِبَاعُهُمْ، المتعلِّقةِ بِالْمَحْسُوسَاتِ الصِّرْفَةِ أَوْهَامُهُمْ، ثُمَّ سَامَهُ أَنْ يَتَنجَّزَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَالْإِجَابَةَ غَيْرَ مُتَمَهِّلٍ فِيهِ، وَسَامَهُ أَنْ يَتَوَلَّى رِيَاضَةَ نُفُوسِ النَّاسِ قَاطِبَةً حَتَّى تَسْتَعِدَّ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهَا، لِكَلَّفَهُ شَطَطًا، وَأَنْ يَفْعَلَ مَا لَيْسَ فِي قُوَّةِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنْ تُدْرِكَهُمْ حَالَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَقُوَّةٌ عُلْوِيَّةٌ، وَإِلْهَامٌ سَمَاوِيٌّ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ وَسَاطَةُ الرَّسُولِ مُسْتَغْنًى عَنْهَا وَتَبْلِيغُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
وَهَبْ أَنَّ الْكِتَابَ الْعَربي جَاءَ عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَادَةِ لِسَانِهِمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، فَمَا قَوْلُهُمْ فِي الْكِتَابِ الْعِبْرَانِيِّ، وكُلُّهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ تَشْبِيهٌ صِرْفٌ؟
وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُحَرَّفٌ، وَأَنَّى يُحَرَّفُ كُلِّيَّةُ كِتَابٍ مُنْتَشِرٌ فِي أُمَمِ لَا يُطَاقُ تَعْدَادُهُمْ؟ وَبِلَادُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ وَأَوْهَامُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ، مِنْهُمْ يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ، وَهُمْ أُمَّتَانِ مُتَعَادِيَتَانِ، فَظَاهِرٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الشَّرَائِعَ وَارِدَةٌ بِخِطَابِ الْجُمْهُورِ بِمَا يَفْهَمُون

– الشيخ: لاحظْ، خطابِ الجمهور.
– القارئ: فَظَاهِرٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الشَّرَائِعَ وَارِدَةٌ بِخِطَابِ الْجُمْهُورِ بِمَا يَفْهَمُونَ، مَقَرِّبَاً مَا لَا يَفْهَمُونَ إلى أفهامِهم بِالتَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ لَمَا أَغْنَتِ الشَّرَائِعُ الْبَتَّةَ.
قَالَ: فَكَيْفَ يَكُونُ ظَاهِرُ الشَّرَائِعِ حُجَّةً فِي هَذَا الْبَابِ، يَعْنِي أَمْرَ الْمَعَادِ؟ وَلَوْ فَرَضْنَا الْأُمُورَ الْأُخْرَوِيَّةَ رُوحَانِيَّةً غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ بَعِيدٌ عَنْ إِدْرَاكِ بَدَائِهِ الْأَذْهَانِ تَحْقِيقُهَا، وَلَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ لِلشَّرَائِعِ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَالتَّحْذِيرِ عَنْهَا إِلَّا بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُا بِوُجُوهٍ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى الْأَفْهَام

– الشيخ: أيضاً هكذا في المعادِ عندَهم: أولاً: زعمَهم أنَّ المعادَ روحانيّ ما في جسمانيّ، هذهِ الأجسامُ لا تُبعَثُ، ليسَ هناكَ بَعْثٌ لهذه الأبدانُ التي قُبِرَتْ واستحالَتْ في الترابِ، تُراباً ورُفَاتاً وعِظاماً، لا، بَعْثٌ روحانيّ.
وليسَ هناكَ جنةٌ محسوسةٌ فيها مآكلٌ ومشاربٌ محسوسةٌ، وزوجاتٌ، كلُّ هذا تخييلٌ كلُّهُ تخييلٌ.
أعوذُ باللهِ، يا الله.
وكذلكَ النارُ، ما في [لا يوجد] نار مُحْرِقة، وما فيها مِن أنواعِ العذابِ مِن ماءٍ ومِن سلاسلَ وأغلالَ، كلُّ هذا، هذا سبيلُ ابنِ سينا ومَنْ سَلَكَ سبيلَهُ.
 
– القارئ: وَلَوْ فَرَضْنَا الْأُمُورَ الْأُخْرَوِيَّةَ رُوحَانِيَّةً غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ بَعِيدٌ عَنْ إِدْرَاكِ بَدَائِهِ الْأَذْهَانِ تَحْقِيقُهَا، وَلَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ لِلشَّرَائِعِ إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَالتَّحْذِيرِ عَنْهَا إِلَّا بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُا بِوُجُوهٍ مِنَ التَّمْثِيلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى الْأَفْهَام، فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ شَيْءٍ حجةً على وجودِ شيءٍ آخَرَ، لَوْ لَمْ يَكُنِ الشَّيْءُ الْآخَرُ عَلَى الْحَالَةِ الْمَفْرُوضَةِ لَكَانَ الشَّيْءُ الْأَوَّلُ عَلَى حَالَتِهِ؟ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْرِيفِ مَنْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا مِنَ النَّاسِ لَا عَامًّا أَنَّ ظَاهِرَ الشَّرَائِعِ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ. انتهى كلامُهُ.
– الشيخ: بس إلى آخرِهِ بس، قفْ عليهِ، نسألُ اللهَ العافيةَ، الحمدُ لله على نعمة الإسلام، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
– طالب: الفرقُ بين هؤلاءِ وبين المفوضة يا شيخ؟
– الشيخ: أحسنُ منهم.
– طالب: المفوضة بين الفلاسفة
– الشيخ: أقولُ: المفوضةُ أحسنُ مِن هؤلاءِ، نعم يا محمد.
– القارئ: أحسن الله إليكم يا شيخ، هل يُفهَمُ مِن كلامِ ابنِ سينا عدمُ تحريفِ الكتبِ السابقة؟  إنكارُه تحريفَ الكتبِ السابقةِ مِن التوراة والإنجيل؟
– الشيخ: لا ما هو يعني، بس يقولُ: ما يُعقَلُ أنْ تكونَ كلَّها مُحرَّفَة، هذهِ مسألةُ خلافٍ بينَ الناسِ، يعني: هل التوراةُ إذا قيلَ أنَّها محرفة يعني محرفةٌ كلُّها؟ يعني: فيها تحريفٌ.
 
 

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :العقيدة