بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (مُـختصر الصَّواعقِ الـمُرسلة على الجهميَّة والـمُعطِّلة) للموصلي
الدّرس: الخامس والسّتون
*** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، قال المؤلف رحمه الله –بعد ذكرِهِ لكلامِ ابنِ سِينا في رسالتِهِ "الأَضْحَويَّة"-:
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمُلْحِدَ، بَلْ رَأْسَ مَلَاحِدَةِ الْمِلَّةِ، وَدُخُولَهُ فِي الْإِلْحَادِ
– الشيخ: "بَلْ رَأْسَ مَلَاحِدَةِ الْمِلَّةِ"، ملاحدةُ مِلَّةِ الإسلامِ أي: الـمُنْتَسِبينَ للمِلَّةِ، "مَلَاحِدَة الْمِلَّةِ": أيْ الملاحدةُ الـمُنْتَسِبينَ للمِلَّةِ.
– القارئ: فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمُلْحِدَ، بَلْ رَأْسَ مَلَاحِدَةِ الْمِلَّةِ، وَدُخُولَهُ فِي الْإِلْحَادِ، وَدُخُولَهُ فِي الْإِلْحَادِ مِنْ بَابِ نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَتَسَلُّطَهُ فِي إِلْحَادِهِ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ النُّفَاةِ بِمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّفْيِ وَإِلْزَامِهِ لَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ بِالْمَعَادِ جُمْهُورِيًّا أَوْ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً، كَمَا قَالُوا فِي نُصُوصِ الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَرَكَ هُوَ وَهُمْ فِي تَسْمِيَتِهَا تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا، مَعَ أَنَّهَا أَكْثَرُ تَنَوُّعًا وَأَظْهَرُ مَعْنًى وَأَبْيَنُ دَلَالَةً مِنْ نُصُوصِ الْمَعَادِ، فَإِذَا سَاغَ لَكُمْ أَنْ تَصْرِفُوهَا عَنْ ظَاهِرِهَا بِمَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ فَصَرْفُ هَذِهِ عَنْ ظَوَاهِرِهَا أَسْهَلُ.
ثُمَّ زَادَ هَذَا الْمُلْحِدُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ نُصُوصَ الصِّفَاتِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا كُلُّهَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، وَأَنْ يُقَالَ: إِنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَنَّ لِذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ مَوَاضِعَ، تَلِيقُ بِهِ بحَيْثُ يَكُونُ دَعْوَى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا غَلَطًا مَحْضًا، كَمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158] فَمَعَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالتَّنْوِيعِ يَمْتَنِعُ الْمَجَازُ، فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَاعَدْتُمْ عَلَى امْتِنَاعِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عليه
– الشيخ: بقيامِ الدليلِ عليهِ أيْ: على الامتناعِ، امتناع قيامِ الصفاتِ بِهِ، وهذا الكلامُ مِن ضربِ المنحرفين والزائغين مِن ضربِ بعضِهم ببعضٍ، فالمتكلمونَ كالجهميةِ والمُعتزلةِ يُنكرونَ على الفلاسفةِ تحريفَهم لنصوصِ المعادِ وحملَها على المجازِ، يُنكرونها عليهم، فالفلاسفةُ يردونَ عليهم بأنَّ هذا مِن جنسِ تأويلكُم لنصوصِ الصفات، ونقولُ لهؤلاء: ما تردُّونَ بهِ على الفلاسفةِ هو رَدُّنَا عليكم، ما تردُّونَ به على الفلاسفةِ في نصوصِ المعادِ تماماً نحن نردُّ بهِ عليكُم في نصوصِ الصفاتِ، فنأخذُ حُجَجَكُم على الفلاسفةِ، أنتم تقولون: "أنَّ هذا لا تحتملُهُ هذهِ الألفاظُ، وأنَّ هذا خلافُ سياقِ الآياتِ والأحاديثِ"، ما تقولونَهُ لهمْ هو رَدُّنَا عليكُم واحتجاجُنا عليكم.
– القارئ: وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَاعَدْتُمْ عَلَى امْتِنَاعِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهِ،
– الشيخ: يعني: عندَكم، أو عندَهم.
– القارئ: فَهَكَذَا نَفْعَلُ نَحْنُ فِي نُصُوصِ الْمَعَادِ سَوَاءً
– الشيخ: هذا على لسان مَن؟ الفلاسفة، على لسانُ الفلاسفةِ يقولونَ: هكذا نحنُ إذا قلتُمْ: إنَّ نصوصَ الصفاتِ يجبُ تأويلُها لقيامِ الدليلِ على امتناعِ أنْ يُرادَ بها ظاهرُهَا فهكذا نحنُ، فالحوارُ الآنَ بينَ الفلاسفةِ والـمُتكلِّمينَ الـمـُعطلَة، بينَ الفلاسفةِ -نفاةُ معادِ الأجسادِ- وبينَ مُعطلَةِ الصفاتِ -صفاتِ ربِّ العالمين- فيقولون: أيضاً نحنُ نقولُ: هذا مُمتنعٌ، إنما حَوَّلْنَا هذهِ النصوصَ على خلافِ ظاهرِها، وقلنا: إنَّها تَخييلٌ، أو أنَّها أُريدَ منها خلافُ ظاهرِها، لقيامِ الدليلِ على امتناعِ إرادةِ حقيقتِها.
– القارئ: قال: فَهَكَذَا نَفْعَلُ نَحْنُ فِي نُصُوصِ الْمَعَادِ سَوَاءً، فَهَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ وَإِلْزَامِهِ وَدُخُولِهِ إِلَى الْإِلْحَادِ مِنْ بَابِ نَفْيِ الصِّفَاتِ وَالتَّجَهُّمِ.
وَطَرِيقُ الرَّدِّ الْمُسْتَقِيمِ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِ وَقَوْلِ الْمُعَطِّلَةِ جَمِيعًا أَنْ يُقَالَ:
لَا يَخْلُو إِمَّا أنْ يَكُونُ الرَّسُولُ يَعْرِفُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ بِزَعْمِكُمْ مِنْ إِنْكَارِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِرُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، أَوْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ: لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ، كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ وَالْمَلَاحِدَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ وَالنُّصَيْرِيَّةُ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مِنْ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ امْتَنَعَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِهِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ مَعَ أَحَدٍ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ سِرِّهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ قَطْعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَ أَحَدٍ بِمَا يُنَاقِضُ مَا أَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ، وَلَا كَانَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ نَقِيضَ مَا أَظْهَرَ لِلنَّاسِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ بِهِ أَخَصُّ وَبِحَالِهِ أَعْرَفُ كَانَ أَعْظَمَ مُوَافَقَةً لَهُ وَتَصْدِيقًا لَهُ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ وَبَيَّنَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ مَا أَظْهَرَهُ لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ، أَوْ كَاتِمًا لَهُ عَنِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَمُظْهِرًا خِلَافَهُ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ امْتِنَاعًا، وَمُدَّعِيهِ فِي غَايَةِ الْوَقَاحَةِ وَالْبَهْتِ، وَلِهَذَا لَمَّا عَلِمَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ كِتْمَانُ ذَلِكَ عَنْ خَوَاصِّهِ وَضَعُوا أَحَادِيثَ بَيَّنُوا فِيهَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ خِطَابٌ مَعَ خَاصَّتِهِ غَيْرَ الْخِطَابِ الْعَامِّيِّ، مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمُخْتَلَقِ الْمُفْتَرَى عَنْ عُمَرَ "أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا".
– الشيخ: يدَّعون أنَّ الرسولَ كان يُخاطِبُ الرسول [أبا بكرٍ] بطريقةٍ فيها رموزٌ رمزيةٌ حتى عمرُ: "كنتُ أنا بينهما كنتُ كَالزِّنْجِيِّ"، ما أدري أيش يقولون؟ هؤلاءِ الملاحدةُ وضعُوا مثلَ هذا الحديثِ؛ لِيُؤيِّدُوا قولَهم: أنَّ الرسولَ كانَ يعرفُ الحقيقةَ لكنَّهُ كتمَهَا عَن عمومِ الناسِ وهو يذكرُها عندَ بعضِ خواصِّهِ.
– القارئ: وَمِثْلَ مَا يَدَّعِيهِ الرَّافِضَةُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عَلِيٍّ عِلْمٌ خَاصٌّ باطنٌ يُخَالِفُ هَذَا الظَّاهِرَ.
وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ يُدَّعَى فِي عَلِيٍّ وَفَّقَ مَنْ سَأَلَهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ خَصَّكُمْ بِهِ دُونَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: "لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَسَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا شَيْئًا كَتَمَهُ عَنْ غَيْرِنَا، إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَكَانَ فِيهَا الْعُقُولُ وَالدِّيَاتُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ" وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِم شَيْءٌ
– طالب: عندي: توحيدِهِ.
– الشيخ: يصلحُ توحيدِهِ هو، أو توحيدِ قومِهِ وشيعتِهِ الفلاسفة، يصلح، لأنَّهُ ليسَ في القرآنِ ما يُشير إلى توحيدِه هو -توحيدُ ابنِ سينا- الذي هو نفيُ جميعِ الصفاتِ السَّلبيةِ والثبوتيةِ، فهذا صحيحٌ، يقول ابنُ القيم: هذا صحيحٌ، ليسَ في القرآنِ ما يُشيرُ إلى هذا التوحيدِ، هذا توحيدٌ باطلٌ.
– القارئ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِم شَيْءٌ، فَكَلَامٌ صَحِيحٍ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ،
– طالب: في النسخةِ عندي: فكلامٌ غيرُ صحيحٍ
– الشيخ: لا.
– طالب: …
– الشيخ: كلامٌ صحيحٌ، صحيحٌ، صحيح.
– طالب: على النسخة الي فيها توحيده- يا شيخ، فكلامُهُ غيرُ صحيح.
– الشيخ: لا، فكلامُهُ صحيحٌ، الصواب: صحيحٌ، يعني: ليسَ في القرآنِ ما يدلُّ على التوحيدِ عندَ الفلاسفةِ، أيش تقول أنت صحيح؟
– طالب: في الأصلِ -أحسنَ اللهُ إليك- قال: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِينَا وأمثالُهُ في أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَوْحِيدِهِم شَيْءٌ، فَكَلَامٌ صحيحٌ. هذا الأصلُ
– الشيخ: صحيحٌ، هذا صحيحٌ، و"غير صحيحٍ" اشطبها، اشطبْ "غيرَ"، فَكَلَامٌ صحيحٌ.
– القارئ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الصِّفَاتُ مَا لَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ فِيهِ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَمَدْلُولَهُ مِنَ الْمُعَطِّلَةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَمُوَافَقَتُهُمْ لَهُ عَلَى التَّعْطِيلِ لَا تَنْفَعُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ جَدَلِيَّةٌ لَا عِلْمِيَّةٌ، إِذْ تَسْلِيمُهُمْ لَهُ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ لَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا يُوَافِقُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَقَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "هَبْ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَوْجُودَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ فَأَيْنَ التَّوْحِيدُ، وَالدَّلَالَةُ، بالتَّصْرِيحُ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ حَقِيقَةُ هَذَا الدِّينِ الْقَيِّمِ الْمُعْتَرَفِ بِجَلَالَتِهِ عَلَى لِسَانِ حُكَمَاءِ الْعَالَمِ قَاطِبَةً؟"
كَلَامٌ صَحِيحٌ لَوْ كَانَ مَا قَالَهُ النُّفَاةُ حَقًّا، فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ لَا يَكُونُ هَذَا الدِّينُ الْقَيِّمُ قَدْ بَيَّنَ التَّوْحِيدَ الْحَقَّ أَصْلًا، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: إِنَّ التَّوْحِيدَ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْكُفْرِ وَتَعْطِيلِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِهِ، وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ الَّذِي أَثْبَتُوهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَشِرْكُ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ خَيْرٌ مِنْ تَوْحِيدِ هَؤُلَاءِ بِكَثِيرٍ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ إِثْبَاتِ صَانِعِ الْعَالَمِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَتَوْحِيدُ هَؤُلَاءِ تَعْطِيلٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَهَذَا التَّوْحِيدُ مُلَازِمٌ لِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، وَلِهَذَا كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْظَمَ تَعْطِيلًا كَانَ أَعْظَمَ شِرْكًا.
وَتَوْحِيدُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ مُنَاقِضٌ لِتَوْحِيدِ الرُّسُلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ مَضْمُونَهُ إِنْكَارُ حَيَاةِ الرَّبِّ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَكَلَامِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا مِنْ فَوْقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْكَارُ وَجْهِهِ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ وَمَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ
– الشيخ: ورؤيةِ، ورؤيةِ المؤمنين؟
– القارئ: أعيدها أحسنَ اللهُ إليك، وَرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَيَانًا مِنْ
– الشيخ: عِيَانًا، اكسرِ العينَ، مثلَ: قاتَلَ يُقاتِلُ قِتَالاً، وجاهدَ يُجاهِدُ جِهادَاً، عَاينَ عِياناً.
– القارئ: قال: وَرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ بِأَبْصَارِهِمْ عِيَانًا مِنْ فَوْقِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْكَارُ وَجْهِهِ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ وَمَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَضَحِكِهِ
– الشيخ: لا إله إلا الله، آمنتُ باللهِ.
– القارئ: وَغَضَبِهِ وَضَحِكِهِ وَسَائِرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ هُوَ نَفْسُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ
– الشيخ: توحيدُ الجهميةِ والفلاسفةِ رَدٌّ لما أخبرَ اللهُ به وأخبرَ بِه رسولُهُ عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! الله يقولُ: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] وهم يقولُون: لا، لا يجيءُ، لا تقومُ بهِ الأفعال!
– القارئ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ هُوَ نَفْسُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ فيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ، فَاسْتَعَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ اسْمَ التَّوْحِيدِ.
ثُمَّ يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِيمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ النُّفَاةُ الْمُعَطِّلُونَ لَكَانَ قَبُولُ الْفِطَرِ لَهُ أَعْظَمَ مِنْ قَبُولِهَا لِلْإِثْبَاتِ الَّذِي هُوَ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ للْحَقِّ الْأَدِلَّةَ وَالْأَعْلَامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَجَعَلَ فِطَرَ عِبَادِهِ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَلَوْلَا مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ لَمْ يُمْكِنِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ وَلا الْخِطَابُ وَالْكَلَامُ وَالْفَهْمُ وَالْإِفْهَامُ، وكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْأَبْدَانَ مُسْتَعِدَّةً لِلِاغْتِذَاءِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَ تَغْذِيَتُهَا وَتَرْبِيَتُهَا، فَكَمَا أَنَّ فِي الْأَبْدَانِ قُوَّةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغِذَاءِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي، فَفِي الْقُلُوبِ قُوَّةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، فخَاصَّةُ الْعَقْلِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كَمَا أَنَّ خَاصَّةَ السَّمْعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَصْوَاتِ حَسَنُهَا وَقَبِيحُهَا، وَخَاصَّةُ الْبَصَرِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَرْئِيَّاتِ وَأَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَمَقَادِيرِهَا، فَإِذَا ادَّعَيْتُمْ عَلَى الْعُقُولِ أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَأَنَّهَا لَوْ صُرِّحَ لَهَا بِهِ لَأَنْكَرَتْهُ وَلَمْ تُذْعِنْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَدْ سَلَبْتُمُ الْعُقُولَ خَاصَّتَهَا وَقَلَبْتُمُ الْحَقِيقَةَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَفَطَرَهَا عَلَيْهَا، وَكَانَ نَفْسُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّ الرُّسُلَ لَوْ خَاطَبَتْ بِهِ النَّاسَ
– الشيخ: هذا الخطابُ معَ الفلاسفةِ، معَ ابنِ سِينا وجماعتِهِ.
– القارئ: وَكَانَ نَفْسُ مَا ذَكَرْتُمْ: "أَنَّ الرُّسُلَ لَوْ خَاطَبَتْ بِهِ النَّاسَ لَنَفَرُوا عَنِ الْإِيمَانِ" مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَجِ عَلَيْكُمْ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ، كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلسَّمْعِ وَالْوَحْيِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْوَجْهَ فَإِنَّهُ كَافٍ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ، وَلِهَذَا إِذَا أَرَادَ أَهْلُهُ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ إِلَيْهِ وَيَقْبَلُوهُ مِنْهُمْ وَطَّؤوا إِلَيْهِ تَوْطِيئَاتٍ، وَقَدَّمُوا لَهُ مُقَدِّمَاتٍ يَبْنُونَها فِي الْقَلْبِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهِ أَوَّلًا;
– طالب: يُثْبِتُونَهَا.. يُثْبِتُونَهَا فِي الْقَلْبِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ
– الشيخ: لعل: "يُثْبِتُونَهَا" أو "يُثَبِّتُونَهَا"، جيِّد لعلَّه: "يُثَبِّتُونَهَا فِي الْقَلْبِ دَرَجَةً.."، هذه أجودُ. أيش عندكَ يا شيخ محمد؟
– طالب: بَنَوهَا، بَنَوهَا. قال: وَقَدَّمُوا لَهُ مُقَدِّمَاتٍ بَنَوهَا فِي الْقَلْبِ
– الشيخ: بَنَوهَا ما، كأنَّ
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكَ كأنَّ: "دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ" تُؤيِّدُ يَبْنَونَها
– الشيخ: هو "بَنَوهَا" أو "يَبْنَونَها"
– طالب: قال بعد ذلك: "حَتَّى إِذَا أَحْكَمُوا ذَلِكَ الْبِنَاءَ".
– الشيخ: إي زين، واضح، واضح، هي "يَبْنَونَها" أو "بَنَوهَا"، متعين "يَبْنَونَها" أو "بَنَوهَا"، البناءُ، واضحٌ.
– القارئ: قال: وَقَدَّمُوا لَهُ مُقَدِّمَاتٍ يَبْنَونَها فِي الْقَلْبِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَلَا يُصَرِّحُونَ بِهِ أَوَّلًا; حَتَّى إِذَا أَحْكَمُوا ذَلِكَ الْبِنَاءَ اسْتَعَارُوا لَهُ أَلْفَاظًا مُزَخْرَفَةً، وَاسْتَعَارُوا لما خالفه أَلْفَاظًا شَنِيعَةً، فَتَجْتَمِعُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتُ الَّتِي قَدَّمُوهَا، وَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي زَخْرَفُوهَا; وَتِلْكَ الشَّنَاعَاتُ الَّتِي عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ شَنَّعُوهَا، فَهُنَالِكَ إِنْ لَمْ يُمْسِكِ الْإِيمَانَ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، وَإِلَّا تَرَحَّلَ عَنِ الْقَلْبِ تَرُحُّلَ الْغَيْثِ إذا اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ.
– الشيخ: أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ، إذا اجتمعَتْ -والعياذُ بالله- الشُّبهاتُ وزَخَارفُ الكلام، لا يَثْبُتُ أَمَامَ هذا الزَّخْمِ الهائلِ مِن الشُّبهاتِ وتَفَنُّنِ العباراتِ لا يثبتُ لها إلا الإيمانُ الراسخُ، أمَّا ضعيفُ الإيمانِ فهو يَتَزَلْزَلُ إيمانُهُ إذا عرضَتْ لَهُ هذهِ الشبهةُ. نسألُ اللهَ أنْ يُثَبِّتَ الإيمانَ في قلوبِنَا.
– القارئ: الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ
– الشيخ: حسبُك يا أخي، اللهمَّ اهدِنَا لِمَا اختُلِفَ فيهِ مِن الحَقِّ، اللهمَّ لكَ الحمد.