بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
التَّعليق على كتاب (مُـختصر الصَّواعقِ الـمُرسلة على الجهميَّة والـمُعطِّلة) للموصلي
الدّرس: الثَّامن والسَّبعون
*** *** ***
– القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، سيِّدِنا ونبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الإمامُ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في "مُختصَرِ الصَّواعقِ المُرسلَةِ على الجهميَّةِ والمعطِّلةِ" في سياقِ كلامِهِ عن إمكانِ رؤيةِ اللهِ تعالى بالعقلِ، قالَ رحمَهُ اللهُ:
قَالَ الْمُنْكِرُونَ
– الشيخ: الْمُنْكِرُونَ للرُّؤية؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: قَالَ الْمُنْكِرُونَ للرُّؤية
– القارئ: قَالَ الْمُنْكِرُونَ: الْإِنْسَانُ يَرَى صُورَتَهُ فِي الْمِرْآةِ وَلَيْسَتْ صُورَتُهُ فِي جِهَةٍ مِنْهَا.
– الشيخ: هذا من شُبَهِ الأشاعرةِ، لأنَّ الأشاعرةَ يثبتون الرُّؤية، لكن يقولون: إنَّ اللهَ يُرَى لا في جهةٍ، لا في جهةٍ، "من؟ يُرَى في العلوِّ؟ لا، اللهُ ليس في أيِّ جهةٍ، فوق؟ لا، يمين؟ شمال؟ لا"، فهذه من شبههم، الصُّورةُ في المرآة يرى الإنسانُ صورتَه.
– القارئ: قَالَ الْمُنْكِرُونَ: الْإِنْسَانُ يَرَى صُورَتَهُ فِي الْمِرْآةِ وَلَيْسَتْ صُورَتُهُ فِي جِهَةٍ مِنْهَا.
– الشيخ: هذا كذبٌ، هذا كذبٌ، الصُّورةُ الَّتي في المرآة في جهةٍ، في الجهةِ الَّتي ترى الصُّورةَ منها، فأنتَ إذا نظرْتَ لصورتِك في المرآةِ فصورتك في جهتِك، في جهةِ المرآةِ الَّتي تقابلُك، هذه مغالطةٌ، "وَلَيْسَتْ صُورَتُهُ فِي جِهَةٍ مِنْهَا" هذه مغالطةٌ، إذا لم تكنْ في جهةٍ منها خلَت المرآةُ منها، ماذا يقولُ ابنُ القيِّم؟
– القارئ: قَالَ الْعُقَلَاءُ هَذَا تلْبِيسُ
– الشيخ: "هَذَا تلْبِيسُ" جميل
– القارئ: فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرَى خَيَالَ صُورَتِهِ، وَهُوَ عَرَضٌ مُنْطَبِعٌ فِي الْجِسْمِ الصَّقِيلِ
– الشيخ: يعني: يرى صورتَه، لكنَّ الصُّورةَ أحيانًا يُرادُ بها الصُّورةُ القائمةُ بصاحبها، أنت الآن صورتُك الَّتي صوَّرَك اللهُ عليها قائمةٌ بك، فالَّذي ينظرُ إليك يرى صورتَك الَّتي خلقَها اللهُ وركَّبها فيك، أمَّا الصُّورة الَّتي في المرآة فهي صورةٌ ليستْ قائمةً بك، بل صورةٌ انطبعتْ في ذلك الجسمِ الصَّقيل، فانطبعتْ صورتُك الظَّاهرةُ في الجسمِ الصَّقيلِ، فهذا الَّذي أنت تراهُ ليستْ صورتَك القائمةَ بك، فالَّذي ينظر إلى صورتك في المرآة ولا ينظر إلى صورتك القائمةِ بك ينظر إلى صورتِك منطبعةً في ذلك الجسمِ الصَّقيلِ.
– القارئ: قَالَ الْعُقَلَاءُ: هَذَا تلْبِيسٌ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَرَى خَيَالَ صُورَتِهِ، وَهُوَ عَرَضٌ مُنْطَبِعٌ فِي الْجِسْمِ الصَّقِيلِ
– الشيخ: الصُّورةُ صورتُك القائمةُ بك، صورتُك هي جسمُ العرضِ، عرضٌ، الصُّورةُ عرضٌ.
– القارئ: وَهُوَ عَرَضٌ مُنْطَبِعٌ فِي الْجِسْمِ الصَّقِيلِ، وهُوَ فِي جِهَةٍ مِنْها، وَلَا يَرَى حَقِيقَةَ صُورَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ
– الشيخ: "وهُوَ فِي جِهَةٍ مِنْها" لكن في جهةٍ منها تحديدًا؟ أيَّ جهةٍ؟ في خلف الصُّورة؟ خلفَ المرآة؟
– القارئ: المقابلةِ لهُ
– الشيخ: لا، في الجهةِ الَّتي تليك أيُّها النَّاظر إلها
– القارئ: وَلَا يَرَى حَقِيقَةَ صُورَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ
– الشيخ: من الَّذي يرى حقيقةَ صورتِك؟ هو الَّذي ينظر إليك، الَّذي ينظر إليك هو الَّذي يرى حقيقةَ صورتِك القائمة بك، لا إله إلَّا الله.
ولهذا الآن في الحقيقة الصُّور يعني الصُّور الَّتي تُرسَمُ قد تكونُ مطابقةً وقد تكون غيرَ مطابقةٍ فالآن، فإذا كانَت الصُّورةُ بالتَّصوير باليد فالمصوِّرُ يستطيع يتلاعب بصورةِ ما يصوِّره، يستطيع يحسِّن ويقبِّح، وهكذا أيضًا التَّصوير الفوتوغرافيُّ أيضًا هم يستطيعون يتصرَّفون ويتلاعبون به تحسينًا وتقبيحًا وتكبيرًا وتصغيرًا.
– القارئ: وَلَا يَرَى حَقِيقَةَ صُورَتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا مُبَايَنَةٍ
– الشيخ: "وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى" أي: الله يعني، "وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى" وهم الأشاعرةُ هذا توصيفٌ، يُرَى، وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى لكن من غير مقابلةٍ.
– القارئ: وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا مُبَايَنَةٍ
– الشيخ: "مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا مُبَايَنَةٍ،" سبحانَك هذا بُهــتانٌ
– القارئ: وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا مُبَايَنَةٍ، قَالُوا: الصَّحِيحُ الرُّؤْيَةُ فِي الْوُجُودِ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى، فَالْتَزَمُوا رُؤْيَةَ الْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْمَعَانِي كُلِّهَا، وَجِوَازَ أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَشَمِّهَا وَلَمْسِهَا، فَهَذَا مُنْتَهَى عُقُولِهِمْ.
– الشيخ: اللَّهمَّ لك الحمدُ، الحمدُ لله، أعد
– القارئ: وَالَّذِينَ قَالُوا: يُرَى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ
– الشيخ: وَالَّذِينَ قَالُوا: "يُرَى مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ" الأصلُ أنَّ المرءَ يكون مقابلًا للرَّائي، اللهُ أكبرُ، "مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا مُبَايَنَةٍ".
– القارئ: أحسنَ اللهُ إليكم، في الأصلِ قالَ: " والَّذينَ قالُوا يُرَى مِن غيرِ مقابلةٍ ولا مباينةٍ قالُوا: مُصحِّحُ الرُّؤيةِ الوجودُ"
– الشيخ: تمام، هذا أجودُ، جيِّدٌ، "مُصحِّحُ الرُّؤية" يعني: المعنى الَّذي يصحِّح إمكان الرُّؤية هو الوجود، هذا جيِّدٌ ينبغي أن يُشارَ إلى هذه النُّسخة وهي الصَّواب، "مصحِّحُ الرُّؤية الوجود" يعني المعنى الَّذي يقتضي صحَّةَ الرُّؤية هو الوجودُ، إذن كلُّ موجودٍ تمكن رؤيتُه وهذا من أبطل الباطل، كلُّ موجودٍ تمكن رؤيته؟ لا، ولهذا يقول عندك: إنَّهم التزموا هذه الدَّعوى فصحَّحوا رؤيةَ الأصواتِ ورؤيةَ المعاني والإرادات إلى آخر ما قال، وهذه حماقاتٌ، كلُّ عاقلٍ مفكِّرٌ يدرك أنَّ هذا أمرٌ غيرُ مفهومٍ، غيرُ معقولٍ، فالرُّؤيةُ لها متعلَّقٌ والسَّمعُ له متعلَّقٌ، السَّمع يتعلَّق بماذا؟ أيش يتعلَّق بالسَّمع؟
– القارئ: الأذنُ
– الشيخ: يتعلَّقُ بالألوان؟ ها؟
– القارئ: بالمسموعات بالصَّوت
– الشيخ: لا، السَّمع يتعلَّقُ بالأصوات، ولهذا يقول لك، القدرةُ تتعلَّقُ بماذا؟ بالممكنات، بالأمور الممكنةِ، فشيءٌ موجودٌ معدومٌ تتعلَّقُ به القدرةُ؟ ها؟ إذن هذا لا يُتصوَّرُ، لا يُتصوَّرُ شيءٌ موجودٌ معدومٌ، أعد.
– القارئ: والَّذينَ قالُوا يُرَى مِن غيرِ مقابلةٍ ولا مباينةٍ قالُوا: مصحِّحُ الرُّؤيةِ الوجودُ وَكُلُّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يَرَى، فَالْتَزَمُوا رُؤْيَةَ الْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ
– الشيخ: يعني التزموا بموجب هذه الدَّعوى، أنَّ مصحِّحَ الرُّؤية هو الوجودُ، إذن كلُّ موجودٍ تمكن رؤيته، يقول: فالتزموا.
– القارئ: فَالْتَزَمُوا رُؤْيَةَ الْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْمَعَانِي كُلِّهَا، وَجِوَازِ أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَشَمِّهَا وَلَمْسِهَا، فَهَذَا مُنْتَهَى عُقُولِهِمْ.
– الشيخ: الله أكبر، ما في تعليق هنا شيء؟
– القارئ: لا، قالَ: ذكرَ يُنظَرُ في مبحثِ الرُّؤيةِ والمخالفِينَ في تلبيسِ الجهميَّةِ، ودرءِ التَّعارُضِ
– الشيخ: يعني ابن تيميةَ يقصدُ؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: يقول أيش؟ ذكر مبحث؟
– القارئ: قالَ: يُنظَرُ في مبحثِ الرُّؤيةِ والمخالفِينَ لمذهبِ السَّلفِ، بيانُ تلبيسِ الجهميَّةِ، ودرءُ التَّعارُضِ، وشرحُ المواقفِ، ورؤيةُ اللهِ تعالى وتحقيقُ الكلامِ فيها للدُّكتور أحمدَ آلَ حمد. فقط
– الشيخ: وتحقيقُ الرًّؤية فيها لمن؟
– القارئ: أحمد بن ناصر آل حمد
قالَ رحمَهُ اللهُ: التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: إِنَّ مَنِ ادَّعَى مُعَارَضَةَ الْوَحْيِ بِعَقْلِهِ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73-74]، الثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67]
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدُرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَنْكَرَ إِرْسَالَهُ لِلرُّسُلِ، وَإِنْزَالَهُ الْكُتُبَ عَلَيْهِمْ; فَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ إِلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا إِنْكَارٌ لِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ وَحَقِيقَةِ إِلَهِيَّتِهِ وَلحِكْمَتِهِ ورحمته، وَلَمْ يَقْدُرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَلَمْ يَقْدُرْهُ مَنْ جَحَدَ صِفَاتِ كَمَالَهُ.
وَقَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِ النُّفَاةِ الْمُعَطِّلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بعَلِيٍّ وَلَا عَظِيمٍ; فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ عُلُوَّهُ وَعَظَمَتَهُ إِلَى مُجَرَّدِ أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ، كَمَا يُقَالُ: الذَّهَبُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فقَالُوا: مَعْنَاهُ عَلِيُّ الْقَدْرِ عَظِيمُ الْقَدْرِ.
قَالَ شَيْخُنَا -رحمَهُ اللهُ-: فَيُقَالُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَلِيُّ الذَّاتِ عَظِيمُ الْقَدْرِ، وَأَنَّ لَهُ فِي نَفْسِهِ قَدْرًا عَظِيمًا؟ أَمْ تُرِيدُونَ أَنَّ عَظَمَتَهُ وَقَدْرَهُ فِي النُّفُوسِ فَقَطْ؟ فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ، وَإِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ فَهُوَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ، فَلَا يُحْصِي أَحَدٌ ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ وَلَا يَعْلَمُ عِظَمَ قَدْرِهِ إِلَّا هُوَ، وَتِلْكَ صِفَةٌ يَمْتَازُ بِهَا وَيَخْتَصُّ بِهَا عَنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمَّا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَحْنُ نَعْلَمُ مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً لَيْسَ فِيهَا مَنْ عِظَمِ الرَّبِّ شَيْءٌ وَإِنْ أَضَفْتُمْ ذَلِكَ إِلَى مُجَرَّدِ تَعْظِيمِ الْقُلُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ وَقَدْرٌ عَظِيمٌ يَخْتَصُّ بِهِ، فَذَاكَ اعْتِقَادٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَصَاحِبُهُ قَدْ عَظَّمَهُ بِأَنِ اعْتَقَدَ فِيهِ عَظَمَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَذَلِكَ اعْتِقَادٌ يُضَاهِي اعْتِقَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي آلِهَتِهِمْ.
وَإِنْ قَالُوا: بَلْ نُرِيدُ مَعْنًى ثَالِثًا لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَهُوَ أَنَّ لَهُ فِي نَفْسِهِ قَدْرًا يَسْتَحِقُّهُ، لَكِنَّهُ قَدْرٌ مَعْنَوِيٌّ، قِيلَ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً عَظِيمَةً يَخْتَصُّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَصِفَاتٍ عَظِيمَةً يَتَمَيَّزُ بِهَا، وَذَاتًا عَظِيمَةً يَمْتَازُ بِهَا عَنِ الذَّوَاتِ وَمَاهِيَّةً أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَاهِيَّةٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ؟ فَذَلِكَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُحَقَّقٌ، وَإِذَا أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى الرَّبِّ كَانَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ، فَهُوَ فِي حَقِّ الْخَالِقِ قَدْرٌ يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَفِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ قَدْرٌ يُنَاسِبُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق:3] فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قَدْرًا يَخُصُّهُ، وَالْقَدْرُ يَكُونُ عِلْمِيًّا وَيَكُونُ عَيْنِيًّا، فَالْأَوَّلُ في التَّقْدِيرِ الْعِلْمِيِّ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ فِي الْعِلْمِ وَاللَّفْظِ وَالْكِتَابِ، كَمَا يَقْدُرُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ وَيَكْتُبَهُ وَيَفْعَلَهُ فَيَجْعَلُ لَهُ قَدْرًا، وَمِنْ هَذَا تَقْدِيرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَقَادِيرِ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ وَكِتَابِهِ قَبْلَ تَكْوِينِهَا، ثُمَّ كَوَّنَهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي عَلِمَهُ وَكَتَبَهُ.
فَالْقَدَرُ الْإِلَهِيُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ، وَالثَّانِي خَلْقُهَا وَبُرْؤُهَا وَتَصْوِيرُهَا بِقُدْرَتِهِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ الْإِبْدَاعَ وَالتَّقْدِيرَ جَمِيعًا، وَالْعِبَادُ لَا يَقْدُرُونَ الْخَالِقَ قَدْرَهُ، وَالْكُفَّارُ مِنْهُمْ لَا يَقْدُرُونَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ إِلَّا فِي حَقِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، وَهَذَا إِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] وَلَمْ يَقُلْ: وما قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ، فَإِنَّ حَقَّ قَدْرِهِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لِقَدْرِهِ، فَهُوَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ لِقَدْرِهِ سُبْحَانَهُ، فَجَحَدُوا ذَلِكَ الْحَقَّ وَأَنْكَرُوهُ، وَمَا قَامُوا بِذَلِكَ الْحَقِّ مَعْرِفَةً وَلَا إِقْرَارًا وَلَا عُبُودِيَّةً، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِبَعْضِ قَدْرِهِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَجُحُودِهِمْ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَعْلَمُ الْجُزَيْئَاتِ أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إِحْدَاثِ فِعْلٍ، فَشُبُهَاتُ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ تَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ، فَمَنْ أَقَرَّ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنَّهُ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ بِكُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ، قَادِرٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَقَدْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مُطْلَقًا.
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ قَدْ قَامُوا فِي ذَلِكَ حسب قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمُ الَّتِي أَعَانَهُمْ بِهَا، وَوَفَّقَهُمْ بِهَا
– الشيخ: وكأنَّ هذه كلّه منقولٌ؟
– القارئ: نعم
– الشيخ: كلُّه من كلام الشَّيخ؟ من كلام شيخ الإسلام؟
– القارئ: نعم لم يتوقَّف عن العزو
– الشيخ: والمحقِّقُ أحالَ؟ قف على هذا باركَ اللهُ بك، طويل
– القارئ: أحسن الله إليكم، بقي تقريبًا خمسة أسطرٍ وتنتهي
– الشيخ: نعم كمِّل
– القارئ: وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ قَدْ قَامُوا فِي ذَلِكَ حسب قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمُ الَّتِي أَعَانَهُمْ بِهَا، وَوَفَّقَهُمْ بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ هَذَا الْوَصْفُ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ لَهُ سُبْحَانَهُ الْمَعْرِفَة وَالْعِبَادَة، وَوَصْفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بمقدورهم في ذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْدُرُونَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا يَقْدُرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ قَدْرَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي يَدِهِ كَالْخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِهِ الْأُخْرَى كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَجَعَلَ لَهُ نِدًّا، وَأَنْكَرَ صِفَاتَهُ وَأَفْعَالَهُ؟ بَلْ كَيْفَ يَقْدُرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدَانِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْبِضَ بِهِمَا شَيْئًا؟ فَلَا يَدَ عِنْدَ الْمُعَطِّلَةِ وَلَا قَبْضَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَجَازٌ.
وَقَدْ شَرَعَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ ذِكْرَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: "الْعَلِيِّ، الْعَظِيمِ" فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، «لَمَّا نَزَلَتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ)، فَلَمَّا نَزَلَتْ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] قَالَ: (اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ) فَهُوَ سُبْحَانُهُ كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ فِي وَصْفِهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، وَقَوْلِهِ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9] يُثبتُ بِذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَعَظَمَتُهُ، فالْعُلُوُّ رِفْعَتُهُ، وَالْعَظَمَةُ عظمةُ قَدْرُهُ ذَاتًا وَوَصْفًا.
انتهى رحمَه الله
– الشيخ: بعده وجه؟
– القارئ: الوجهُ الْخَمْسُونَ
– الشيخ: حسبُك.