بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّلاة)
– الدّرس: الثّامن والثّلاثون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
(وتصحُّ خلفَ إمامٍ عالٍ عنهم)
– الشيخ: الحمدُ لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، يقول المصنّف: "وتصحُّ الصلاةُ خلفَ إمامٍ عالِ عنهم": نصَّ على هذا للخلافِ في ذلك، وهو ينصُّ على ما يرى أنَّه هو الصحيحُ، وتصحُّ الصلاةُ خلفَ إمامٍ عالٍ عنهم أي في مكانٍ مرتفعٍ، يكونُ الإمامُ مثلًا في الدورِ الأعلى والمأمومُ في الدورِ الأسفلِ، ولكن ثبتَ في الصحيحِ أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ صلّى على المنبرِ فقامَ وركعَ ورفعَ، فلمّا جاءَ السجودُ نزلَ وصلّى في أصلِ المنبرِ، وقال: (إنّما فعلتُ هذا لتأتمّوا بي ولتعلَّموا صلاتي)، فصلّى بهم ليعلِّمَهم، وهذا زيادةٌ في التعليمِ، وإلّا فقد علّمهم الصلاةَ لكن هذه زيادةٌ؛ لأنَّ الصلاةَ من مكانٍ مرتفعٍ تظهرُ لكلِّ المصلينَ من قيامٍ وركوعٍ واعتدالٍ، فالصحيحُ أنَّه يجوزُ أن يكونَ الإمامُ أعلى.
– القارئ: (ويُكرهُ إذا كانَ العلوُّ ذراعًا فأكثرَ كإمامتِه في الطاقِ)
– الشيخ: هذا نوعُ تقييدٍ، في الأوّلِ قال: تصحُّ، وهنا قال: تُكرهُ، والصحةُ لا تنافي الكراهةَ، فقد يكون الشيءُ مكروهًا لكنَّه صحيحٌ، فتصحُّ مطلقًا خلفَ إمامٍ عالٍ عنهم، لكن هنا يقولُ: تُكرهُ الصلاةُ خلفَهُ إذا كان ارتفاعُه ذراعًا فأكثر، ويُروى في ذلك حديثٌ وهو النهيُ عن أن يكونَ الإمامُ أعلى من المأمومينَ، ولكنَّ الحديثَ الصحيحَ هو ما تقدّمَ، فالصحيحُ أنَّه لا يُكرهُ ولو كان أكثر من ذراعٍ؛ لأنَّ هذا التقييدَ يحتاجُ إلى حديثٍ صحيحٍ.
"كإمامتِهِ في الطاقِ": أي طاقَ القبلةِ، والطاقُ: هو المحرابُ الداخلُ بعمقٍ، بحيثُ لو دخلَهُ الإمامُ لا يراهُ إلَّا من خلفَهُ. وقالوا بكراهتِهِ لأنَّه يسترُ الإمامَ عن المأمومين، وهذا تشبيهٌ، أي أنَّها تُكرهُ في مكانٍ مرتفعٍ كما تُكرهُ في الطاقِ.
والصحيحُ: أنَّه لا يُكرهُ، ولاسيَّما إن كان خارجًا عن المحرابِ، إذا كان يقومُ خارجَ المحرابِ ويسجدُ، يكونُ سجودُهُ في المحرابِ؛ فإنَّه هنا لا يُكرهُ حتى على قولِهم؛ لأنَّه لا يُكرهُ سجودُ الإمامِ في المحرابِ عندَهم، أمَّا إذا كان يدخلُ ويقفُ من داخلِ المحرابِ، فالصحيحُ أنَّه لا يُكرهُ لا سيّما إذا دعت إليه حاجةٌ كضيقِ المكانِ مثلًا. وبعضُهم قال بكراهةِ وجودِ المحرابِ كلِّه، والصحيحُ أنَّه لا يوجدُ دليلٌ على الكراهةِ بل فيه مصلحةٌ، وقد نصَّ الفقهاءُ على أنَّه يُستدلُّ على القبلةِ بالمحاريبِ.
– القارئ: (وتطوُّعُه موضعَ المكتوبةِ، إلا من حاجةٍ)
– الشيخ: أي: يُكرهُ، وهذا أيضًا من المشبّهِ به، كذلك يُكرهُ تطوّعُ الإمامِ في موضعِ المكتوبةِ بحيثُ إنَّه يُصلَّي مكانَه، أي يتطوعُ، يُصلّي الراتبةَ مكانَه، واستدلّوا بحديثٍ لكنّه مضعَّفٌ عند أهلِ الحديثِ. وعليه: فإنَّه لا يُكرهُ، لكن ينبغي عليه كالمأمومِ ألَّا يصلي النافلةَ إثرَ الفريضةِ بما صحَّ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- من حديثِ معاويةَ رضي اللهُ عنه قال: (أُمرنا أن لا نَصِلَ صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نخرجَ)، وهذا يشملُ الإمامَ والمأمومَ، فلا يتنفّلُ على إثرِ أدائِه للفريضةِ كما يفعلُ بعضُ الناسِ، إذا سَلَّم َالإمامُ نهضَ ليأتي بالنافلةِ، موجبُ هذا الحديثِ أنَّ عليه أن ينتظرَ حتى يتكلمَ ولو بأذكارِ الصلاةِ، أو يتحولَ من مكانِه.
"إلّا من حاجةٍ": لعلَّ الحاجةَ تدعوه ربَّما لضيقِ المكانِ، الآنَ كثيرٌ من الأئمةِ يحافظُ على هذا المعنى كأنْ يجدَ مكانًا في الصفِّ الذي خلفَهُ فيُصلّي، وأحيانًا يقومُ المأمومُ إلى مكانٍ آخرَ فيأتي الإمامُ إلى مكانِهِ، لكنْ أحيانًا يضيقُ المكانُ، فالمؤلفُ قيّدَ ذلك بعدمِ الحاجةِ، والمكروهُ في قواعدِ الفقهِ يزولُ عنه حكمُ الكراهةِ للحاجةِ العارضةِ.
– القارئ: (وإطالةُ قعودِه بعد الصلاةِ مستقبلَ القبلةِ)
– الشيخ: أي يُصلّي ثمَّ يبقى في مكانِهِ مستقبلَ القبلةِ، والسنّةُ: أن ينصرفَ إلى المأمومينَ ويستقبلَ المأمومينَ، هذا هديُ الرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ، ينصرفُ إمَّا عن يمينِهِ أو شمالِهِ، سِيَّان.
– القارئ: (فإن كان ثَمَّ نساءٌ لبثَ قليلًا لينصرفنَ)
– الشيخ: إذا كان هناكَ نساءٌ موجوداتٌ صلَّينَ مع الجماعةِ، فينتظرُ قليلًا حتى ينصرفنَ؛ لأنَّ المأمومينَ لا ينبغي أن ينصرفوا إلَّا إذا انصرفَ الإمامُ، فإذا كان ثَمَّ نساءٌ انتظرَ الإمامُ حتى ينتظرَ المأمومين؛ لأنَّه إذا انصرفَ انصرفوا، وبالتالي يحصلُ الاختلاطُ بالنساءِ.
– القارئ: (ويُكرهُ وقوفُهم بين السَّواري إذا قطعنَ صفوفَهُم)
– الشيخ: كذلك يُكرهُ وقوفُ المصلينَ بين السواري، والسواري: جمعُ ساريةٍ وهي العمودُ، إذا قطعنَ الصفوفَ؛ لأنَّ الواجبَ اتصالُ الصفوفِ بحيثُ لا تكونُ مقطعةً، وقد جاءَ في ذلك النهيُ عن الوقوفِ بين السواري.
يقولُ: "إذا قطعنَ الصفوفَ": ولا أدري كيف لا يقطعنَ الصفوفَ؟ فإذا اصطفَّ الناسُ بين السواري كيف لا يقطعنَ الصفوفَ؟ إذا صلّوا بينهنَّ فلازمُ ذلك أن يقطعنَ الصفوفَ، إلَّا أن يكونَ الجماعةُ، فيقفونَ بين ساريتينِ من غيرِ قطعٍ، فمثلًا: نفرضُ بين الساريتين عشرةُ أمتارٍ، والحضورُ لا يزيدونَ على ما بين الساريتين، فهنا انتفت المفسدةُ؛ لأنَّ الصفَّ لم ينقطعْ.
– القارئ: قال في "الروضِ":
"(ويُكره وقوفُهم) أي المأمومينَ (بين السواري إذا قطعنَ) الصفوفَ عرفًا، بلا حاجةٍ؛ لقولِ أنسٍ: (كنّا نتّقي هذا على عهدِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-) رواهُ أحمدُ وأبو داودَ وإسنادُه ثقاتٌ، فإن كان الصفُّ صغيرًا، قدر ما بين الساريتين فلا بأس" اهـ
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قوله: "كإمامتِه في الطاقِ": أي كما يُكرهُ دخولُ الإِمامِ في الطَّاق، والمرادُ بالطَّاقِ طاقُ القِبْلةِ الذي يُسمَّى "المِحراب"، وطاقُ القِبْلةِ يكون مقوَّسًا مفتوحًا في عرضِ الجِدارِ، وأحيانًا يكون واسعًا بحيث يقفُ الإِمامُ فيه ويصلِّي ويسجدُ في نَفْسِ المِحراب، فيُكره؛ لآثارٍ وَرَدت عن الصحابةِ رضي اللهُ عنهم؛ ولأنَّه إذا دَخَلَ في الطَّاق استترَ عن بعضِ المأمومين فلا يَرَونه لو أخطأ في القيامِ أو الرُّكوعِ أو السُّجودِ فلهذا يُكره، ولكن إذا كان لحاجةٍ مثل: أن تكون الجماعةُ كثيرةً؛ واحتاجَ الإِمامُ إلى أن يتقدَّمَ حتى يكون في الطَّاقِ فإنه لا بأسَ به.
أمَّا إذا كان الإِمامُ في بابِ الطَّاقِ، ولم يدخل فيه، ولم يتغيَّبْ عن النَّاسِ، وكان محلُّ سجودِه في الطَّاقِ، فلا بأسَ به. ويمكن أن يُؤخذَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّ هذا الطَّاقَ الذي هو المِحراب ليس بمكروهٍ وهو كذلك، فاتخاذُ المحرابِ ليس بمكروهٍ، وإن كان بعضُ العلماءِ استحبَّه؛ لما فيه مِن الدلالةِ على القِبْلةِ، وعلى مكانِ الإِمامِ، وبعضُهم كَرِهَه، وقال: إنَّه غيرُ معروف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم نَهى عن اتِّخاذِ المساجدِ مذابحَ مثلَ مذابحِ النَّصارى يجعلون لها الطَّاق؛ فهذا يقتضي كراهتَه.
والصَّحيحُ: أنَّه مباحٌ، فلا نأمرُ به ولا ننهى عنه، والقولُ بأنَّه مُستحبٌّ أقربُ إلى الصَّوابِ مِن القولِ بأنَّه مكروهٌ؛ لأنَّ الذي وَرَدَ النَّهيُ عنه مذابح كمذابحِ النصارى، أي: أن نتخذَ المحاريبَ كمحاريبِ النَّصارى، أمَّا إذا كانت تختلِفُ عنهم فلا كراهةَ؛ لأنَّ العِلَّةَ في المحاريبِ المشابهةِ لمحاريبِ النَّصارى هي التشبُّه بهم، فإذا لم يكن تشبُّه فلا كراهةَ.
فلو قال قائل: إذا كان الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلْها فما بالُنا نفعلُها؟ فالجواب: أنَّ النَّبيَّ -صلّى اللهُ عليه وسلّمَ- لم يفعلْها إما لعدمِ الحاجةِ إليها، أو لأنَّ ذلك قد يكلِّفُ في البناءِ في ذلك الوقتِ، أو لغير ذلك مِن الأسبابِ، فما دامت ليست متَّخذةً على وَجْهِ التعبُّدِ، وفيها مصلحةٌ؛ لأنَّها تُبيّنُ للنَّاسِ محلَّ القِبْلة فكيف نكرهها؟! ولو أنَّ المسجدَ لا مِحراب فيه ثم دَخَلَ رَجُلٌ غريبٌ فسوف تشتَبِهُ عليه القِبْلة، ولهذا قالوا في باب استقبالِ القبلة: إنَّه يُستدلُّ عليها بالمحاريبِ الإِسلاميةِ.
– الشيخ: هذا يجرُّنا إلى مسألةٍ يحدثُ فيها جدلٌ وهي: "تخطيطُ الصفوفِ" من أجلِ تعديلِ الصفِّ، بعضُ الناسِ يقولُ: هذه بدعةٌ، وبعضُهم يقولُ: ليست ببدعةٍ، وأنا أرى أنَّها تُفعلُ للمصلحةِ الدافعةِ إليها؛ لأنَّه مع وجودِ الفُرُشِ في أغلبِ المساجدِ الآن لا تنضبطُ الصفوفُ إلَّا بالخطّ، وقديمًا كانوا يُصلّونَ على الرّملِ، فكانوا يَعرفونَ الصفَّ بموضعِ أقدامِهم فكان واضحًا، لكن الآنَ لا يعرفونَ كيف يُقيمونَ الصفَّ إلَّا بجهدٍ، فوضعُ هذا الخطِّ لا كراهةَ فيه ولا نُسميهِ بدعةً؛ لأنَّهم ما فعلوهُ تعبدًا، وكذلك وقعَ الخلافُ في الخطِّ الذي وضعوهُ في الحرمِ ليدلَّ على الحجرِ الأسودِ، ثمَّ حصلَ فيه اختلافٌ وجدلٌ! وكانت النتيجةُ أنَّهم أزالوه، لكن ذاك قالوا تحصلُ فيه مفسدةٌ، يعني غير مصلحةِ الدلالةِ، وهي مسألةُ الوقوفِ عليه وتعويقِ الطائفينَ، وكثيرٌ من الناسِ اعتادوا أن يقفونَ ويُطيلونَ الوقوفَ يُشيرونَ للحجرِ الأسودِ لا مرَّةً واحدةً بل مرّاتٍ؛ لذلك انتهى الأمرُ بإزالتِهِ.
– القارئ: قوله: "وتطوعه موضع المكتوبةِ": أ: يُكرهُ تطوُّعُ الإِمامِ في موضعِ المكتوبةِ، أي: في المكانِ الذي صلَّى فيه المكتوبةَ. ودليلُ ذلك ما يلي: أولًا: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (لا يُصَلِّ الإِمامُ في مُقَامِهِ الذي صَلَّى فيه المكتوبةَ، حتى يَتَنَحَّى عنه)، ولكنَّه ضعيفٌ لانقطاعِه.
ثانيًا: ربما إذا تطوَّعَ في موضع المكتوبة يَظنُّ مَن شاهدَه أنَّه تذكَّرَ نقصًا في صلاته؛ فيلبّس على المأمومين. فلهذا يُقال له: لا تتطوّعْ في موضعِ المكتوبةِ، ولا سيَّما إذا باشرَ الفريضةَ، بمعنى أنَّه تطوَّعَ عقبَ الفريضةِ فورًا. وظاهرُ كلامِ المؤلِّف: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يتطوَّع في هذا المكان قبل الصَّلاة أو بعدَها، وهذا غير مراد بل المرادُ بعد الصلاةِ. أمَّا المأموم؛ فإنه لا يُكره له أن يتطوَّع في موضع المكتوبةِ. لكن؛ ذكروا أنَّ الأفضلَ أن يَفْصِلَ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ بكلامٍ أو انتقال مِن موضعه.
قوله: "إلَّا من حاجةٍ" الحاجةُ دون الضَّرورة؛ لأنَّ الضَّرورةَ هي التي إذا لم يقمْ بها الإِنسانُ أصابه الضَّرر.
والحاجةُ هي التي تكون مِن مكمِّلاتِ مرادِه، وليس في ضرورةٍ إليها. مثالُ الحاجة هنا: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكانٌ ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجًا إلى أن يتطوَّعَ في موضعِ المكتوبةِ.
قولُه: "وإطالةُ قعودِه بعدَ الصلاةِ مستقبلَ القبلةِ": أي يُكرهُ للإِمامِ أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلامِ مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: "أستغفرُ الله ـ ثلاث مرات ـ اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ"، ثمَّ ينصرفُ: هذه هي السُّنَّةُ، فإطالةُ قعودِه بعدَ السَّلامِ مستقبلَ القِبْلة فيه محاذير هي: أولًا: أنَّه خِلافُ السُّنَّةِ. ثانيًا: حَبْسُ النَّاسِ؛ لأنَّ المأمومينَ منهيّونَ أنْ ينصرفوا قبل انصرافِ الإِمامِ، فإذا بقيَ مستقبلَ القِبْلة كثيرًا حَبَسَ النَّاسَ. ثالثًا: أنه قد يَظنُّ مَن خلفَه أنه يتذكَّرُ شيئًا نسيه في الصَّلاةِ، فيرتبكُ المأمومُ في هذا.
وابتداءُ الانصرافِ مِن اليسارِ أو مِن اليمينِ كُلُّ ذلك وَرَدَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. فَوَرَدَ أنه ينصرفُ عن يمينه ثم يستقبلُ النَّاسَ، وأنَّه ينصرفُ عن يسارِه، ثم يستقبلُ النَّاسَ، فأنت إنْ شئتَ انصرفْ عن اليمين، وإن شئتَ انصرفْ عن اليسارِ، كُلُّ هذا سُنَّةٌ.
قولُه: "فإن كان ثَمَّ نساء": أي في المسجدِ نساءٌ. "لبث قليلًا" أي: لَبِثَ مستقبلَ القِبْلة قليلًا.
قولُه: "لينصرفن": أي النساءُ قبلَ الرِّجالِ، كما ثَبَتَ عن أمِّ سلمةَ رضي اللهُ عنها قالت: (كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سَلَّمَ، قامَ النِّساءُ حين يقضي تَسْلِيمَهُ، ويمكُثُ هو في مَقَامِهِ يسيرًا قبل أنْ يقومَ. قال: نرى ـ والله أعلم ـ أنَّ ذلك كان لكي ينصرفَ النِّساءُ، قبل أن يُدْرِكَهُنَّ أحدٌ مِن الرِّجالِ).
وذلك لأن الرِّجالَ إذا انصرفوا قبلَ انصرافِ النِّساءِ لَزِمَ مِن هذا اختلاطُ الرِّجالِ بالنِّساءِ، وهذا مِن أسبابِ الفتنة، حتى إنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم قال: (خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرها، وَشَرُّها أوَّلُها)، لأن أوَّلَها أقربُ إلى الرِّجالِ مِن آخرها، فهو أقربُ إلى الاختلاطِ. وفي هذا دليلٌ واضحٌ جدًا على أنَّ مِن أهدافِ الإِسلامِ بُعْدُ النساءِ عن الرِّجال، وأنَّ المبدأ الإِسلاميَّ هو عَزْلُ الرِّجالِ عن النساءِ، خلافَ المبدأ الغربيِّ الكافرِ الذي يريدُ أن يختلِطَ النساءُ بالرِّجالِ، والذي انخدعَ به كثيرٌ مِن المسلمين اليوم، وصاروا لا يُبالونَ باختلاطِ المرأةِ مع الرِّجالِ، بل يَرَون أنَّ هذه هي الديمقراطية والتقدُّم، وفي الحقيقة أنَّها التأخُّر؛ لأنَّ اختلاطَ المرأةِ بالرِّجال هو إشباعٌ لرغبةِ الرَّجُلِ على حسابِ المرأةِ، فأين الديمقراطية كما يزعمون؟! إن هذا هو الجَور، أما العدلُ فأن تبقى المرأةُ مصونةً محروسةً لا يَعبثُ بها الرِّجالُ، لا بالنَّظَرِ ولا بالكلامِ ولا باللَّمس ولا بأي شيء يوجب الفتنة. لكن؛ لضعفِ الإِيمانِ والبُعدِ عن تعاليم الإِسلام صارَ هؤلاءِ المخدوعون منخدعين بما عليه الأممُ الكافرةُ، ونحن نعلمُ بما تواترَ عندنا أنَّ الأممَ الكافرةَ الآن تَئِنُّ أنينَ المريضِ المُدنفِ تحت وطأة هذه الأوضاع، وتودُّ أن تتخلَّصَ مِن هذا الاختلاطِ، ولكّنه لا يمكنها الآن؛ فقد اتَّسعَ الخرقُ على الرَّاقعِ. لكن الذي يُؤسفُ له أيضًا: مَن يريدُ مِن المسلمين أنْ يلحقوا برَكْبِ هؤلاء الذين ينادون بما يسمُّونه "الحرية"، وهي في الحقيقةِ حرية هوًى، لا حرية هُدًى، كما قال ابن القيم رحمه الله:
هربوا مِن الرِّقِّ الذي خُلقوا له *** فَبُلوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشيطان
فالرِّقُ الذي خُلقوا له هو: الرِّقُ لله عزّ وجل، بأن تكون عبدًا لله حقًا، لكن؛ هؤلاء هربوا منه، وبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشيطان، فصاروا الآن ينعقون ويخطِّطون مِن أجلِ أن تكون المرأةُ والرَّجُلُ على حَدٍّ سواءٍ في المكتبِ، وفي المتجرِ، وفي كُلِّ شيءٍ.
– الشيخ: رحمَ اللهُ الشيخَ، لم يدركْ ما بلغَ الأمرُ في هذه السنواتِ القريبةِ، وما عَلِمَ عن وثيقةِ السّيداو التي تفرضُ على الحكوماتِ والمجتمعاتِ المتخلفةِ التابعةِ للأممِ المتحدةِ، تفرضُ عليهم عدمَ التمييزِ بين الرجلِ والمرأةِ، يُسمّونَها وثيقةَ القضاءِ على جميعِ أشكالِ التمييزِ ضدَّ المرأةِ، وهذا مُفصّلٌ في تلكَ الوثيقةِ، أنَّه يجبُ على كلِّ الموقعين على هذه الوثيقةِ أن يُطبّقها تطبيقًا، وأنَّ هيئةَ الأممِ ستتابعُ تطبيقَ هذه الوثيقةِ التي مضمونُها التسويةُ بين الرجلِ والمرأةِ في جميعِ الشؤونِ؛ في التعليمِ وفي الحياةِ الاجتماعيةِ، إلى العلاقةِ بين الزوجين؛ بأنْ تكونَ الزوجةُ نِدًّا للرجلِ، فاعرفوها وأقرأوها لتتصوّروا الواقعَ.
– القارئ: وإني لأشهدُ باللهِ أنَّ هؤلاءِ غاشُّونَ لدينهم وللمسلمين؛ لأنَّ الواجبَ أن يتلقَّى المسلمُ تعاليمَه مِن كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وهَدي السَّلفِ الصَّالحِ، ونحن إذا رأينا تعاليمَ الشَّارعِ الحكيمِ وجدنا أنَّه يسعى بكُلِّ ما يستطيعُ إلى إبعادِ المرأةِ عن الرَّجُلِ، فيبقى الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم في مصلاَّه إذا سَلَّمَ حتى ينصرفَ النساءُ من أجلِ عدم الاختلاط، هذا مع أنَّ النَّاسَ في ذلك الوقت أطهرُ مِن النَّاسِ في أوقاتنا هذه، وأقوى إيمانًا كما قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم).
وقوله: "فإنْ كان ثَمَّ"، "ثَمَّ" بمعنى: هناك، وهي مفتوحةُ الثاء، وليست مضمومة قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان:20]، وما أكثر الذين يغلطون فيها فيقولون: (ثُمَّ) بالضَّمِ، و "ثُمَّ" بالضَّمِ حرفُ عطفٍ لا ظرف.
قولُه: "يُكرهُ وقوفُهم": أي وقوفُ المأمومين. قولُه: "بين السواري" أي: الأعمدة. قولُه: "إذا قطعنَ الصفوفَ": اشترطَ المؤلِّفُ للكراهةِ أن تقطعَ الصفوفَ. وما مقدارُ القطعِ؟ قيَّدَهُ بعضُهم بثلاثةِ أذرعٍ، فقال: إذا كانت السَّاريةُ ثلاثةَ أذرعٍ فإنَّها تقطعُ الصَّفَّ، وما دونَها لا يقطعُ الصَّفُّ. وقالَ بعضُ العلماءِ: بمقدارِ قيامِ ثلاثةِ رجالٍ، ومقدارُ قيامِ ثلاثةِ رجالٍ أقلَّ مِن ثلاثةِ أذرعٍ.
وقيل: المعتبرُ العُرفُ وهو ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ، وأمَّا السَّواري التي دونَ ذلك فهي صغيرةٌ لا تقطعُ الصُّفوفَ، ولا سيَّما إذا تباعدَ ما بينها. وعلى هذا؛ فلا يُكرهُ الوقوفُ بينها، ومتى صارت السَّواري على حَدٍّ يُكرهُ الوقوفُ بينها فإنَّ ذلك مشروطٌ بعدمِ الحاجةِ، فإنْ احتيجَ إلى ذلك بأن كانت الجماعةُ كثيرةً والمسجدُ ضيقًا فإنَّ ذلك لا بأسَ به من أجلِ الحاجةِ؛ لأنَّ وقوفَهم بين السَّواري في المسجدِ خيرٌ مِن وقوفِهم خارجَ المسجدِ، وما زالَ النَّاسُ يعملونَ به في المسجدين؛ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النَّبويِّ عند الحاجةِ؛ وإنما كُرِهَ ذلك لأنَّ الصَّحابةَ كانوا يَتوقَّون هذا حتى إنَّهم أحيانًا كانوا يُطْرَدون عنها طَرْدًا، ولأنَّ المطلوبَ في المصافةِ التَّراصُّ مِن أجلِ أن يكونَ النَّاسُ صفًّا واحدًا، فإذا كان هناك سواري تقطعُ الصُّفوفَ فاتَ هذا المقصودُ للشَّارعِ.
– الشيخ: ولهذا الناسُ الآن مع اليسرِ – وللهِ الحمدُ- يجعلونَ السّواري خلفَهم، لكن تأتي مشكلةٌ وهي إذا صارَ الصفُّ لاصقًا بالعمودِ؛ يضطرُ من يُحاذي العمودَ أن يتقدَّمَ شيئًا عند الركوعِ، فلهذا كان من حُسنِ التصرّفِ الجاري: أن يجعلوه متقدمًا على العمودِ شيئًا يسيرًا حتى يستطيع الركوعَ، وهذا حسنٌ، وهذا من محاسنِ الخطِّ.
– مداخلة: شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ قال: من استباحَ الاختلاطَ المحرَّمَ فهو كافرٌ، ما ضابطُ الاختلاطِ المحرّمِ؟
– الشيخ: الاختلاطُ المحرَّمُ هو الذي يتضمَّنُ النظرَ والكلامَ ويستلزمُ الخَلوةَ، والاختلاطُ الذي ليس فيه هذه الأمورُ لا بدَّ للناسِ منه، المجتمعُ مكوَّنٌ من الرجالِ والنساءِ.