(47) “فصل” قوله ولا يشترط لهما الطهارة

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّلاة)
– الدّرس: السّابع والأربعون

 ***    ***    ***    ***

– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنّفُ رحمهُ اللهُ تعالى في شروطِ صِحّةِ صلاةِ الجمعةِ:
(ولا يشترطُ لهما الطّهارةُ، ولا أن يتولاهُما مَن يتولّى الصلاةَ)

– الشيخ: يقول: لا يشترطُ للخطبتين الطهارةُ، فلو خطبَ خطيبٌ على غيرِ طهارةٍ صَحَّتْ الخطبةُ، لأنَّها ليست بصلاةٍ، وإن كانتً واجبةً، فيُستحبُّ له الطهارةُ، لأنّهما تُشبهانِ الأذان، فالأذانُ يصحُّ من المحدثِ، فلا تشترطُ لهما الطهارةُ، وهذا بالنسبةِ للحدثِ الأصغرِ، أمَّا الحدثُ الأكبرُ فإنَّ الجُنبَ منهيٌ عن المُكثِ في المسجدِ، ولكنَّه لو خطبَ صَحَّتْ الخطبةُ، لكن فيه تفريطٌ، لكنَّه لو نسيَ الجنابةَ وخطبَ صحَّتْ الخطبةُ، لكن لو كان عالمًا بحالِه فإنَّه عليه أن يغتسلَ، أو على أقلّ الأحوالِ يتوضأ، لأنَّه جاءَ عن الصحابةِ أنَّهم إذا أرادَ أحدُهم الجلوسَ في المسجدِ توضّأ؛ لأنَّ الوضوءَ يُخفّفُ الجنابةَ، وكذا يترتَّبُ على خطبةِ الجنبِ أنَّه يقرأُ قرآن، وتقدَّمَ أنَّ من أركان الخطبةِ قراءةُ آيةٍ، فتولّي الجنبَ للخطبةِ يُؤدّي إلى أنْ يقرأَ قرآنًا، وكان النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (لا يحجُبُه عن القرآنِ إلَّا الجنابة)، وقال عليٌّ كان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (يُقرئُنا القرآنَ ما لم يكن جُنُبًا)، وغايةُ القولِ أنَّه يأثمُ، لكنَّ الخطبةَ صحيحةٌ.
والأمرُ الثاني الذي نبَّه له المصنّفُ وهو أنَّه لا يُشترطُ أنْ يتولّى الخطبةَ من يتولّى الصلاةَ، فلو خطبَ واحدٌ، وصلّى آخرُ صحَّ؛ لأنَّه لا ارتباطَ بينهما، ليست الخطبتانِ كركعتينِ من جهةِ ارتباطِهما بالصلاةِ، وإن كانت الخطبتانِ واجبتانِ لصلاةِ الجمعةِ، ثمَّ يُتصورُ هذا أنَّه خطبَ ثمَّ تذكرَ أنَّه على غيرِ مُتوضّئ فنزلَ وأمَّ غيرُه، فالخطبةُ صحيحةٌ.
 
– القارئ: (ومن سننِهمَا)
– الشيخ:
انتقلَ المؤلّفُ من شروطِ الخطبتينِ إلى سُننِ الخطبتين، وسننُ الخطبتين كسننِ سائرِ العباداتِ كالصلاةِ مثلًا لها أركانٌ وشروطٌ وسننٌ، والسننُ في اصطلاحِ الفقهاءِ أنَّه يُثابُ فاعلُها ولا يُعاقبُ تاركُها، يعني قريبٌ من معنى المستحب، فسننُ الخطبةِ أمورُها المستحبّةُ، ولكن كلمةُ السنّة لها دلالةٌ وهي أنّها من هدي النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فنقولُ: هذا سنَّةٌ، وهذه السننُ منها ما هو ثابتٌ ومنها ما وردَ بأحاديثَ ضعيفة.
 
– القارئ: (أن يخطبَ على منبرٍ أو موضعٍ عالٍ)
– الشيخ: المنبرُ هو المكانُ المخصّصُ للخطيبِ وهذا ما عليه المسلمون، وأصلُ هذا أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (طلبَ من امرأةٍ لها غلامٌ نجّارٌ أن يصنعَ له منبرًا)، وكان النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قبلَ ذلك يخطبُ مستندًا إلى جذعٍ، فلمَّا صُنعَ له المنبرُ وخطبَ عليه ثبتَ في الصحيحِ: (أنَّ الجذعَ حنَّ إليه وصاحَ كصياحِ الصبيّ حتى جاءَ إليه النبيُّ وسكّتَه وضمَّه)
وهذه آيةٌ من آياتِ اللهِ ومعجزةٌ دالّةٌ على نبوّتِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وهذا يُشعرُ أنَّ الجماداتِ لها إدراكٌ وهذا كثيرٌ لكنَّنا نحن لا نُدركُه، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]
وقد سُمعَ تسبيحُ الحصى في كفّ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-. فالمقصود: أنَّه يُسنُّ أن يكونَ للإمامِ منبرٌ أو مكانٌ مرتفعٌ، والمقصودُ من ذلك هو إيصالُ الصوتِ، ومن المعروفِ أنَّ صوتَ الإنسانِ وهو قاعدٌ ليس كصوتِه وهو قائمٌ ومن مكانٍ مرتفعٍ في الإبلاغِ، كالمؤذنِ فإنَّه يُطلبُ منه وهو قائمٌ، فالمقصودُ هو الإسماعُ، فهذه سنةٌ لا ريبَ فيها وهي أن يخطبَ من مكانٍ مرتفعٍ وذلك بحسبِ الحالِ.
– مداخلةٌ: ارتفاعُ المنبرِ؟
– الشيخ: كان المنبرُ درجاتٍ، وما يفعلُه الناسُ الآن فيه مبالغاتٌ، ولا سيّما الآن فقد قلَّتِ الحاجةُ مع وجودِ المكبراتِ، والآن هل خروجُ الإمامِ إلى مكانٍ عالٍ أو على منبرٍ هل له معنى من جهةِ الإبلاغِ والإسماعِ؟ لا، وفائدتُه الآن هو ظهورُهُ للناسِ بحيث يرونَه، ورؤيتُهم له أبلغُ في الإقبالِ والتلقّي، أمَّا من حيثُ الإسماعِ فإنَّ المكبراتِ تشقُّ المسامعَ، ويبالغُ الناسُ في المكبراتِ، وكذلك يبالغونَ في تصميمِ المنابرِ الفخمةِ من حيثُ الارتفاعِ والسعةِ.
 
– القارئ: (ويُسلِّمَ على المأمومينَ إذا أقبلَ عليهِم)
– الشيخ: يُسلّمُ على المأمومينَ السلامَ العامَّ على الجميعِ، وإلَّا فإنَّه إذا دخلَ وكان الخطيبُ يدخلُ من جانبِ المسجدِ، وليس كحالِ اليومِ يُجعلُ له بابٌ ينفذُ منه إلى المنبرِ فورًا، فلا يشعرُ به الناسِ حتى يسلّمَ عليهم، فكان يدخلُ ويمرُّ بالصفّ، فهذا يشرعُ له أن يُسلَّمَ السلامَ المشروعَ في كلِّ لقاءٍ بين المسلمين، ثمّ إذا صعدَ المنبرَ سلَّمَ عليهم.
 
– القارئ: (ثم يجلسَ إلى فراغِ الأذانِ)
– الشيخ: وكذلك هذا سنّةٌ، أن يجلسَ ولا يبقى واقفًا، لأنَّه إذا صعدَ الإمامُ المنبرَ فإنَّه يؤذّنُ، وهذا الذي عليه عملُ المسلمين من عهدِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وهذا هو النداءُ الثاني الذي لا يجوزُ السفرُ بعدَه لمن سمعَه، يجلسُ ويجيبُ المؤذنَ كغيرِه، إلى آخرِ كلماتِ الأذانِ؛ لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: (إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا مِثلما يقولُ، ثمَّ صلّوا عليَّ)، وفي حديثٍ آخرَ: (من قال حينما يسمعُ النداءَ اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التامَّةِ).
 
– القارئ: (ويجلسَ بين الخطبتين)
– الشيخ: وهذا أيضًا من السننِ، أن يجلسَ بين الخطبتين، وهذا الجلوسُ هو الذي يُميّزُ أنَّهما خطبتان، وهذا ثابتٌ في الصحيحِ أنَّه عليه الصلاةُ السلامُ: (كان يجلسُ بين الخطبتين، كان يخطبُ قائمًا، ثمَّ يقعدُ، ثمَّ يقومُ)، والجلسةُ تكونُ خفيفةً، ولا يشرعُ فيها شيءٌ معيَّنٌ، لا للإمامِ ولا للمأمومين، لكن إذا استثمرَهُ بالدعاءِ فحسنٌ، وهذا الوقتُ داخلٌ في ساعةِ الإجابةِ على أحدِ القولين، فيمكنُ أن يدعوَ المأمومُ لكن بدونِ تطويلٍ وبدونِ رفعِ يدين.
 
– القارئ: (ويخطُبَ قائمًا)
– الشيخ: وهذا هو هديُ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وقد جاءَ في القرآنِ: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، فالقيامُ دلَّ عليه القرآنُ والسنَّةُ وإجماعُ الأُمّةِ أنَّ الخطيبَ يُسنُّ له القيامُ.
 
– القارئ: (ويعتمدَ على سيفٍ أو قوسٍ أو عصى)
– الشيخ: ويقولون أنَّ هذا من السننِ، وقد جاءَ فيه حديثٌ وهو أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، (خطبَ وهو معتمدٌ على عصا أو قوسٍ)، وبعضُهم قال: سيفٌ، والحديثُ ضعيفٌ، ولهذا فإنَّ هذا ليس من السننِ الثابتةِ، لكن إذا احتاجَ الإنسانُ لشيءٍ يعتمدُ عليه كعصا أو نحوه، واليوم أصبحتِ المنابرُ فيها حواجزٌ حديديةٌ وهذه تغنيهِ عن العصا وما نحوها.
 
– القارئ: (ويقصدَ تلقاءَ وجههِ)
– الشيخ: يعني يُقبِلُ على الناسِ بوجهِه، ولا ينحرفُ يمينًا ولا شمالًا، أي يكونون أي المأمومين بالنسبةِ بالإمامِ بحسبِ مواقعِهم ومجالِسهم.
 
– القارئ: (ويَقصُرَ الخُطبةَ، ويَدعو للمسلمينَ)

– الشيخ: "ويقصرَ الخطبةَ": وهذا جاءَ فيه حديثٌ صحيحٌ: (إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرِ خطبتِه مَئِنةٌ من فقهه)؛ أي: علامةٌ على فقه، ومعنى هذا أنَّ تطويلَ الخطبةِ وتقصيرَ الصلاةِ علامةٌ على عدمِ فقهِهِ، أو قلَّةَ فقهِهِ، وكفى بهذا تنفيرًا عن التطويلِ في الخطبةِ، والطولُ والقصرُ هي من الأمورِ النسبيّةِ، فإذا رجعنا إلى الصلاةِ وجدنا الرسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان يقرأُ في الركعتين كما سيأتي، سبّح، والغاشيةَ، أو الجمعةَ والمنافقون، فهذا هو الطولُ المناسبُ، وهذه السُّوَرُ هي التي ذكرَها النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عندمَا قال لمعاذٍ: (أفتّانٌ أنت يا معاذُ)، اقرأ كذا وكذا، وقال له هذه السورَ، والركوعُ والسجودُ يكون مناسبًا، ونسبيًا إذا كانتِ الخطبةُ عشرَ دقائق فهي معتدلةٌ إن شاءَ اللهُ.
والدعاءُ للمسلمين وردَ ولكن ليس فيه حديثٌ صحيحٌ، فالدعاءُ جائزٌ ومشروعٌ في كلِّ وقتٍ، ولكن ليس من الخطبةِ دعاءٌ مخصوصٌ، إذا كان في موقفٍ جامعٍ فدعا المسلمينَ فحسنٌ، لكن لا نقولُ أنَّه سنَّةٌ، لكنَّه إذا شرعَ بالدعاءِ لا نقولُ له أنَّه خالفَ السنَّةَ وخالفَ هديَ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، والعملُ عليه لدى المسلمينَ، ونقول أنَّ الأمرَ فيه واسعٌ والحمدُ للهِ.
– مداخلةٌ: الأثرُ الذي فيه أنَّ أحدَ الصحابةِ رأى أحدَ الأمراءِ رفعَ يديه في الخطبةِ، وقال له: لعنَ اللهُ هاتين اليدين لم يكن رسولُ اللهِ يرفعهما في الخطبةِ، فأنكرَ رفعَ اليدين ولم يُنكرِ الدعاءَ، أفلا يكونُ هذا دليلٌ على سنيّةِ الدعاءِ؟
– الشيخ: هو ذكرَ أن كان يشيرُ بإصبعه إذا دعا، لكن ليس هناك خبرٌ أنَّه كان يدعو، لكن إذا دعا، فإنَّه يشيرُ بإصبعه ولا يرفعُ يديه، إلَّا في الاستسقاءِ فقد ثبتَ أنَّه رفعَ يديه.
– مداخلةٌ: الدعاءُ ليس عليه دليلٌ، وإذا دعا نقول له لم تفعل سنَّةً؟
– الشيخ: نعم ليس عليه دليلٌ، لكن إذا دعا نقول له: أحسنت؛ الدعاءُ مشروعٌ المشروعيةَ العامَّةَ.
 
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
(وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ)
قولُه: "ولا يُشترطُ لهما الطهارةُ": أي لا يُشترطُ للخطبتين أن يكونَ على طهارةٍ، فلو خطبَ وهو محدثٌ فالخطبةُ صحيحةٌ؛ لأنَّها ذكر وليست صلاة
(وَلاَ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا مَنْ يَتَوَلَّى الصَّلاَةَ)
قولُه: "ولا أن يتولَّاهما من يتولى الصلاةَ": أي لا يشترطُ أن يتولى الخطبتين من يتولّى الصلاَة، فلو خطبَ رجلٌ وصلَّى آخرُ فهما صحيحتان، والصلاةُ صحيحةٌ، لكن هل يُشترطُ أن يتولَّاهما واحدٌ، أو يجوزُ أن يخطبَ الخطبةَ الأولى واحدٌ والثانيةَ آخرُ؟ الجوابُ: يجوزُ، أي: لا يشترطُ أن يتولّاهما واحدٌ، فلو خطبَ رجلٌ، وخطبَ الثانيةَ رجلٌ آخرُ صحَّ.
ولكن هل يشترطُ أن يتولى الخطبةَ الواحدةَ واحدٌ؟ أي: لو أنَّ رجلًا خطبَ الخطبةَ الأولى في أوّلها، وفي أثنائِها تذكَّرَ أنَّه على غيرِ وضوءٍ مثلًا فنزلَ، ثمَّ قامَ آخرُ وأتمَّ الخطبةَ، لم أرَ حتى الآن من تكلَّمَ عليها، ولكنَّهم ذكروا في الأذانِ أنَّه لا يصحُّ من رجلين أي: لا يصحُّ أن يُؤذّنَ الإنسانُ أوَّلَ الأذانِ ثمَّ يُكملُه الآخرُ؛ لأنَّه عبادةٌ واحدةٌ، فكما أنَّه لا يصحُّ أن يُصلّي أحدٌ ركعةً، ويكملُ الثاني الركعةَ الثانيةَ، فكذلك لا يصحُّ أن يُؤذّنَ شخصٌ أوّلَ الأذانِ ويُكملُهُ آخرُ.

– الشيخ: هذه أمورٌ ليس فيها نصوصٌ، وليس فيها إلَّا تحريّاتٌ واجتهاداتٌ، أمَّا من غيرِ عذرٍ فلا ريبَ ألَّا يجوزُ؛ لأنَّ فيه نوعٌ كما قال الشيخُ نوعٌ من العبثِ، أمَّا إن كان من عذرٍ فنقولُ: ينبغي أن سيتأنفَ الخطبةَ من أوّلها، لا يمكن الخطبةُ أن يكونَ فيها طولٌ، لكن الأذانُ لو عرضَ للمؤذنِ عارضٌ يقومُ آخرُ ويستأنفُ الأذانَ من أوَّلِه، لكن بالنسبةِ للخطبةِ الواحدةِ لا ينبغي أن تُفرَّقَ ويتولّى الخطبةَ الواحدةَ اثنان، لكن إن كان من عذرٍ فالقولُ بعدمِ الصحةِ يحتاجُ إلى دليلٍ، وليس هنا إلَّا تعليلٌ، وهو أنَّها عبادةٌ واحدةٌ؛ لأنَّ الخطبةَ عبادةٌ واحدةٌ.
 
– القارئ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
أمَّا الخطبةُ فقد يُقالُ: إنَّها كالأذانِ؛ أي: لا بدَّ أن يتولّى الخطبةَ الواحدةَ واحدٌ، فلا تصحُّ من اثنين، سواءٌ لعذرٍ أو لغيرِ عذرٍ، فإن كان لغيرِ عذرٍ فالظاهرُ أنَّ الأمرَ واضحٌ؛ لأنَّ هذا شيءٌ من التلاعبِ، وإذا كان لعذرٍ مثل: أن يذكرَ الذي بدأَ الخطبةَ أنَّه على غيرِ وضوءٍ، ثمَّ ينزلُ ليتوضَّأ، فهنا نقولُ: الأحوطُ أن يبدأَ الثاني الخطبةَ من جديدٍ، حتى لا تكونَ عبادةً واحدةً من شخصين.
مسألةٌ: هل يُشترطُ أن يكونَ العددُ الحاضرُ لهما هو العددُ الحاضرُ للصلاةِ، مثلًا: بأنْ خطبَ بأربعين ثمَّ خرجَ الأربعونَ، وجاءَ أربعونَ غيرهم وصلُّوا الجمعةَ؟ فالجوابُ: أنَّه يُشترطُ؛ لأنَّه لا بدَّ أن يحضروا الخطبتين والصلاةَ.

– الشيخ: فرضُ هذه المسألةِ والجوابُ عنها مبنيٌّ على المذهبِ، أما على القولِ الصحيحِ فلا تَرِدُ.
 
– القارئ: مسألةٌ: لم يذكرْ صاحبُ المتنِ ما يبطلُ الخطبتين، لكن ذكرَ الشارحُ في الرَّوضِ أنَّهما تبطلاِن بالكلامِ المحرَّمِ، أي: لو أنَّ الخطيبَ في أثناءِ الخطبةِ تكلَّمَ كلامًا محرَّمًا، كقذفٍ أو لعنٍ أو ما أشبهَ ذلك، فإنَّها تبطلُ؛ لأنَّ ذلك يُنافي مقتضى الخطبةِ، فالمقصودُ بالخطبةِ وعظُ الناسِ وزجرُهم عن الحرامِ، فإذا كان الخطيبُ نفسُه يفعلُ الحرامَ فإنَّها تبطلُ.
– الشيخ: وهذا كذلك فهو اجتهادٌ، يعني لو رأى الخطيبُ أمرًا مُستنكرًا لكنَّه انفعلَ وغضبَ وحصلَ منه سبٌّ، فلا نجزمُ بأنَّ الخطبةَ لُغيتْ ويحتاجُ أن تُستأنفُ، بل نقولُ: يأثمُ، والشيخُ في كلامِهِ أحالَ على صاحبِ الروضِ.
– مداخلةٌ: لو كان الإمامُ من المبتدعةِ ودعا إلى بدعةٍ كأشعري، تبطلُ على هذا القولِ؟
– الشيخ: نعم.
 
– القارئ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
مسألةٌ: لم يذكرِ الماتنُ أيضًا هل يُشترطُ أن تكونَ الخطبتان باللغةِ العربيةِ أم لا؟ والجوابُ: إن كان يخطبُ في عربٍ فلا بدَّ أن تكونَ بالعربيةِ، وإن كان يخطبُ في غيرِ عربٍ، فقال بعضُ العلماءِ: لا بدَّ أن يخطبَ أولًا بالعربيةِ، ثمَّ يخطبُ بلغةِ القومِ الذين عندَه. وقال آخرونَ: لا يُشترطُ أن يخطبَ بالعربيةِ، بل يجبُ أن يخطبَ بلغةِ القومِ الذين يخطبُ فيهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]
ولا يمكنُ أن ينصرفَ الناسُ عن موعظةٍ وهم لا يعرفونَ ماذا قال الخطيبُ، والخطبتان ليستا ممّا يُتعبَّدُ بألفاظِهما حتى نقولَ: لا بدَّ أن تكونا باللغةِ العربيةِ، لكن إذا مرَّ بالآيةِ فلا بدَّ أن تكونَ بالعربيةِ؛ لأنَّ القرآنَ لا يجوزُ أن يُغيّرَ عن اللغةِ العربيةِ.

– الشيخ: القرآنُ لا يمكنُ أن يُقرأَ بغيرِ العربيةِ، والترجمةُ ليست قرآنًا، فلا نقولُ لترجمةِ القرآنِ: هذا مصحفٌ، وتجري عليه أحكامُ المصحفِ في حكمِ مَسِّهِ، وهذا من أحسنِ ما يُقالُ عنه بأنَّه كتابُ تفسيرٍ.
 
– القارئ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
(وَمِنْ سُنَنِهِمَا: أَنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَر، أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، وَيُسَلِّمَ عَلَى المَأْمُومِينَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَجْلِسَ إِلَى فَرَاغِ الأَذَانِ)
قولُه: "ومن سُنَنِهِما أن يخطبَ على منبرٍ": أي من سننِ الخطبتين أن يخطبَ على منبرٍ، والمنبرُ: على وزنِ مفعلٍ من النبرِ وهو الارتفاعُ، أي: على شيءٍ مرتفعٍ، وكان النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يخطبُ في أوّلِ الأمرِ إلى جذعِ نخلةٍ في مسجدِهِ، ثمَّ صُنِعَ له منبرٌ من خشبِ الغابةِ (الأثل) فصارَ يخطبُ عليه، ولما خطبَ عليه أوَّلَ جمعةٍ صاحَ جذعُ النخلةِ كما تصيحُ الإبلُ العشارُ، حتى نزلَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وسَكَّتَه فسكتَ، والناسُ يسمعونَ، وإنّما كان ذلك سنَّةً اقتداءً بالنبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؛ ولأنَّ ذلك أبلغُ في إيصالِ الخطبةِ إلى الناسِ؛ لأنَّه إذا كان مرتفعًا سَمِعَهُ الناسُ أكثرُ، وكذلك إذا كان مرتفعًا رآهُ الناسُ بأعينهم، ولا شكَّ أنَّ تأثّرَ السامعِ إذا رأى المتكلَّمَ أكثرُ من تأثُّرِهِ وهو لا يراهُ، وهذا أمرٌ مُشاهدٌ.

– الشيخ: تقدَّمَ لكم أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- (إذا خطبَ احمرَّتْ عيناهُ وعَلا صوتُه واشتدَّ عضبُه)، فهذا جانبٌ لا يتحقَّقُ من السامعِ إلَّا بالنظرِ، وقد يدركُ السامعُ قدرًا منه، لكن الرائي يدركُ أكثر لأنَّه يرى الانفعالَ، فلا شكَّ أنَّ رؤيةَ الخطيبِ أبلغُ في التلقّي.
 
– القارئ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
ولهذا كان من هدي الصحابةِ ـ على ما ذُكِرَ ـ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إذا خطبَ استقبلوه بوجوهِهم؛ ليكونَ ذلك أبلغ في حضورِ القلبِ والانتفاعِ بالخطبةِ، قال العلماءُ: ينبغي أن يكونَ المنبرُ على يمينِ مستقبلِ القبلةِ في المحرابِ كما هو معمولٌ به الآن؛ من أجلِ أنَّ الإمامَ إذا نزلَ منه ينفتلُ عن يمينِه.

– مداخلةٌ: بعضُهم يشتدُّ به الحماسُ فيحرّكُ يديهِ؟
– الشيخ: لا يُحرّكها.
– مداخلةٌ: تحريكُ اليدين ما يشرعُ كما كانَ في حجَّةِ الوداعِ عندما كان النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يشيرُ بها ويرفعُ يدَهُ إلى السماءِ؟
– الشيخ: لا، ذلك كان لمعنى خاصٍّ، والرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ عندما فعلَ ذلك كان لمناسبةٍ خاصّةٍ تأكيدًا لهذا الأمرِ، اللهمَّ اشهدْ اللهمَّ اشهدٍ، يشيرُ إلى ربّه.
 
– القارئ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "ويُسلّمُ على المأمومين إذا أقبلَ عليهم": أي يُسنُّ إذا صعدَ المنبرَ أن يتَّجه إلى المأمومين، ويُسلّمُ عليهم؛ لأنَّ ذلك رُويَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وإن كان الحديثُ المرفوعُ فيه ضعفٌ، لكنَّ الأمَّةَ أجمعت على العملِ به، واشتهرَ بينها أنَّ الخطيبَ إذا جاءَ وصعدَ المنبرَ استقبلَ الناسَ وسلَّمَ عليهم، وهذا التسليمُ العامُّ، أمَّا الخاصُّ فإنَّه إذا دخلَ المسجدَ سلَّمَ على من يمرُّ عليه …
قولُه: "ثمَّ يجلسُ إلى فراغِ الأذانِ": أي يُسنُّ إذا سلَّمَ على المأمومين أن يجلسَ حتى يفرغَ المؤذنُ، وفي هذه الحال يتابعُ المؤذنُ على أذانِه؛ لأنَّ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال:
(إذا سمعتم المؤذنَ فقولوا مثل ما يقولُ المؤذّنُ)، وهذا عامٌّ فينبغي للإمامِ وهو على المنبرِ أن يجيبَ المؤذّنَ، وكذلك المأمومون يُجيبونَ المؤذّنَ، فيقولون مثلَ ما يقولُ إلَّا في الحيعلتينِ، فإنَّهم يقولون: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ.
(وَيَجْلِسَ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ، وَيَخْطُبَ قَائِمًا، وَيَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ، أَوْ عَصَا)
قولُه: "ويجلسُ بين الخطبتين": أي يُسنُّ أن يجلسَ بين الخطبتين؛ لأنَّه ثبتَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (أنَّه كان يجلسُ بين الخطبتين)، ولأنَّه لو لم يجلسْ لم يتبيّن التمييزَ بينهما؛ إذ قد يَظنُّ الظانُّ أنَّه سكتَ لعذرٍ منعَهُ من الكلامِ، لكن إذا جلسَ تميّزتِ الخطبةُ الأولى عن الثانيةِ، وعلى هذا يكونُ للخطيبِ جلستان: الأولى عندَ شروعِ المؤذّنِ في الأذانِ، والثانيةُ بين الخطبتين.
قولُه: "ويخطبُ قائمًا": أي يُسنُّ أن يخطبَ قائمًا؛ لفعلِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؛ ولأنَّ ذلك أبلغُ بالنسبةِ للمتكلّمِ؛ لأنَّ القائمَ يكونُ عنده من الحماسِ أكثر من الجالسِ؛ ولأنَّه أبلغُ أيضًا في إيصالِ الكلامِ إلى الحاضرين، لا سيَّما في الزمنِ السابقِ، إذ ليسَ فيه مكبرُ صوتٍ.
قولُه: "ويعتمدُ على سيفٍ أو قوسٍ أو عصا": أي يُسنُّ أن يعتمدَ حالَ الخطبةِ على سيفٍ، أو قوسٍ، أو عصا، واستدلوا بحديثِ يُروى عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في صحّتِه نظرٌ، وعلى تقديرِ صحّتِه قال ابنُ القيّمِ: إنَّه لم يحفظْ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بعدَ اتخاذِه المنبرَ أنَّه اعتمدَ على شيءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّ الاعتمادَ إنَّما يكونُ عند الحاجةِ، فإنَّ احتاجَ الخطيبُ إلى اعتمادٍ، مثل أن يكونَ ضعيفًا يحتاجُ إلى أن يعتمدَ على عصا فهذا سنَّةٌ؛ لأنَّ ذلك يُعينُه على القيامِ الذي هو سنَّةٌ، وما أعانَ على سنَّةٍ فهو سنَّةٌ، أمَّا إذا لم يكن هناك حاجةٌ فلا حاجةَ إلى حملِ العصا.
ثمَّ إنَّ تعليلَهم بأنَّه إشارةٌ إلى أنَّ هذا الدينَ قامَ بالسيفِ فيه نظرٌ أيضًا، فالدينُ لم يُفتحْ بالسيفِ؛ لأنَّ السيفَ لا يُستعملُ للدينِ إلَّا عنَد المنابذةِ، فإذا أبى الكفَّارُ أن يُسلموا أو يبذلوا الجزيةَ فإنّهم يُقاتَلون، أمَّا إذا بذلوا الجزيةَ فإنّهم يُتركون، وهذا هو القولُ الذي تدلُّ عليه الأدلَّةُ، ثمَّ إنَّ المسلمينَ لم يفتحوا البلدانَ إلَّا بعدَ أن فتحوا القلوبَ أولًا بالدعوةِ إلى الإسلامِ، وبيانِ محاسنِه بالقولِ وبالفعلِ، وليس كزمنِنا اليومَ نبيّنُ محاسنَ الإسلامِ بالقولِ إنْ بيّناهُ، أمَّا بالفعلِ فنسألُ اللهَ أن يُوفّقَ المسلمين للقيامِ بالإسلامِ، فإذا رأى الإنسانُ الأجنبيُّ البلادَ الإسلاميَّةَ، ورأى ما عليه بعضُ المسلمينَ من الأخلاقِ التي لا تمتُّ إلى الإسلامِ بصلةٍ، من شيوعِ الكذبِ فيهم، وكثرةِ الغشِّ، وتفشّي الظلمِ والجورِ استغربَ ذلك، ويقولُ: أين الإسلام؟! فالإسلامُ في الحقيقةِ إنَّما فُتحتِ البلادُ به لا بالسيفِ، والسيفُ يُستعملُ عند الضرورةِ إليه، إذا لم يُسلموا أو يُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرونَ، كما سبقَ.
وأيضًا: لا نستعملُ السيفَ إلَّا بعد القدرةِ، أمَّا إذا كان أعداؤنا أكثر منَّا بكثيرٍ وأقوى منَّا فإنَّ استعمالَ السيفِ يُعتبرُ تهورًا، ولهذا أباحَ اللهُ لنا ألَّا نقابلَ أكثرَ من مثلينا، قال تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]
وفيه أيضًا: حجةٌ للكفارِ حيثُ يقولونَ: إنَّكم أنتم أيُّها المسلمونَ فتحتمْ بلادنا في الأولِ بالقوّةِ، لا بالدعوةِ …
قولُه: "ويقصرَ الخطبةَ": أي يُسنُّ أن يجعلَها قصيرةً؛ لقولِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-:
(إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقصرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهِه)، فالأولى أن يقصرَ الخطبةَ؛ لأنَّ في تقصيرِ الخطبةِ فائدتين:
1 ـ ألَّا يحصلَ المللُ للمستمعين؛ لأنَّ الخطبةَ إذا طالتْ لا سيّما إن كان الخطيبُ يُلقيها إلقاءً عابرًا لا يُحركُ القلوبَ، ولا يبعثُ الهممَ فإنَّ الناسَ يملّونَ ويتعبونَ.
2 ـ أنَّ ذلك أوعى للسامعِ أي: أحفظُ للسامعِ؛ لأنَّها إذا طالْت أضاعَ آخرُها أوَّلها، وإذا قَصَّرتْ أمكنَ وعيها وحفظَها، ولهذا قال النبيّ عليه الصلاةُ والسلامُ:
(إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ وقصرَ خطبتِه مئنةٌ من فقهِهِ)، أي: علامةٌ ودليلٌ على فقهِهِ، وأنَّه يُراعي أحوالَ الناسِ، وأحيانًا تستدعي الحالُ التطويلَ، فإذا أطالَ الإنسانُ أحيانًا لاقتضاءِ الحالِ ذلك، فإنَّ هذا لا يُخرجه عن كونِه فقيهًا؛ وذلك لأنَّ الطولَ والقصرَ أمرٌ نسبيٌّ، وقد ثبتَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه كان يخطبُ أحيانًا بسورةِ "ق"، وسورةُ "ق" مع الترتيلِ والوقوفِ على كلِّ آيةٍ تستغرقُ وقتًا طويلًا.
قولُه: "ويدعو للمسلمين": أي يُسنُّ أيضًا في الخطبةِ أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة؛ لأنَّ ذلك الوقتَ ساعةٌ ترجى فيه الإجابةُ، والدعاءُ للمسلمين لا شكَّ أنَّه خيٌر، فلهذا استحبّوا أن يدعو للمسلمين.
ولكن قد يقولُ قائلٌ: كونُ هذه الساعة ممَّا تُرجى فيها الإجابةُ، وكون الدعاءُ للمسلمين فيه مصلحةٌ عظيمةٌ موجودٌ في عهدِ الرسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وما وجدَ سببُه في عهدِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولم يفعلْه فتركُه هو السُّنّةُ؛ إذ لو كان شرعًا لفعلَه النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فلا بدَّ من دليلٍ خاصٍّ يدلُّ على أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجدْ دليلٌ خاصٌّ فإنَّنا لا نأخذُ به، ولا نقول: إنَّه من سننِ الخطبةِ، وغايةُ ما نقول: إنَّه من الجائزِ، لكن قد رُويَ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-
(كان يستغفرُ للمؤمنينَ في كلِّ جُمعة)، فإنْ صحَّ هذا الحديثُ فهو أصلٌ في الموضوعِ، وحينئذٍ لنا أن نقولَ: إنَّ الدعاءَ سنّةٌ، أمَّا إذا لم يصحَّ فنقول: إنَّ الدعاءَ جائزٌ، وحينئذٍ لا يُتّخذُ سنّةً راتبةً يُواظبُ عليه؛ لأنَّه إذا اتخذَ سنّةً راتبةً يُواظبُ عليه فَهِمَ الناسُ أنَّه سنّةٌ، وكلُّ شيءٍ يُوجبُ أن يَفهمَ الناسُ منه خلافَ حقيقةِ الواقعِ فإنَّه ينبغي تجنُّبَه.
– الشيخ: على كلِّ حالٍ الأمرُ في هذا واسعٌ إن شاءَ اللهُ؛ لأنَّ لهذا الأمرَ أدلةٌ عامَّةٌ، فلا يكونُ موضعَ إنكارٍ، ولا ذم لمن يُحافظُ على هذا الدعاءِ.
– مداخلةٌ: هناك بعضُ الخطباءِ يخطبُ بالعاميّةِ، عندما يذكرُ أمرًا ما، وقد يكونُ فيه شيئًا من الضحكِ، ودونَ قصدٍ من الخطيبِ ولكن من الناسِ، وهل الضحكُ يؤثّرُ؟
– الشيخ: هذا غلطٌ، الخطبُ ودروسُ العلمِ، ينبغي أن تكونَ متضمّنةً للجدِّ وما يكونُ فيها هزلٌ؛ لأنَّ الهزلَ يسلبُ المتحدِّثَ والخطيبَ الوقارَ والهيبةَ، الشيءُ العارضُ لا حكمَ له كما يُقالُ، لكن أن يُتّخذَ هذا ديدنًا فلا ينبغي أبدًا، الضحكُ اليسيرُ للمأمومين لا يُؤثرُ، أمَّا أنَّها تصلُ إلى درجةِ القهقهةِ فلا يجوزُ، فقد قال الفقهاءُ: القهقهةُ في الصلاةِ تُبطلُها كالكلامِ، أمَّا التبسمُ فلا يُبطلُ الصلاةَ.
– مداخلةٌ: يدخلُ الضحكُ في اللغو؟
– الشيخ: نعم. الهزلُ في الخطبةِ لغو.
– مداخلة: …
– الشيخ: الناسُ في بعضِ البلادِ يُطيلونَ الفصلَ بين الأذانِ الأولِ والثاني ويكونُ ساعةً أو أكثرَ، كما عندنا هنا في الرياضِ وفي الحرمين ليس بين الأذانين إلَّا خمس دقائقَ، والكلُّ فيه خطأ، فمن يوالي بينهما يسلبُ الأذانَ الأوَّلَ حكمتَه ومقصدَه، عثمانُ الذي سنَّ الأذانَ الأوَّلَ قصدَ تنبيهَ الناسِ وحثَّهم إلى السعي إلى الجمعةِ قبلَ دخولِ الوقتِ، فعدمُ الفصلِ بين الأذانين يسلبُه الفائدةَ، فالأذانُ الأوَّلُ والثاني في الحرمِ مؤدَّاهم واحدٌ، وسمعتُ الشيخَ ابنَ بازٍ رحمهُ اللهُ يقولُ: في الحرمِ عجزنا، وكأنَّه أرشدَهم إلى الأذانِ الأوَّلِ لكنَّهم أصرّوا على العادةِ، ويُفضّلُ أن يكونَ الوقتُ ساعةً إلَّا ربعَ تقريبًا.
– مداخلةٌ: ما وُجدَ سببُهُ في عهدِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولم يفعلْه فتركُهُ سنّةٌ، بعضُ العلماءِ يرونَ بعضَ المصالحِ كالخطِّ في المسجدِ؟
– الشيخ: ما وُجدتِ الحاجةُ إليه في عهدِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، لكن الآنَ وجدتْ الحاجةُ إليه فالمساجدُ التي فُرشِتْ بفرشٍ لونُها واحدٌ ومستوية، فإنَّ الصفوفَ لا تنضبطُ، ولكن عندما كانت المساجدُ ترابيةً، كان الصفُّ يضبطونَه بأثرِ الأقدامِ، يعني أثرُ الأقدامِ كأنَّه خطٌّ، وهذا مثلُ ما قال الشيخُ ما كان سنّةً فَفِعلُ ما يعينُ عليه سنّةٌ.

 


الأسئلة:
س1: يطلبُ العامّةُ منّا ونحن مبتدئونَ في العلمِ أن نُلقيَ المواعظَ في المساجدِ والمجالسِ، فهل لنا ذلك ونحنُ لم نتأهّلْ بعد؟
ج: تكلمْ بما تعلمْ من النصحِ والإرشادِ وتربيةِ الأطفالِ والحفاظِ عليهم من قرناءِ السوءِ، فمثلُ هذا الأمرُ لا تحتاجُ إلى كثيرِ علمٍ.
………………………………………….
– مداخلةٌ: في الروضِ يقول: ويشترطُ لهما أي الخطبتين: الوقتُ والنيةُ؟
– الشيخ: أمَّا الوقتُ: فعندهم يبدأُ من ارتفاعِ الشمسِ، فلا يخطبُ قبلَ طلوعِ الشمسِ، وعلى القولِ الصحيحِ أنَّ الوقتَ هو وقتُ الظهرِ، وأنَّ الصلاةَ يدخلُ وقتُها بزوالِ الشمسِ، فعندي أنَّ الأمرَ واسعٌ، فلو خطبَ الإمامُ قبلَ الزوالِ وصلَّى بعد الزوالِ فالأمرُ فيه سعةٌ؛ لأنَّ ليس لهما حكمُ الصلاةِ. أمَّا النيةُ: فما أعرفُ ماذا يقصدُ بها؟ يعني هل يخطبُ بلا نيةٍ؟ كلُّها افتراضياتٌ.
………………………………………….
س2: مؤذنُ مسجدٍ يأتي إليه الناسُ الذين أُصيبوا بالعينِ، فيخبرُهم بالعائنِ دونَ أن يقرأَ عليهم، ويغلبُ على الظنِّ أنَّ قرينَه يُوحي إليه، فما الحكمُ في سؤالِه عمن عان…؟
ج: لا يجوزُ الذهابُ إليه.
………………………………………….
س3: في أحدِ المساجدِ في سورية يخطبُ بهم إمامٌ ويُصلّي بهم آخر، فلمّا سألتُه عن السببِ في هذا الأمرِ قال لي أحدهم: أنَّ الإمامَ به برصٌ. فهل هذا العذرُ الذي ذكرَ فيه شيءٌ من الصِحّةِ؟
ج: نعم؛ لأنَّ هذا الرجلَ مُصابٌ بعيبٍ، والمبتلى به لا يحبُّ أن يظهرَ للناسِ ويراهُ الناسُ، ولا سيّما إذا كان ظاهرًا على وجههِ، فالحمدُ للهِ هذا عذرٌ.
……………………………………………
س4: ما حكمُ السفرِ إلى البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ للسياحةِ، مع اجتنابِ أماكنِ الفسادِ فيها؟
ج: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، البلادُ الإباحيةُ الذهابُ إليها من أجلِ السياحةِ إن لم يفعلِ الإنسانُ فيها ما حرَّمَ اللهُ فإنَّه يُعرضُ نفسَه وأهلَه للوقوعِ في شيءٍ، فعلى المسلمِ أن يربأَ بنفسِه ويصونَ نفسَه، فالنفسُ أمّارةٌ بالسوءِ، وما يُدريهِ، يظنُّ نفسَه أنَّه يتمالكُ وأنَّه لا يفعلُ، ولا يذهبُ إلَّا هنا أو هناك، فإذا ذهبَ دخلَ عليه الشيطانُ بالتأويلات، حتى أنَّه قد يفعلُ الحرامَ باسمِ أنَّه يريدُ معرفةَ الواقعِ ليحذرَ منه، فعلى المسلمِ أن يحمدَ ربَّه على ما أعطاهُ من مالٍ ومن أهلٍ، وعليه أن يُجنّبهم أسبابَ العذابِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، يعني الرجلُ هنا في مثلِ بلدِه عليه أن يصونَ أهلَه الذهابَ للأماكنِ التي تظهرُ فيها المنكراتُ، فكيفَ يذهبُ إلى البلادِ الإباحيةِ؟!
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :الفقه وأصوله