بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّلاة)
– الدّرس: الثّامن والأربعون
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
فصل [في صفةِ صلاةِ الجمعةِ، وحكمِ تعدّدها، وما يُسنُّ في يومِها]
(والجمعةُ: ركعتانِ)
– الشيخ: يقول المصنّف: الجمعة ركعتان؛ هذا هو المعنى الأوّلُ في صفتِها أنَّها ركعتان، وهذا معلومٌ بالضرورةِ من دينِ الإسلامِ، فهو أمرٌ مُجمعٌ عليه إجماعًا قطعيًا، فصلاةُ الجمعةِ ركعتان، وهي تختلفُ عن صلاةِ الظهرِ من وجوهٍ وهذا منها، أي أنَّها ركعتان، والظهرُ أربعُ ركعاتٍ، والجمعةُ لها عددٌ على الخلافِ الذي ذكر. والوقتُ شرطٌ لصحّةِ الجمعةِ، وليس شرطًا للظهرِ، فالظهرُ تصحُّ حتى ولو خرجَ وقتُها، ومن الفروقِ بينها أيضًا الجهرُ فيها بالقراءةِ بخلافِ الظهرِ، والظهرُ إذا خرجَ وقتُها تُقضى أمّا الجمعةُ إذا خرجَ وقتُها لم تصحَّ ولم تُقضى. وهل هي بدلٌ من الظهرِ؟ قيل: أنَّها بدلٌ عن الظهرِ، وقيل: أنَّها ليست بدلًا، وهي في الحقيقةِ من وجهِ بدلٌ؛ لأنَّها هي فرضُ الوقتِ لمن تجبُ عليهم الجمعةُ، هي بدلٌ عن الظهرِ، حيث أنَّه من كان من أهلِ وجوبِ الجمعةِ لا يُجزئه إلَّا هي، وفي الحديث: (خمسُ صلواتٍ كتبهنّ اللهُ على عبادِه في اليومِ والليلةِ). وصلاةُ الجمعةِ تجبُ بشروطٍ مخصوصةٍ، أمَّا صلاةُ الظهرِ فهي فرضُ عينٍ على كلِّ المكلفين، على كلِّ مسلمٍ، بالغٍ، عاقلٍ.
– القارئ: (يُسنُّ أن يقرأَ جهرًا في الأولى بالجمعةِ، وفي الثانية بالمنافقينَ)
– الشيخ: قولُه: "يُسنُّ أن يقرأَ جهرًا": يدلُّ على أنَّ الجهرَ ليس واجبًا، ولا شرطًا، بل هو سنَّةٌ، وهذا هو المشهورُ الفقهاء أنَّ الجهرَ والإسرارَ سنّةٌ، فلو أنَّ إنسانًا في صلاتِه سهى ولم يجهرْ ثمَّ تذكرَ فإنَّه يستأنفُ، ولا يعيدُ، فيرفعُ صوتَه بالقراءةِ فقط ولا يعيدُ ما قرأَهُ سِرًا، ويُشبها في ذلك صلاةُ العيدِ، وكذلك صلاةُ الاستسقاءِ وصلاةُ الكسوفِ، كلّها صلاةٌ نهاريةٌ مع ذلك يجهرُ فيها بالقراءةِ، وسِرُّ ذلك أنَّ هذه الصلواتِ تتضمَّنُ اجتماعًا عامًا، ومن حِكَمِ صلاةِ الجمعةِ هذا الاجتماعُ الموسَّعُ، فاللهُ شرعَ لعبادِه أنواعًا من الاجتماعاتِ؛ اجتماعٌ يوميٌّ خمس مرّاتٍ؛ وهي صلاةُ الجماعةِ، واجتماعٌ اسبوعيٌّ؛ وهو الاجتماعُ على صلاةِ الجمعةِ، واجتماعٌ حوليٌّ؛ وهو الاجتماعُ على صلاةِ العيدِ مرتين في السنةِ، واجتماعٌ من نوعٍ آخر؛ وهو الاجتماعُ في الحجّ، فدينُ الإسلامِ من أحكامِه الحكيمةِ وتشريعاتِه الاجتماعُ، وهذه الاجتماعاتُ لها مصالحُ عظيمةٌ، فيها التعارفُ والتآلفُ والتعاونُ والتشاورُ ومصالحُ كبيرةٌ.
"يُسنُّ بالأولى بالجمعةِ، والثانية بالمنافقين": ثبتَ هذا عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه كان يقرأُ في صلاةِ الجمعةِ سورةَ الجمعةِ في الأولى، والمنافقونَ في الثانيةِ، كما ثبتَ عنه أنَّه كان يقرأُ بسبّحِ والغاشيةِ، وقراءةُ هذه السورِ في هذا الجمعِ العظيمِ حكمتُه ظاهرةٌ، فالجمعةُ: فيها الافتتاحُ بالتسبيحِ والتمجيدِ للهِ، وذكرِ المِنّةِ ببعثةِ محمّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وفيها ذمُّ اليهودِ، وفي ذمّهم تحذيرٌ للمسلمين، وفيها الدعوةُ والسعيُ إلى الذهابِ للجمعةِ والأمرُ بذكرِ اللهِ وطلبِ الرزقِ منه. وفي سورة المنافقين: ذمٌ للمنافقين، وتحذيرٌ من عاداتِهم وطرائِقهم وأقوالِهم وأفعالِهم. وفي كلٍّ من السورتين التذكيرُ بالموتِ وهذا أبلغُ واعظٍ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8]، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون:10]
وكذلك السورتان الأُخريان سبّح والغاشيةِ، ففي كلٍّ منهما وعدٌ ووعيدٌ، وأمرٌ بالتذكيرِ، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21]، ففي كلٍّ من السورتين الأمرُ بالتذكيرِ، وفي كلٍّ من السورتين الوعدُ والوعيدُ، وفي كلٍّ من السورتين التذكيرُ بآياتِ اللهِ الكونيّةِ؛ ففي الأولى التذكيرُ بالمرعى وإنباتِ اللهُ له، وفي سورةِ الغاشيةِ التذكيرُ بما خلقَ اللهُ من الإبلِ والجبالِ والأرضِ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20]
– القارئ: (وتَحرمُ إقامتُها في أكثرَ مِنْ موضعٍ من البلدِ إلا لحاجةٍ)
– الشيخ: وتحرمُ إقامتُها -أي: الجمعةُ- في أكثرِ من موضعٍ من البلدِ إلَّا لحاجةٍ أو ضرورةٍ، والسببُ في ذلك أنَّها ما كانت تُصلَّى في عهدِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وعهدِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ إلَّا في موضعٍ واحدٍ من البلدِ، بخلافِ صلاةِ الجماعةِ فإنَّها تُصلَّى في كلِّ المساجدِ، أمَّا الجمعةُ فكانت تُصلَّى في مسجدِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وكان الصحابةُ يأتونَ من أطرافِ المدينةِ إلى مسجدِ النبيّ من أجلِ صلاةِ الجمعةِ، وهذه هي السنّةُ، لا يجوزُ إقامتُها في أكثرِ من موضعٍ إلّا لحاجةٍ أو ضرورةٍ؛ كضيقِ المسجدِ مثلًا، أو بأن يكونَ المسجدُ بعيدًا كثيرًا، أو إذا كان بين أصحابِ الأحياءِ شقاقٌ ويمكنُ أن يعتدي بعضُهم على بعضٍ، فيُجعلُ لكلٍّ من الطرفينِ مكانٌ تقامُ به الجمعةُ سدًا لذريعةِ الشرّ.
– القارئ: (فإنْ فعلوا: فالصحيحةُ ما باشرَها الإمامُ أو أذن فيها)
– الشيخ: إذا خالفَ الناسُ، وأقاموا الجمعةَ في موضعين من غيرِ حاجةٍ فالصحيحةُ هي التي باشرَها الإمامُ، بحيثُ صلَّى وأمّ بها بالناسِ، والإمامُ هو الإمامُ الأعظمُ؛ لأنَّ الخلفاءَ هم الذين كانوا يُصلّونَ بالناسِ، فالصحيحةُ ما باشرها الإمامُ أو أذنَ فيها، فإذا أُقيمتِ الجمعةُ في موضعين إحداهما أذنَ فيها الإمامُ، والأخرى لا، فالصحيحةُ هي التي أَذِنَ فيها الإمامُ، أو أقيمت في موضعين إحداهُما الإمامُ هو الذي يُصلّي بالناسِ ويُصلّي بهم أحيانًا، فالصحيحةُ ما باشَرها الإمامُ، أو أذنَ فيها، وهذا يعني أنَّ الصلاةَ الثانيةَ غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّ الأصلَ أنّها لا تُقامُ إلَّا في موضعٍ واحدٍ.
– القارئ: (فإنْ استويا في إذْنٍ أو عَدَمِهِ: فالثانيةُ باطلةٌ)
– الشيخ: يعني كأنَّه يقولُ: يحرمُ على الإمامِ هذا، لكنْ كيفَ نُميّزُ الثانيةَ عن الأولى؟ نُميّزها إمّا بإنشاءِ الجمعةِ، بمعنى أنَّ هذا المسجدَ أُقيمتْ فيه الجمعةُ قبلَ ذاك، أو شرعَ الإمامُ في هذا المسجدِ قبلَ الآخر، فالثانيةُ نعرفُها بذلك، نعرفُها إمّا بإقامةِ الجمعةِ، أي أنَّ هؤلاءَ ترتّبوا واستعدّوا ووُجِدَ الإمامُ، والثانيةُ أُنشأتْ بعدُ، فتلك سابقةٌ، هي الثانيةُ فتكونُ باطلةً.
وقد يكونُ الفرقُ بينهما بالشروعِ؛ يعني شرعَ الإمامُ بالصلاةِ في هذا المسجدِ قبلَ الآخرِ وذلك بالتكبيرِ بأن دخلَ إلى الصلاةِ وكبَّرَ في صلاةِ الجمعةِ قبلَ الآخر، فإن استويا في إذنٍ أو عدمِه فالثانيةُ باطلةٌ، الثانيةُ هي المتأخّرةُ إمَّا في إقامةِ الجمعةِ أو بالشروعِ في الصلاةِ، فالثانيةُ نميّزها بهذه الطريقةِ وهي المتأخرةُ، فالمتقدمةُ صحيحةٌ والمتأخرةُ باطلةٌ؛ لأنَّه هي التي حصلتْ بها المخالفةُ لهذا الواجبِ وهو أنَّه تحرمُ إقامتُها في أكثرِ من موضعٍ.
– مداخلةٌ: إقامُتها شروعُ الخطيبِ بالخطبةِ؟
– الشيخ: نعم، إذا شرعَ بالخطبةِ وحضرَ الإمامُ، فهذا يعني أنّهم أقاموا الجمعةَ قبلَ هؤلاءِ، أمَّا تكبيرةُ الإحرامِ فهذا على القولِ الآخرِ، هو المذهبُ، فإنَّهم يعتمدونَ على التكبيرةِ.
– القارئ: (وإنْ وقعتا معًا أو جُهِلَتِ الأُولى بَطَلتَا)
– الشيخ: ونعرفُ ذلك، أنهما شَرَعا في الصلاةِ بلحظةٍ واحدةٍ، وقديمًا لا يستطاعُ أن يُميّزَ إلّا إذا اعتبرنا التساوي في الإنشاءِ والإقامةِ، أمَّا تكبيرةُ الإحرامِ فلا تكادُ تنضبطُ، أمّا الآن فالمكبراتُ فيمكنُ أن ندركَ أنَّ الإمامين في المسجدين كبّرا معًا، فإن وقعتا معًا بَطَلتَا، وحينئذٍ يمكنُ التنسيقُ وإقامتهم جميعًا جمعةً واحدةً، فتبطلان، لكن ما داما في الوقتِ فيمكنُ أن يُقيموها.
"أو جُهلت الأولى بطلتا": لا ندري أيُّهما شَرعَ في الصلاةِ وكبَّرَ أولًا، نقولُ: بطلتا؛ لأنّنا لا ندري يمكنُ إحدُهما صحيحةٌ لكن مجهولةٌ، والثانيةُ باطلةٌ. وذكرَ الشيخُ عندكم الفرقَ بين الصورتين، إن وقعتا معًا بطلتا، ويمكنهم أن يقيموا جمعةً واحدةً ما دامهم في الوقتِ، أمَّا إذا جُهلتِ الأولى فإنَّه قد أُقيمتْ واحدةٌ صحيحةٌ والأخرى باطلةٌ فلا تُقضى.
– مداخلةٌ: …
– الشيخ: هذا تقريرُ المذهبِ، هذا يظهرُ أنَّه إن لم يكن عذرًا، إذا كان الأمرُ وقعَ عن خطأ فهو موقعُ خلافٍ، لكن لو فُرضَ أنَّهم فعلوا ذلك عمدًا عالمين بالحكمِ فالمتعمدُ للمخالفةِ فيستحقُّ ألَّا يُعتبر فعلُه، وأن يكونَ عملُه باطلًا.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "فإن استوتا في إذنٍ أو عدمِه فالثانيةُ باطلةٌ": فإن استوتا: أي الجمعتانِ في إذنٍ أو عدمِه بأن يكونَ الإمامُ قد أذنَ فيهما جميعًا، أو لم يأذنْ فيهما جميعًا، وبهذا نعرفُ أنَّ القسمةَ ثلاثيةٌ:
1 ـ يأذنُ في إحداهما.
2 ـ يأذنُ فيهما.
3 ـ لا يأذن في واحدةٍ منهما.
فإن أذنَ في إحداهما: فهي الصحيحةُ، سواءٌ تأخّرتْ أو تقدَّمتْ. وإن أذنَ فيهما جميعًا، أو لم يأذنْ فيهما جميعًا: فالثانيةُ باطلةٌ على ما يقتضيه كلامُ المؤلفِ. والمرادُ بالثانيةِ ما تأخَّرتْ عن الأخرى بتكبيرةِ الإحرامِ، وإن كانتِ الأخرى أسبق منها إنشاءً، ولكن كيف نعلمُ ذلك؟ الجوابُ: أمَّا في الزمنِ السابقِ فالعلمُ بتقدُّمِ إحداهُما بالإحرامِ قد يكونُ صعبًا، أمَّا في الزمنِ الحاضرِ فالعلمُ بتقدُّمِ إحداهُما بالإحراِم قد يكونُ سهلًا بوسيلةِ مكبرِ الصوتِ إذا سمعنا قولَ الإمامِ في الأولى: "اللهُ أكبرُ"، ثمَّ قال الإمامُ في الثانية بعدَهُ مباشرةً: "اللهُ أكبرُ"، قلنا للثاني: صلاتُكَ باطلةٌ، وللأوّلِ: صلاتُكَ صحيحةٌ؛ لأنَّ الأوّلَ لما سبقَ بالإحرامِ تعلَّقَ بها الفرضُ؛ لأنّها سبقت، وعلى المذهبِ تُدرَكُ الصلاةُ بتكبيرةِ الإحرامِ، فإذا سُبقتْ بتكبيرةِ الإحرامِ تعلَّقَ الفرضُ بها وصارتْ هي الصلاةُ المفروضةُ، والثانيةُ باطلةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: المعتبرُ السَّبْقُ زمنًا، فالتي قد أُنشئتْ أولًا فالحكمُ لها؛ لأنَّ الثانيةَ هي التي حدثت على الأولى، فهي تُشبهُ مسجدَ الضرارِ الذي بناه المنافقونَ عند مسجدِ قِباء، وقال اللهُ لنبيّه: لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108]، وهذا القولُ هو الصحيحُ، أنَّ المعتبرَ السابقةُ زمنًا وإنشاءً ولو تأخَّرتْ عملًا، فلو فرضنا أنَّ الجديدةَ ـ التي أُنشئتْ حديثًا، وبدونِ إذنِ الإمامِ ـ صلّوا ركعةً قبلَ أن تُقامَ الثانيةُ ـ التي هي الأولى إنشاءً ـ فإنَّ صلاتَهم لا تصحُّ جمعةً؛ لأنَّ الناسَ مجتمعونَ على الأولى، فجاءَ هؤلاء وأنشؤوا مسجدًا جامعًا وفرَّقوا الناسَ.
(وَإِنْ وَقَعَتَا مَعًا، أَوْ جُهِلَتِ الأُولَى بَطَلَتَا)
قولُه: "وإن وقعتا معًا": أي إن وقعتا معًا بَطُلتا معًا، فمثلًا: إذا كنَّا نحن نستمعُ إلى المسجدِ الشمالي والمسجدِ الجنوبي فقال إمامُ كلِّ مسجدٍ منهما: "اللهُ أكبرُ" في نفسِ الوقتِ، فنقولُ لهم: صلاتُكم جميعًا باطلةٌ؛ لأنَّه لم تتقدَّمْ إحداهُما حتى يكون لها مزية، وإذا لم يكن لها مزيةٌ صارت كلُّ واحدةٍ منهما تُبطِلُ الأخرى، كالبيّنتين إذا تعارضتا تساقطتا، وعلى هذا يلزمُ الجميعَ إعادتُها جمعةً في مكانٍ واحدٍ مع بقاءِ الوقتِ، وإلَّا صلّوا ظهرًا. وعلى القولِ الذي رجّحناهُ نقولُ: أهلُ المسجدِ الشمالي صَحَّتْ جمعتُهم، وأهلُ المسجدِ الجنوبي لم تصحَّ جُمعتُهم؛ لأنَّ الجمعةَ في الشمالي هي الأولى إنشاءً.
– مداخلةٌ: المسجدين أنشئا في وقتٍ واحدٍ وانتهينَ في وقتٍ واحدٍ، ما هو الأصحُّ منهنَّ؟
– الشيخ: نرجعُ فيها إلى إذنِ الإمامِ.
– مداخلةٌ: قال السعديُّ في المختاراتِ: وأمَّا مسألةُ تعدّدِ الجمعةِ في البلدِ لغيرِ حاجةٍ، فهذا أمرٌ متعلِّقٌ بولاةِ الأمورِ، فعلى ولاةِ الأمورِ أن يقتصروا على ما تحصلُ به كفايةٌ، فإن أخلّوا في هذا فالتبِعةُ عليهم، وأمَّا المصلّونَ فإنَّ صلاتَهم في أيِّ جمعةٍ كانت أكانَ التعدادُ لعذرٍ أم لغيرِ عذرٍ، وسواءٌ وقعتا معًا أو جهلَ ذلك، أو صلّوا مع الجماعةِ المتأخرةِ فلا إثمَ عليهم ولا حرجَ ولا إعادةَ، ومن قال يعيدُ في مثل ذلك فقد قال قولًا لا دليلَ عليه وأوجبَ ما لم يوجبْهُ اللهُ ورسولُه، وأيُّ ذنبٍ للمصلّي وقد فعلَ ما يلزمُهُ ويقدرُ عليه، وهذا القولُ الذي يُؤمرُ فيه بالإعادةِ قولٌ مخالفٌ للأصولِ الشرعيةِ في كلِّ وجهٍ وذلك بيّنٌ بحمدِ اللهِ.
– الشيخ: يعني هذه المقرّرات بعضُها ما هي إلَّا تفريعٌ، لَمَّا أنَّهم قرَّروا أنَّ التعدُّدَ من غيرِ حاجةٍ حرامٌ، خلص هذا التأصيلُ بنوا عليه بطلانَ صلاةِ الجمعةِ الثانيةِ، قد نقولُ أنَّه حرامٌ، ولا يلزمُ التحريمُ إقامةَ الجمعتين، يعني يمكنُ الذي أنشأَ الجمعةَ الثانيةَ من غيرِ حاجةٍ هو الذي أثمَ، أمَّا الأفرادُ فكما قال الشيخُ: ليس لهم ذنبٌ، وإذا سلّمنا أنَّ التعدُّدَ من غيرِ حاجةٍ، ويحرمُ على الإمامِ أن يأذنَ في جمعتين من غيرِ حاجةٍ، لكن إذا وقعَ هذا أَثِمَ من إليه أمرُ التعدّدِ، وأمَّا المصلّونَ فلا ذنبَ لهم، هذا معنى كلام الشيخِ وهو كلامٌ وجيهٌ.
– مداخلةٌ: ما هو الضابطُ في مثلِ هذه المسائل؟
– الشيخ: الضابطُ اجتهاديٌّ، تقومُ به اللجنةُ المخصّصةُ، والآن هناك لجنةٌ تقرّرُ وتصدرُ فتوى بإقامةِ الجمعةِ في هذا المسجدِ، ولكنَّهم قديمًا يُشدّدونَ وأخيرًا فإنَّهم ينظرونَ إلى كثرةِ الناسِ فقط.
– القارئُ يقرأُ من حاشيةِ القاسمي:
(فإن استويا في إذنٍ أو عدمِه فالثانيةُ باطلةٌ).
… لأنَّ الاستغناءَ حصلَ بالأولى، فأُنيطَ الحكمُ بها، ويعتبرُ السبقُ بالإحرامِ (وإن وقعتا معا) ولا مزيةَ لإحداهُما بَطَلتا؛ لأنَّه لا يمكنُ تصحيحُهما ولا تصحيحُ إحداهما.
– الشيخ: كلامُ الشيخِ ابن سعدي هو الذي تقتضيه قاعدةُ التيسيرِ ورفعِ الحرجِ، لكنَّ المشكلةَ ما نقلَه صاحبُ الحاشيةِ عن ابنِ تيميةَ ينبغي أن يُراجعَ.
– مداخلةٌ: في حاشية العنقلي نقلَ عن صاحبِ الغايةِ "إذا وقعتا معًا ولا مزيةَ لأحدهما بطلتا"، قال: واختارَ جمعٌ الصحةَ مطلقًا.
– الشيخ: المسألةُ كلُّها صارت اجتهاديةً ليس فيها أدلّةٌ يجبُ المصيرُ إليها، ويمكنُ النقلِ هذا عن ابنِ تيميةَ يمكنُ في شرحِ العمدةِ ويغلبُ على الشيخِ فيه المذهبيةُ.
– القارئ: (وأقلُّ السنةِ بعدَ الجمعةِ ركعتان، وأكثرُها ستٌّ)
– الشيخ: "أقلُّ السنةِ بعد الجمعةِ ركعتان": ثبتَ أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- في حديثِ ابنِ عمرَ: (كان يُصلّي بعد الجمعةِ ركعتين في بيتِه)، وثبتَ في الصحيحِ أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: (إذا صلَّى أحدُكم الجمعةَ فليصلّي بعدها أربعًا)، وجاءَ في حديثٍ: (أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان يُصلّي بعدَ الجمعةِ ستًا)
لكنَّ الفقهاءَ قالوا: إنّه يمكنُ أن يكونَ جمعًا بين الحديثِ القولي والفِعلي، فمن الناسِ من قال أنَّ هذا من تنوّعِ العبادةِ، فيُصلّي تارةً أربعًا وتارةً ركعتين، ومنهم من قال أنَّه إذا صلَّى في المسجدِ صلّى أربعًا وإن صلَّى في البيتِ صلّى ركعتين، ويمكن أن يتحقّقَ المعنيان بأن يُصلّي في المسجدِ ركعتين، لكن إذا تعارضَ القولُ والفعلُ فالقولُ مقدمٌ، فالرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: (إذا صلَّى أحدُكم الجمعةَ فليصلّي بعدها أربعًا)
فقولُه: "بعدَها أربعًا" شاملٌ صلَّى في البيتِ ولا في المسجدِ، وإن صلَّى أربعًا في المسجدِ وركعتين في البيتِ جمعَ بين الأمرين.
الأسئلة:
س1: من عليه قضاءُ صومٍ وأخّرَه إلى رمضان آخر بغيرِ عذرٍ؟
ج: يقضي وينبغي أنْ يُطعمُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا كما جاءَ عن بعضِ السلفِ.
…………………………………………
س2: من أفردَ يومَ الجمعة بالصيامِ تطوعًا لأنَّه يومُ إجازتِه، فإنَّه يسهُلُ صيامُه، فهل عليه شيءٌ؟
ج: يُنهى عن ذلك، لا يُفرِدُ الجمعةَ بصيامٍ، الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: قال لامرأةٍ وجدَها صائمةً يومَ الجمعةِ فقال لها: (صُمتي أمس؟ قالت لا. قال: تصومين غدًا؟ قالت لا. قال: فأفطري).
…………………………………………
– مداخلةٌ: ما الفائدةُ من كونِ الجمعة بدلًا عن الظهرِ أو ليس ببدلٍ؟
– الشيخ: يمكن هناك مسائل مبنيةٌ على هذا القولِ، لكن في التأمّلِ في الحقيقةِ هي فرضُ الوقتِ لمن تجبُ عليهم الجمعةُ، فالمتبادرُ أنّها بدلٌ، لكن يحتاجُ أن يُراجعَ، وما ثمرةُ الخلافِ.
………………………………………….
س3: ما هو الأنفعُ لطالبِ العلمِ، أن يبدأَ بالزادِ أم بعمدةِ الفقهِ حفظًا وفهمًا؟
ج: حفظُ العمدةِ جيّدٌ.
………………………………………….
س4: إمامُ مسجدٍ يقرأُ ربعَ صفحةٍ تقريبًا في كلِّ ركعةٍ من التراويحِ، يقولُ: حتى يُصلّي كلُّ الناسِ وأكسبُ كلَّ الناسِ، هل فعلُه هذا صحيحٌ؟
ج: الأمرُ واسعٌ، وله أن يقرأَ، لكن دونَ إفراطٍ في التخفيفِ والسرعةِ في القراءةِ، فيقرأُ قراءةً متوسطةً تجمعُ بين الناسِ كان ذلك حسنًا.
…………………………………………
س4: ما حكمُ أن يحلقَ الشخصُ شعرَ رأسِه لأوامرَ قانونيةٍ، وهل يكون هذا شركًا لأنَّ فيه خضوعٌ؟
ج: لا، ليس شركًا، وهو من باب التخلّصِ مما يترتّبُ على المخالفةِ من جزاءٍ.
…………………………………………
س5: هل الأفضلُ أن يُختمَ القرآنُ الكريمُ في رمضانَ مرةً واحدةً مع تفسيرِه، أم ختمُه ثلاثَ وأربعَ مرّاتٍ من دونِ تفسيرٍ؟
ج: ختمُه ثلاثَ مراتٍ وأربعًا من دونِ إفراطٍ في سرعةِ التلاوةِ؛ لأنَّ رمضانَ كان السلفُ يخصّونَه بالعنايةِ بكثرةِ التلاوةِ، وهو شهرُ القرآنِ، والرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان يُدارسه جبريلُ القرآنَ، وفي السنةِ الأخيرةِ عارضَه القرآنُ مرتين، وكان السلفُ ينشغلونَ في رمضانَ عن العلمِ إلَّا الذي لا بدَّ منه، ويُقبلونَ على التلاوةِ.