الرئيسية/شروحات الكتب/كتاب زاد المستقنع/كتاب الزكاة من زاد المستقنع/كتاب الزكاة (2) “تتمة المقدمة” ولا زكاة في مال من عليه دين

كتاب الزكاة (2) “تتمة المقدمة” ولا زكاة في مال من عليه دين

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الزكاة)
– الدّرس الثّاني

***    ***    ***    ***
 
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى الَّله وسلّم على نبيّنا محمّدٍ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أمّا بعد:
قال المصنِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
(ولا زكاةَ في مالِ مَنْ عليهِ دينٌ يُنقصُ النصابَ، ولو كانَ المالُ ظاهرًا)
– الشيخ:

… وتقدَّمَ أنَّ الصّحيحَ أنَّ الدَّينَ على المُعْسِرِ، وكذلك المالُ الضَّائعُ، والمغصوبُ، كلُّها أنّ الصّحيحَ أنَّه لا زكاةَ فيها، واختارَ بعضُهم أنَّه إذا قبضَها أو وجدَها يُزكّيهِ لسنةٍ وهذا قولٌ حسنٌ، وإن لم يكن مقطوعًا به، لكنَّه فيه تَوسُّطٌ واللهُ المستعانُ، وهو المشهورُ عن الإمامِ مالكٍ، واختارهُ الشّيخُ محمّدُ ابن عبد الوهابِ وتلاميذُهُ والمشايخُ من بعده.
أمّا هذه المسألةُ وهي: مسألةُ الدَّينِ هل تَسقُطُ به الزَّكاةُ؟ هل الدَّينُ يُسقِطُ الزَّكاةَ؟ قالوا: لا زكاةَ في مالِ من عليه دَينٌ ينقصُ النّصابَ.
صورةُ المسألةِ: إنسانٌ عنده مائةُ درهمٍ، وعليه دينٌ ثلاثُ مائةِ درهمٍ، الآنَ الدَّينُ هذا أكثرُ من مائةٍ أصبحَ يُنقصُ النّصابَ الذي في يدهِ، إذًا لا زكاةَ على المالِ الذي في يدهِ لأنَّ الدَّينَ الذي عليه ينقصُ النّصابَ أي النّصابَ الذي في يده. أو عليه أكثرُ من ذلك: عندهُ مئتا درهمٍ وعليه مئتي درهمٍ، خلص لم يبقَ له شيءٌ، ولو كان عندهُ أربعُ مائةِ درهمٍ وعليه مئتا درهمٍ فكم تجبُ عليه؟ يجبُ عليه زكاةُ مئتي درهمٍ، يعني أنَّه يسقطُ ما يقابلُ الدَّينَ، فإنْ كان يصلُ إلى أنَّه ينقصُ النصابَ فلا زكاةَ، وإن كان لا ينقصُ النّصابَ فإنّه يسقطُ ما يقابلُهُ ويُزكّي الباقي.
"ولو كان المالُ ظاهرًا: الأموالَ نوعان: ظاهرةٌ وباطنةٌ. فالأموالُ الظّاهرةُ يريدون بها الماشيةَ وكذلك الزّروعَ كالثّمارِ والحبوبِ، ومعنى العبارةَ: أنّه لا زكاةَ في مالِ من عليه دينٌ ينقصُ النّصابَ ولو كان المالُ ظاهرًا، وهذا يدلُّ على أنَّ المسألةَ فيها خلافٌ، فمنهم من يُفرّقُ بين الأموالِ الظّاهرةِ فلا يُسقِطُ الدَّينُ زكاتَها ولو كان الدَّينُ يُنقصُ نصابَها فإنَّه لا أثرَ له، وإنَّما يسقطُ دينُ الأموالِ الباطنةِ وهي الأثمانُ وعروضُ التّجارةِ.
هذا معنى قوله: "ولا زكاةَ في مالِ من عليه دَينٌ ينقصُ النّصابَ ولو كان المالُ ظاهرًا"، معناه أنَّ الدَّينَ يُسقِطُ الزَّكاةَ مطلقًا فيما إذا كان يُنقصُ النّصابَ، أو يسقط الزكاةَ عمّا يقابلُه ولو كان المالُ ظاهرًا كما تقدَّم. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: بل تجبُ الزّكاةُ مطلقًا، تجبُ الزَّكاةُ على من في يدهِ مالٌ ولو كان عليه دينٌ، سواءٌ أكانَ المالُ ظاهرًا أو باطنًا، فتجبُ فيه الزَّكاةُ. والثالثُ: هو التَّفصيلُ والفرقُ بين الأموالِ الظّاهرةِ والباطنةِ. إذًا المذهبُ وهو مذهبُ الحنابلةِ وهو المنصوصُ هنا أنَّ الدَّينَ يُسقطُ الزَّكاةَ دونَ فرقٍ بين الأموالِ الظّاهرةِ والباطنةِ، والقولُ الثَّاني: أنّه لا يُسقطُ الزَّكاةَ مطلقًا سواءٌ أكانت الأموالُ ظاهرةً أو باطنةً، والثالثُ: هو الفرقُ وأنَّه يُسقطُ الزَّكاةَ في الأموالِ الباطنةِ، ولا يُسقطُها في الظَّاهرةِ.
والرَّاجحُ واللهُ أعلمُ أنَّ الدَّينَ لا يُسقطُ الزَّكاةَ، لأنَّ الذي في يدهِ مالٌ هو غنيٌّ به، فعليه أنْ يُزكّي المالَ الذي في يده. ومما يُقوِّي هذا أنَّ الرّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان يبعثُ البُعوثَ لجبايةِ الصَّدقات من المواشي ومن الزُّروعِ والثِّمارِ، ولم يكونوا يسألونَ هل عليكَ دينٌ. والأموالُ التي يقولون عنها باطنة تكونُ في كثيرٍ من الأحوالِ ظاهرةٌ مثلُ عروضِ التّجارةِ تكونُ ظاهرةً، إن صحَّ أنَّ الأثمانَ تكونُ باطنةً وخفيّةً في الصناديقِ فإنَّ عروضَ التّجارةِ تكونُ ظاهرةً كالدّكاكينِ وما في داخِلِها فإنَّه يشاهدُها الفقراءُ. والرَّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال: "تؤخذُ من أغنيائِهم فتردُّ في فقرائِهم" وهذا الذي عنده مالٌ يتصرَّفُ به فإنَّه غنيٌّ به، وإن كان عليه دينٌ فليقضِهِ، فإذا قضاهُ بَرِءَ من زكاتِه، فمن كان عليه دينٌ وفي يدهِ مالٌ ثمَّ حالَ الحولُ أو قريبٌ من الحولِ ثمَّ قضاهُ فلا زكاةَ عليه، إنَّما يُزكّي ما بقي، وأقولُ أنَّ الرّاجحَ هو أنَّ الدَّينَ لا يُسقِطُ الزَّكاةَ.

– مداخلة: لو افتُرضَ أنّي قضيتُه، أصبحتُ بلا رأسِ مالٍ فلا أستطيعُ أن أُتاجِر، أفلا يُعتبرُ هذا عُذرٌ؟
– الشيخ: لا ليس بعذرٍ، هذا المالُ الذي في يدكِ هل هو مِلكُكَ أم للدَّائن؟ هو مالُك لو تَلِفَ فإنَّه يتلفُ عليك، وذاك دينٌ في الذمّةِ، والزَّكاةُ مُتعلِّقةٌ بعينِ المالِ، فهذا مالٌ هو مِلككَ تتصرّفُ فيه وتستفيدُ منه ويربحُ وينمو.
والمسألة ُكما ترى فيها اختلافُ نظرٍ واختلافُ وجهاتٍ وكلُّ رأيٍ له وجهةٌ، لكنَّ هذا هو أظهرُها واللهُ أعلمُ.

– القارئ: (وكفارةٌ كدينٍ)
– الشيخ: من عليه كفّارةُ رقبةٍ مثلًا قيمتُها عشرةُ آلافٍ، وعليه دينٌ مثلًا تسعةُ ألافٍ فهذا لا يبقى له شيءٌ، فالرّقبةُ تستغرقُ المالَ الذي عنده. فالكفارةُ دينٌ لكنَّه للهِ، والرّسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- سمّى ما يجبُ للهِ دَينًا، كما قال للمرأةِ: "أرأيتِ لو كان على أبيكِ دَينٌ، أكنتِ قاضيته، قالت نعم، قال فاقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاء"
– مداخلة: والرَّاجحُ في هذه المسألةِ كالتي قبلها؟
– الشيخ: نعم، هو يقولُ: وكفارةٌ كدينٍ في إسقاطِ الزَّكاةِ، ونحن نقولُ نعم هي كالدَّينِ، ولكنَّا لا تُسقطُ الزكاةَ.

– القارئ: (وإنْ مَلَك نصابًا صغارًا: انعقدَ حولُهُ حينَ مَلَكَهُ)
– الشيخ:
شخصٌ اشترى أربعينَ سخلةً هذا نصابٌ، ملكَ نصابًا صغارًا، فإنَّه ينعقدُ حولُه منذ مَلَكَه، هذا معنى الكلام، ولو كان صغارًا، فالأحاديثُ جاءت مُجمَلةً ليس فيها التّقيّدُ بأسنانٍ معيّنةٍ، يعني المالُ ما في أنّه يملكُ كذا في سنِّ كذا، إنّما جاءَ تقديرُ السنِّ فيما يجبُ إخراجُه، أمَّا النّصابُ فليس فيه سنٌّ، بل فيه العددُ.
أو خمسًا من صغارِ الإبلِ فإنّه تجبُ فيه الزَّكاةُ بالشّروطِ؛ بأنْ تكونَ سائمةً مثلًا وحالَ عليها الحولُ ففيها الزَّكاةُ، لكنَّ المهمَّ أنَّه ينعقدُ الحولُ بِمِلكِ النّصابِ، فإنَّ مَلَكَ نصابًا صغارًا أو كبارًا انعقدَ حولُه منذ ملكَهُ.
– مداخلة: إذا حالَ عليها الحولُ وليس عنده إلا الصّغارُ يُخرجُ منها؟ كأن يشتريهنَّ قبلَ الحولِ بشهرٍ، يعني حالَ عليهنَّ الحولُ وليس عنده إلا السّخلةُ؟
– الشيخ: يقول: لا يُخرجُ منها، لكنَّ هذه الصَّغارَ تكبرُ، {فاتقوا اللهَ ما استطعتم}، يُخرجُ من الموجودِ؛ من الصّغارِ، الزكاةُ مواساةٌ، وستأتي هذه المسائلُ في الفصلِ الآتي.

– القارئ: (وإنْ نقصَ النصابُ في: بعضِ الحولِ، أو باعَهُ، أو أبدلَهُ بغيرِ جنسهِ، لا فرارًا مِنَ الزكاةِ، انقطعَ الحولُ)
– الشيخ:
إنْ نَقَصَ النّصابُ أثناءَ الحولِ انقطعَ الحولُ، يعني نقصَ النّصابُ كان أربعينَ شاةً فماتت واحدةٌ فإنَّه ينقطعُ الحولُ، أو باعه وهذا من بابِ أولى، باعهُ أي أخرجهُ عن ملكهِ فإنَّه ينقطعُ الحولُ. "أو أبدلَهُ بغيرِ جنسِهِ": يعني أبدلَ غنمًا ببقرٍ، فالغنمُ جنسٌ والبقرُ جنسٌ. "لا فرارًا من الزَّكاةُ": هذا قيدُ إبدالِه، يعني أبدَلَه بغير جنسِهِ لا فرارًا من الزَّكاةِ، فالفرارُ من الزَّكاةِ حيلةٌ، يعني مثلًا أوشكَ تمامُ العامِ فخشي من وجوبِ الزَّكاةِ عليه فأبدَلَه، فهذا لا يجوزُ، ولا ينفعُهُ هذا الإبدالُ، بل عليه أنْ يُخرجَ الزَّكاةَ. إذًا "أو أبدلَهُ بغيرِ جنسِهِ لا فرارًا من الزَّكاةِ انقطعَ الحولُ" في المسائلِ المتقدِّمةِ.

– القارئ: (وإنْ أبدَلَهُ بجنسهِ بنى على حولِهِ)
– الشيخ: 
يعني إنْ أبدلَ أربعينَ شاةً بثمانينَ شاةً فإنَّه يبني على الحولِ، أبدلَ غنامًا بغنمٍ، ٍكبارًا بصغارٍ، أو صغارًا بكبارٍ، فإنَّه يبني على حولِه، لأنَّه لم يتغيّرْ شيءٌ.
– مداخلة: لو أبدَلَه بجنسِهِ لكن مع زيادةِ العددِ هل يختلفُ الحكمُ؟
– الشيخ: لا يختلفُ الحكمُ، كلُّه واحدٌ.

– القارئ: (وتجبُ الزكاةُ في عينِ المالِ ولها تعلقٌ بالذمةِ)
– الشيخ:
يقولُ: "تجبُ الزَّكاةُ في عينِ المالِ ولها تعلُّقٌ بالذِّمةِ" وهذا يظهرُ أثرُهُ فيما لو وجبت الزَّكاةُ في المالِ ثمَّ فرّطَ المالكُ فتلفَ المالُ؛ فإنَّها تجبُ الزَّكاةُ في ذمّتهِ ولو تلفَ، لكن لو لم يفرّطْ فلا زكاةَ عليه، لأنَّ الزَّكاةَ أصلًا تتعلّقُ بعينِ المالِ ولها تعلُّقٌ بالذِّمةِ، فالزَّكاةُ في هذا المالِ، لكنَّه مسؤولٌ، ولهذا تكون دينًا عليه لو فرّطَ، لو فرّطَ أصبحت عليه دينًا في ذمَّته يجبُ أن يُخرجَها أو يقضِيها متى استطاعَ.
– القارئ: (ولا يُعتبرُ في وجوبِها إمكانُ الأداءِ، ولا بقاءُ المالِ)
– الشيخ:
"ولا يعتبرُ في وجوبِها إمكانُ الأداءِ": افرضْ أنَّ المالَ بعيدٌ عنك وليس معك شيءٌ، فإنَّها تجبُ وتبقى في الذِّمةِ، فلا يُشترطُ لوجوبِها إمكانُ الأداءِ أو القدرةِ على الأداءِ. افرضْ أنَّه ما يستطيعُ أن يؤدّي الآنَ لبُعدِ المالِ أو أنَّه سجينٌ، أو المالُ غائبٌ، فإنَّها تجبُ عليه، ويؤدّيها متى استطاع.
"ولا بقاءُ المالِ": يعني بعد وجوبِها كأنَّه، لا يعتبرُ في وجوبِها بمعنى أنَّها وجبت، يعني ما تجبُ في الحقيقةِ إلّا مع بقاءِ المالِ، إذا تلفَ المالُ قبلَ الوجوبِ هل تجب؟ لا تجبُ، فتعبيرُهُ "ولا يُعتبرُ في وجوبِها إمكانُ الأداءِ" هذا ظاهرٌ، تجبُ عليه وإن كان عاجزًا لغيبةِ المالِ أو بُعدَه وعجزهِ عن الإخراجِ، لكنَّ قولَه "ولا بقاءُ المالِ": بمعنى أنَّها لا تسقطُ بعد الوجوبِ، فالعبارةُ عندي ليست دقيقةً فيما يظهر، يعني تجبُ ولو تلفَ المالُ، نعم نقولُ تجبُ ولو تلفَ المالُ بعد وجوبِها، بمعنى لا تسقطُ، وقولُنا "ولا بقاءُ المالِ": بمعنى أنّها لا تسقُط بعد وجوبِها، أمَّا إذا تلفَ المالُ قبلَ الوجوبِ فإنَّها تسقطُ بالضرورةِ، المهمُّ أنَّ مرادَهم أنَّها لا تسقطُ.

– مداخلة: إذا كان صاحبُ المالِ صغيرًا وتلفَ المالُ بعد مضيِّ الحولِ، فهل تتعلّقُ في ذمَّته الزّكاةُ، وكان ذلك بتفريطٍ من وليّهِ؟
– الشيخ: إذًا هو المسؤولُ، الوليُّ هو المسؤولُ، لأنَّ المالَ عنده أمانةٌ، فإذا فرّطّ الوليُّ وهي أمانةٌ عنده فإنَّه يضمنُ، بل لعلّهُ يضمنُها أي المالُ كلُّه، وليس فقط مالُ الزّكاةِ.
– القارئ: (والزكاةُ كالدينِ في التركةِ)
– الشيخ: إذا ماتَ الإنسانُ ولم يُخرجْ الزّكاةَ، وجبتْ عليه ولم يُخرجْها، فإنَّها تُخرَجُ من تركتِهِ، مثلُ الكفّارةِ فهي دينٌ.

القارئ يقرأُ من الشّرحِ الممتعِ:
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِ المَالِ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالذِّمةِ……..
قوله: «وتجبُ الزّكاةُ في عينِ المالِ، ولها تعلّقٌ بالذّمةِ»: اختلفَ العلماءُ ـ رحمهم اللهُ ـ هل الزّكاةُ واجبةٌ في الذّمةِ، أو واجبةٌ في عينِ المالِ؟ فقال بعضُ العلماءِ: إنّها واجبةٌ في الذّمةِ، ولا علاقةَ لها بالمالِ إطلاقًا.
بدليلِ أنَّ المالَ لو تَلِفَ بعد وجوبِ الزّكاةِ لوجبَ على المرءِ أن يؤدّيَ الزّكاةَ. وقال بعضُ العلماءِ: بل تجبُ الزّكاةُ في عينِ المالِ، لقولِه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ولقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لمعاذٍ حين بعثه لليمن:
«أعلمهمْ أنَّ اللهَ افترضَ عليهم صدقةً في أموالِهم»، فالزَّكاةُ واجبةٌ في عينِ المالِ. وكلا القولين يَرِدُ عليه إشكالٌ؛ لأنّنا إذا قلنا: إنّها تجبُ في عينِ المالِ صارَ تعلُّقُها بعينِ المالِ كتعلِّقِ الرَّهنَ بالعينِ المرهونةِ، فلا يجوزُ لصاحبِ المالِ إذا وجبت عليه الزَّكاةُ أنْ يتصرَّفَ فيه، وهذا خلافُ الواقعِ، حيث إنَّ من وجبتْ عليه الزَّكاةُ له أنْ يتصرَّفَ في مالِه، ولو بعدَ وجوبِ الزّكاةِ فيه لكن يضمنُ الزَّكاةَ. وإذا قلنا: بأنَّها واجبةٌ في الذِّمةِ، فإنَّ الزَّكاةَ تكونُ واجبةٌ حتى لو تلفَ المالُ بعد وجوبِها من غيِر تَعَدٍّ ولا تفريطٍ، وهذا فيه نظرٌ أيضًا.
فالقولُ الذي مشى عليه المؤلّفُ قولٌ جامعٌ بين المعنيين، وهو أنّها تجبُ في عينِ المالِ ولها تعلّقٌ بالذمَّةِ، فالإنسانُ في ذمّتهِ مُطالَبٌ بها، وهي واجبةٌ في المالِ ولولا المالُ لم تجب الزّكاةُ، فهي واجبةٌ في عينِ المالِ.

– الشيخ:
يعني قولُ المؤلِّف دقيقٌ وحكيمٌ، وهو وسطٌ بين القولينِ، وكما قال الشيخُ كِلا القولينِ يَرِدُ عليه إشكالٌ، وهذا الذي قالَه المؤلِّفُ تجبُ في عينِ المالِ ولها تعلُّقٌ بالذمّةِ. وبيانُ هذا لو تَلِفَ المالُ بعدَ وجوبِ الزّكاةِ من غيرِ تعدٍّ ولا تفريطٍ فإنّه لا يضمنُ، وهذا يوضّحُ أنَّها مُتعلّقةٌ بعينِ المالِ، ولو تَلِفَت بتفريطٍ منه وجبَ عليه أدائُها، فَعُلِمَ أنّها ذاتُ جانبينِ، وهذا الرّأيُ لا يَرِدُ عليه إشكالٌ.

إلّا أنَّه يُستثنى من ذلك مسألةٌ واحدةٌ وهي العروضُ، فإنَّ الزّكاةَ لا تجبُ في عينِها، ولكن تجبُ في قيمتِها، ولهذا لو أخرجَ زكاةَ العروضِ منها لم تجزئْه، بل يجبُ أن يُخرجَها من القِيمةِ.
فصاحبُ الدّكانِ إذا تمَّ الحولُ، وقال: عندي سكّرٌ وشايٌ وثيابٌ، سأُخرِجُ زكاةَ السكّرِ من السكّرِ، والشّايِ من الشّايِ، والثّيابِ من الثّيابِ؛ فإنّنا نقولُ له: يجبُ أنْ تُخِرَج من القيمةِ. فَقَدِّر الأموالَ التي عندك، وأخرجْ رُبُعَ عُشرِ قيمتِها؛ لأنَّ ذلك أنفعُ للفقراءِ؛ ولأنَّ مالكَ لم يثبتْ من أوّلِ السنةِ إلى آخرِها على هذا فربّما تُغَيِّرُ السكّرَ ـ مثلًا ـ بأرزٍّ، أو بُرٍّ، أو بغيرِ ذلك، بخلافِ السّائمةِ فإنّها تبقى من أوّلِ الحولِ إلى آخرِهِ، وتخرجُ من عينِها، فالصّحيحُ أنَّه لا يصحُّ إخراجُ زكاةِ العروضِ إلّا من القيمةِ.
وعلى القولِ بأنَّ الزّكاةَ تجبُ في عينِ المالِ ولها تعلُّقٌ بالذمّةِ، فإنّه يجوزُ لمن وجبتْ عليه الزّكاةُ أنْ يبيعَ المالَ، ولكن يضمنُ الزّكاةَ، ويجوزُ أنْ يهبَه ولكن يضمنُ الزّكاةَ؛ لأنَّ هذا التعلّقُ بالمالِ ليس تعلّقًا كاملًا من كلِّ وجهٍ حتى نقولَ إنَّ المالَ الواجبَ فيه الزّكاةُ كالموهوبِ، بل لها تعلّقٌ بالذمّةِ.
مسألةٌ: ينبني على الخلافِ في تعلّقِ الزّكاةِ بالمالِ أو بالذمّةِ عدّةُ مسائلَ ذكرها ابنُ رجبٍ في القواعد أُوضِّحُها: لو كان عند إنسانٍ نصابٌ واحدٌ حالَ عليه أكثرُ من حولٍ، فعلى القولِ بأنّها تجُب في الذمّةِ يجبُ عليه لكلِّ سنةٍ زكاةٌ، وعلى القولِ بأنّها تجبُ في عينِ المالِ، لم يجبْ عليه إلّا زكاةُ سنةٍ واحدةٍ ـ السنةِ الأولى ـ لأنّه بإخراجِ الزّكاةِ سينقص النصاب، فإذا كان عند الإنسانِ أربعونَ شاةً سائمةً ومضى عليها الحولُ ففيها شاةٌ، وبها ينقصُ النّصابُ؛ لأنَّ الزّكاةَ واجبةٌ في عينِ المالِ، أمّا إن قلنا: إنّ الزّكاةَ تجبُ في الذمّةِ، فإنّها تجبُ في كلِّ سنةٍ شاةٌ، وقد ذكرَ ابنُ رجبٍ فوائدَ أخرى تنبني على هذا الخلافِ من أرادَهَا فليراجِعْها.

– الشيخ:
هذه المسألةُ فيها تأمّلٌ. إذا وجبت فيه الزّكاةُ ولم يُخرجْها وبقيت عنده، والشّيخُ مثّلَ لها بالغنمِ، عنده أربعونَ رأسٍ من الغنمِ ومضى عليها سنةٌ ولم يُخرِج الزّكاةَ، يقولُ أنّ هناك شاةٌ واحدةٌ منها أصبحت ليست له، كأنَّ النصابَ نَقَصَ، لأنّ هذه الشاةَ زكاةٌ وليست للمالكِ، لكن في الحقيقةِ شاةٌ غيرُ معيّنةٍ. لكن على كلِّ حالٍ يقولون: أنَّ النصابَ حينئذٍ نقصَ، فلا تجبُ عليه إلّا زكاةٌ واحدةٌ. لكن إذا قلنا أنّها في الذمّةِ فقط، فإنّ النصابَ باقٍ، مرّت عليه سنتينِ فتجبُ عليه عن كلِّ سنةٍ زكاةٌ. وهكذا في النّقود: من عندَهُ عشرةُ ألافٍ ومضى عليها مثلًا خمسُ سنواتٍ، عشرةُ ألافٍ فيها مئتانِ وخمسون، يعني نقولُ أوّلَ سنةٍ فيها مئتان وخمسون، وبقيت العشرةُ إلى السنةِ الأخرى، الآن يعني نقولُ لا تجبُ عليه إلّا زكاةُ تسعةِ آلافٍ وسبعمائةٍ وخمسينَ، لأنَّه نقصَ منه مقدارُ الزكاةِ مئتان وخمسون، فهذا في الحقيقةِ محلُّ نظرٍ، فعلى قولِ من يقولُ أنّها متعلِّقةٌ بالمالِ معناه أنَّه نقص، فالمئتانِ وخمسونَ هذه زكاةٌ، لكن الآن هي في يدهِ يتصرّفُ فيها، فكيف نقولُ لا يجبُ فيها زكاةٌ وهو لم يخرجْها، هي في يدهِ لا تخرجُ عن ملكِه إلّا إذا أخرجَ الزكاةَ.

وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا إِمْكَانُ الأدَاءِ، وَلاَ بَقَاءُ المَالِ …
قولُه: «وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا إِمْكَانُ الأدَاءِ» أي: لا يُشترطُ لوجوبِ الزّكاةِ أن يتمكّنَ من أدائِها؛ ولهذا تجبُ في الدَّينِ مع أنّه لا يمكنُ أن تؤدَّى منه، وهو في ذمَّةِ المدين، وفي المالِ الضّائعِ إذا وجدهُ، وفي المالِ المجحودِ إذا أقرَّ به المنكِرُ وهكذا، فلا يُعتَبرُ في وجوبِها إمكانُ الأداءِ، بل تجبُ وإن كان لا يتمكّنُ من أدائِها، ولكن لا يجبُ الإخراجُ حتى يتمكّنَ من الأداءِ.
قولُه: «ولا بقاءُ المالِ» أي: لا يعتبرُ في وجوبِها بقاءُ المالِ، فلو تلفَ المالُ بعد تماِم الحولِ، ووجوبِ الزكاةِ فيه، فعليه الزَّكاةُ سواءٌ فرَّطَ أو لم يفرّطْ؛ لأنّها وجبت، وصارت دَينًا في ذمَّتِه.
وعليه لو أنَّ صاحبَ الزّكاةِ عنده عروضُ تجارةٍ تمَّ الحولُ عليها، وزكاتُها تبلغُ (10.000) ريالًا ثمَّ احترقَ الدّكانُ، ولم يبقَ منه درهمٌ واحدٌ، فعلى كلامِ المؤلفِ يضمنُ؛ لأنَّه لا يُعتبرُ في وجوبِها بقاءُ المالِ.
والصحيحُ في هذه المسألةِ أنّه إن تعدّى أو فرّطَ ضَمِنَ، وإن لم يتعدَّ ولم يُفرِّطْ فلا ضمان؛ لأنَّ الزَّكاةَ بعد وجوبِها أمانةٌ عندَه، والأمينُ إذا لم يتعدَّ ولم يُفرِّطْ فلا ضمانَ عليه.
ولو أنَّ فقيرًا وضعَ عند شخصٍ دراهمَ له، ثمَّ تَلِفَتْ عند المودَعِ بلا تعدٍّ ولا تفريطٍ فلا يلزمُهُ أن يضمنَ للفقيرِ مالَه، فالزّكاةُ من بابِ أولى، مع أنَّ الفقيرَ لا يملكُ الزَّكاةَ إلّا من جهةِ المزكِّي، فكيفَ يضمنُ وهو لم يتعدَّ ولم يفرِّط؟ فإنْ تعدَّى بأن وضعَ المالَ في مكانٍ يُقَدَّرُ فيه الهلاكُ، ضَمِنَ ما تَلِفَ من المالِ بعد وجوبِ الزّكاةِ، وكذلكَ لو فرّطَ فأخَّرَ إخراجَها بلا مُسوِّغٍ شرعيٍّ، وتَلِفَ المالُ فإنَّه يضمنُ الزَّكاةَ. أمَّا إذا لم يتعدَّ ولم يُفرِّطْ وكان مستعدًا للإخراجِ وقتَ الإخراجِ، ولكنْ جاءَهُ أمرٌ أهلكَ مالَه فكيف نُضمّنُه؟! فالصّوابُ: أنَّه لا يُشتَرطُ لوجوبِها بقاءُ المالِ إلّا أن يتعدّى أو يُفرِّط.

– مداخلة: عندنا نسخةٌ أنَّه يُشترط، بلا "لا".
– الشيخ: الصّحيحُ أنَّه يُشترطُ لوجوبِها بقاءُ المالِ، إلّا أن يتعدَّى أو يُفرِّطَ، هذا هو الصَّوابُ.

والزَّكَاةُ كالدَّينِ فِي التَّرِكةِ …
قوله: «والزّكاةُ كالدَّينِ في التّركةِ» أي: إذا ماتَ الرّجلُ وعليه زكاةٌ، فإنَّ الزّكاةَ حكمُها حكمُ الدَّينِ، في أنَّها تُقدَّمُ على الوصيّةِ وعلى الورثةِ؛ فلا يستحقُّ صاحبُ الوصيّةِ شيئًا إلّا بعدَ أداءِ الزّكاةِ، وكذلك لا يستحقُّ الوارثُ شيئًا إلّا بعدَ أداءِ الزَّكاةِ، فإذا قدَّرنا أنَّ رجلًا لزمَه (10.000) زكاةً، ثمَّ تلفَ مالُه إلَّا عشرةُ آلافٍ، وماتَ ولم يُخلِّفْ سِواهَا فتُصرَفُ للزّكاةِ ولا شيءَ للورثةِ، ودليلُ ذلك: قولُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «اقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاء». والزَّكاةُ مقدّمةٌ على الوصيّةِ وعلى الإرثِ، وهذا فيما إذا كان الرَّجلُ لم يتعمّدْ تأخيرَ الزَّكاةِ، فإنّنا نُخرجُها من تَرِكَتِهِ، وتُجزئُ عنه، وتَبرأُ بها ذِمّتُهُ كرجلٍ يزكِّي كلَّ سنةٍ، وتمَّ الحولُ في آخرِ سنواتِه في الدّنيا ثمَّ ماتَ، فهنا نُخرجُها وتَبرأُ بها ذِمّتُه. أمَّا إذا تعمّدَ تركَ إخراجِ الزّكاةِ، ومنعها بُخلًا ثمَّ ماتَ، فالمذهبُ أنَّها تُخرَج وتبرأُ منها ذِمَّتُه. وقال ابنُ القيّمِ ـ رحمهُ الله ـ: إنّها لا تبرأُ منها ذِمّتُه ولو أخرجوها من تَرِكَتِهِ؛ لأنَّه مُصِرٌّ على عدمِ الإخراجِ فكيفَ ينفعُهُ عملُ غيرِه؟ وقال: إنّ نصوصَ الكتابِ والسنّةِ وقواعدَ الشّرعِ تدلُّ على هذا. وما قال ـ رحمهُ الله ـ صحيحٌ في أنَّه لا يُجزِئُ ذلك عنه، ولا تبرأُ بها ذِمَّته، ولكنْ كونُنا نُسقِطُها عن المالِ هذا محلُّ نظرٍ؛ فإنْ غَلَّبْنَا جانبَ العِبادةِ، قلنا بعدمِ إخراجِها من المال؛ لأنَّها لا تنفعُ صاحبَها، وإنْ غَلَّبْنَا جانبَ الحقِّ؛ أي: حقِّ أهلِ الزّكاةِ، قلنا بإخراجِها؛ لنؤدِّي حقَّهم، وإن كانت عند اللهِ لا تنفعُ صاحبَها. والأحواطُ أنْ نُخرجُها من تركتِهِ؛ لتعلُّقِ حقِّ أهلِ الزَّكاةِ بها، فلا تَسقطُ بظلمِ من عليه الحقُّ، وسبق حقّهم على حقِّ الورثةِ.
– الشيخ:
هذا مثلُ ما إذا أُخذتْ من المانعِ قسرًا وهو حيٌّ، تبطلُ مطالبتُه، ولكنَّه يأثمُ لامتناعِه عن إخراجِها، ويُرجَى أنَّه تبرأُ ذِمَّتُه، لكنَّ المعصيةَ حاصلةٌ، لكن ليس له فيها أجرٌ، ولا تُؤمَنُ عليه العقوبةُ، لأنَّها أُخذتْ منه قسرًا، فهذا يُقوّي أنَّها تؤخذُ من مالِه. من ماتَ وقد منعَ الزَّكاةَ فالصّوابُ أنَّ الزَّكاةَ تُخرَجُ ولا تسقطُ وإن كانت لا تبرأُ ذمَّتُه من جهةِ الله، وأنَّها فريضةٌ عليه لأنَّه تعمّدَ البخلَ بها وماتَ ولم يُخرجها، فتُخرَجُ.
– مداخلة: ولو كان عليه سنواتٌ كثيرةٌ، ولنَقُلْ أنَّه لم يُزكّي لعشرِ سنواتٍ مثلًا؟
– الشيخ: ولو كان، فإنَّها تُخرَجُ.

ولكنْ لا تنفعُه عند اللهِ؛ لأنّه رجلٌ مُصِرٌّ على عدمِ إخراجِها.
مسألةٌ: لو ماتَ شخصٌ وعليه دينٌ وزكاةٌ فأيُّهما يُقدَّم؟
مثالُه: رجلٌ خَلَّفَ (100) ريالًا، وعليه زكاةٌ (100) ريالٍ، ودينٌ (100) ريالٍ، فهل يُقدَّمُ حقُّ الآدميِّ، أو تُقدَّمُ الزَّكاةُ؟
في المسألةِ ثلاثةُ أقوالٍ: قال بعضُ العلماءِ: يُقدَّمُ دينُ الآدميِّ؛ لأنَّه مبنيٌّ على المُشاحّةِ؛ ولأنَّ الآدميَّ مُحتاجٌ إلى دفعِ حقِّهِ إليه في الدّنيا، أما حقُّ اللهِ فاللهُ غنيٌ عنه، وحقُّهُ سبحانَه وتعالى مبنيٌّ على المسامحةِ. وقال بعضُ العلماءِ: يُقدَّمُ حقُّ اللهِ لقولِ النّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «اقضوا اللهَ فاللهُ أحقُّ بالوفاء».
وقال بعضُ العلماء: إنّهما يتحاصَّانِ؛ لأنّ كلًّا منهما واجبٌ في ذمَّةِ الميّتِ، فيتساويان، فإنْ كان عليه (100) دينًا و(100) زكاةً، وخّلَّفَ (100) فللزّكاةِ (50) وللدَّينِ (50)، ويُجابُ عن الحديثِ أنَّ الرّسولَ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لم يحكُمْ بين دينينِ أحدُهُما للآدميِّ، والثَّاني للهِ، وإنّما أرادَ القياسَ؛ لأنَّه سألَ: «أرأيتِ لو كان على أمّكِ دينٌ أكنتِ قاضيتَهُ؟» قالت: نعم، قال: «اقضوا اللهَ فاللهُ أحقُّ بالوفاء»، فكأنَّه قال: إذا كان يُقضَى دينُ الآدميِّ، فدينُ اللهِ من بابِ أولى، وهذا هو المذهبُ وهو الرَّاجحُ.
– مداخلة:

– الشيخ: هذا ظاهرُ كلامِ الشّيخِ، مذهبي ما تحرَّى اللهُ أعلمُ، لكنَّه إذا كان النبيُّ يقول: "دينُ اللهِ أحقُّ بالوفاءِ"، فلا أقلَّ من المحاصّة، إن لم نقدِّم كلمةَ "أحقُ بالوفاء"، فهذه ربّما يتعُّلقُ بها من يقولُ: يُقدَّمُ حقُّ اللهِ فاللهُ أحقُّ بالوفاء، فلا أقلَّ أنَّها يستويانِ في الأداءِ، وإن كان حقُّ اللهِ أعظمَ، لكن يتساويانِ في هذا المقامِ من حيثُ قضائِهما، فيتحاصّانِ. ويبدو واللهُ أعلمُ الأمرُ كما ذكرَ الشّيخُ ورجَّحه وذَكَرَ أنَّه المذهبُ، ويُؤخَذُ هذا من عبارةِ المؤلِّف "والزَّكاةُ كالدِّينِ في التَّركة"، يعني قولُه "كالدَّين" هذا يوضِّحُ أنَّهما يتحاصّان جعلها كالدَّين، وهو دينٌ فعلًا.

– مداخلة: قال في الرَّوضِ (ولا) يُعتَبرُ في وجوبِها أيضًا (بقاءُ المال) (5) فلا تسقطُ بتلفِهِ، فَرَّطَ أو لم يُفرِّطْ (6)، كدينِ الآدميِّ (1). وقال ابنُ عثيمينَ: الصّحيحُ في هذه المسألةِ أنَّه إنْ تعدَّى وفرَّطَ ضَمِنَ، وإن لم يتعدَّى ولم يُفرِّطْ فلا ضَمَانَ. ما رأيكم بهذا؟
– الشيخ: رأيي أنَّ هذا صحيحٌ وهو الوجيه، لأنَّه بعدَ وجوبِ الزَّكاةِ المالُ عنده كأمانةٍ، فإن لم يفرِّطْ في إخراجِها ولم يفرّطْ في حفظِ المالِ فلا تجبُ عليه الزَّكاةُ، لأنَّه ما منه شيءٌ، تلفَ المالُ عليه، وهذا راجعٌ إلى مسألةِ تعلُّقِ الزَّكاةِ، والزَّكاةُ لاشكَّ أنَّها واجبةٌ في المال وإن كان لها تعلُّقٌ بالذمَّةِ، فإذا تلفَ المالُ من غيرِ تعدٍّ ولا تفريطٍ فليس له ذنبٌ والحمدُ لله.
– مداخلة: الآنَ مثل التّجارِ الذين لهم على النّاس ديونٌ …
– الشيخ: أنت رجعتَ إلى المسألةِ الأولى؟ هذا دينٌ له، له دينٌ على الأخرينَ، أتْركْ الازدواجيّةَ لا تجيبَها، لا مرَّتين ولا شيء، أنت تزكّي المالَ الذي هو لك وأنت قادرٌ على تحصيلِه، ولكن َّالآخرَ في يدهِ المالُ وهو غنيٌّ به وله أنْ يتصرَّفَ به كما تقدَّمَ، وهذا له مالٌ إذا طَلَبَه وجدَه وأخذَه. هذا هو مسارُ الخلافِ الذي أنت تذكره، ولو طبَّقنا هذا القولَ الذي نقولُه هنا لوجبَ على أصحابِ المصارفِ أن يزكّوا الأموالَ كلَّها التي عندهم، وعلى أصحابِها أن يُزكّوها، لكن الآن عملُهُم الظَّاهرُ أنَّه جارٍ على المذهبِ، يعني أصحابُ المصارفِ لا يزكّون، إلّا ما يُفرَضُ عليهم من جهةِ الدّولة.
– مداخلة:
– الشيخ: نعم، وإلَّا ستكونُ الدَّراهمُ الموجودةُ في الحسابِ ليس عليها شيءٌ، لأنَّها دينٌ وليست ودائعَ، يُسمّونَها ودائعَ وهي دينٌ، لأنَّهم يتصرَّفون فيها ويُقلِّبونَها، فلو أخذنا بأنّه من كان له دينٌ على مليءٍ أنَّه لا زكاةَ عليه لَزِمَ من ذلك أنَّ الأموالَ المودعةَ لا زكاةَ على أصحابِها.
– مداخلة: أبدلَ أربعينَ شاةً بثمانين، يُزكّي عن الأربعينَ أم عن الثّمانين؟
– الشيخ: في الغنمِ ما تختلفُ، زكاةُ الأربعينَ والثّمانينَ واحدةٌ.
– مداخلة: القولُ في المحاصّةِ في الدَّينِ والزَّكاةِ …
– الشيخ: الدَّائنُ يأخذُ نصيبَه محاصّةً، بمعنى إذا كان الزّكاةُ والدَّينُ متساويانِ فالموجودُ من المالِ يُقسَّمُ بينَهما، مثل إذا صارَ عليه دينانِ لاثنينِ ألَا يتحاصّان، طيّبْ الدَّينُ الذي يكونُ للهِ ألَا يكوُن أحقَّ بالمحاصّةِ؟
– مداخلة: رجلٌ من عادتِه أن يشتريَ سياراتٍ ويجمعُ بين نيَّةِ السّيارةِ التي يشتريها، استخدمها فترةً من الزَّمن، ونيةَ أنَّه يبيعُها بمكسبٍ، فجمعَ بين نيَّةِ الاستخدامِ والبيعِ بمكسَبٍ، في إحدى البيعاتِ اشترى سيارتين ببيعٍة واحدةٍ، وبَقينَ معه حولًا كاملًا، وهو يستخدمُ السيارتين؟
– الشيخ: عليه زكاةٌ، وليس المعنى أنَّه يبعدُها ولا يستخدمُها، كأصحابِ المعارضِ للسّياراتِ. فالأصلُ أنَّها تجارةٌ، كصاحبِ الإبلِ فلو أصبحَ له حاجة قضاها عليهنَّ، والزَّكاةُ تكون على قيمتِها عند تمامِ الحولِ.


 
الأسئلة:
س1: تاجرٌ حلَّ عليه وقتُ الزَّكاةِ وليس لديهِ إلّا عروض، فهل يلزمُه أن يبيعَ ولو بأقلِّ من سعرِ السّوقِ لدفعِ الزّكاةِ، أم تبقى في ذمّته؟
ج: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، إذا كان النَّقصُ عاديًا ويسيرًا فيبيعُ، وإن كان فيه خسارةً كبيرةً فينتظرُ حتى يتيسّرَ له سُيولةٌ، يتيسّر له نقودٌ ببيعِهِ العادي.
……………………………………..
س2: رجلٌ لديه أرضٌ تجبُ فيها الزّكاةُ ولديه نقدٌ، هل عليه حرجٌ إنْ أخَّرَ إخراجَ الزَّكاةِ حتى بيعَ الأرضِ؟
ج: إن كان لديه ما يُخرجُ به الزّكاةَ فلمَ التّأخيرُ، الآنَ هي واجبةٌ عليه باعَ أم لم يَبِعْ، ما دامت عروضَ تجارةٍ وقيمتُها معروفةُ في السّعرِ الذي تمشي فيه، يقيّمُها ويزكّي من النّقودِ التي عنده، اللهمَّ إلّا إن كانت على وشكِ البيعِ فيصبر، فالتّأخيرُ غيرُ الكثيرِ يُمكن أن يُقالَ أنَّه لا حرجَ، لكن ما دامَ عنده ما يقضي منه زكاةَ هذهِ الأرضِ التي وجبت فيها الزَّكاةُ في قيمتِها، فليُخرجْ من المالِ الحاضِرِ.
……………………………………..
س 3: من ماتَ ولم يزكِّ لعشرينَ سنةٍ، وكانت تَركَتُهُ أقلَّ من مقدارِ الزَّكاةِ، هل تسقطُ الزَّكاةُ في حقِّه؟
ج: يُخرِجُ التّركةَ كلَّها، والباقي في ذمَّتِه وحسابُه عند الله. ظاهرُ السّؤالِ إن لم يزُكّي متعمّدًا، وتقدَّمَ أنَّ الزَّكاةَ تُخرَجُ والباقي يكونُ دينًا ذمَّته.
……………………………………..
س4: رصيدي في العامِ الماضي ثلاثونَ ألفًا، ثمَّ بعد أن حالَ عليه الحولُ أصبحَ خمسةَ عشرَ ألفًا، فهل أُخرجُ من الثلاثينَ أم من الخمسةِ عشرَ ألفًا؟
ج: يُخرجُ من الموجودِ وهو خمسةُ عشرَ ألفًا، لأنّ ذلك النّقصَ ذهبَ في مصرِفِه، ويمكنُ بعضه لم يَحُل عليه الحولُ، لكنَّ القاعدةَ المقرَّرةَ عند أهلِ العلمِ أنَّ الذي تأتيه أموالٌ متفرّقةٌ ومتقطّعةٌ، أرباحٌ وغيرُ أرباحٍ، وأموالٌ تتجدَّدُ عنده ولا يستطيعُ ضبطَ حولِ كلِّ مالٍ، فإنَّه يجعلُ له موعدًا يُزكّي فيه المالَ، فيخرجُ زكاتَه لهذا العامِ، مثلًا يخرجُها من الموجودِ، إلى العامِ القادمِ فينظرُ إلى حسابِه ويخرجُ زكاةَ الموجودِ زادَ أو نقصَ.
……………………………………..
س5: لو اشترى شخصٌ أربعينَ من الشّاةِ، ثمَّ بعدَ عامٍ زادت وأصبحت ثمانينَ، فهل يخرجُ من الأربعينَ أم من الثّمانين، والعكسُ: لو أنَّها نَقَصَتْ إلى العشرين؟
ج: إذا نَقَصَتْ إلى عشرينَ فمعناه انقطعَ الحولُ لا زكاَة فيها، وأمَّا في التّقريرِ الأوَّلِ فإنَّه يُخرجُ واحدةً من هذه الغنمِ، واحدةً من الأربعينَ أو الثمانين، لكن لا يُخرجُ صغيرةً والكبارُ موجودةٌ.
………………………………………….
س6: ما حكمُ مانعِ الزَّكاةِ تهاونًا، وما حكم تاركِ الزكاةِ جُحودًا؟
ج: أمّا جحودًا فحكمُه ظاهرٌ: كافرٌ بإجماعِ المسلمين. وأمَّا مانعُ الزَّكاةِ بُخلًا فإنَّه عاصٍ ومرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائرِ الذّنوبِ، ومُستوجبٌ لوعيدِ اللهِ في كتابهِ وسنّتهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:35]، وكذلك حديثُ النّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "ما من صاحبِ إبلٍ ولا بقرٍ لا يؤدّي زكاتَها إّلا بطحَ له يوم القيامةِ في قاعٍ قرقرٍ تطأهُ بأظلافِها، وتنطحُه بقرونِها في يومٍ كان مقدارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ".
……………………………………..
س7: ما حكمُ قولِ القائلِ إنَّ هذه الأموالَ التي بين أيدينا "الأوراق" لا تزكّى لأنَّها لم تكن على وقتِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، بل كان عندهم ذهبٌ وفضّةٌ؟
ج: لا أعلمُ أحدًا يقولُ بهذا من أهلِ العلمِ، لأنَّها الآنَ أثمانٌ، هي قائمةٌ مقامَ الذَّهبِ والفضَّةِ، يتبايعُ بها النَّاسُ وتُقيّمُ بها السِّلَعُ، فهذا قولٌ يتضمَّنُ إبطالَ شريعةِ الزّكاةِ. الزَّكاةُ هي فريضةٌ من اللهِ على عبادِه، وهي أموالٌ تؤخذُ من أغنيائِهم، فالنَّاسُ الذين يملكونَ هذه النّقودَ يصيرون بها أغنياءَ، ومن لا تكونُ عنده، ولا يجدُ منها شيءٌ يكونُ فقيرًا.
……………………………………..
س8: شخصٌ يُضاربُ في أموالِ النّاسِ، فهل الزّكاةُ عليه أم على أصحابِ الأموالِ؟
ج: على أصحابِ الأموالِ، لأنَّ الأموالَ التي بيدِه ليست ملكُه، وليسَ له منها شيءٌ إلّا الرِّبحَ، والرِّبحُ لا يتحقّقُ إلّا إذا اتَّفقَ على التّصفيةِ يأخذُ رِبحًا، وما دامَ المالُ في يدهِ وهو يشتغلُ فيه فهو لا يملكُ منه شيءٌ.
……………………………………..
س9: رجلٌ أوقفَ بقرةً لفقراءَ، فأنتجت البقرةُ اثنتينِ، لكن مرضتْ مرضًا خَشِيَ عليها من الهلاكِ فباعَها الفقيرُ بثمنٍ قليلٍ، واستطاعَ أن يجمعَ الفقيرُ إلى هذا الثّمنِ ثمنًا آخرَ فاشترى بقرةً، ثمَّ حصلت مخاطرُ في هذا البلدِ فخافَ على موتِها فأعطاها الفقيرُ آخرَ دينًا كسنةٍ، فغضبَ الواقفُ وطلبَ من الفقيرِ هذه الثّلاثة ليوقفَها على الآخرين، فما الحلُّ لذلك؟
ج: هذا سؤالٌ يحتاجُ إلى كثيرٍ من الاستفصالِ، لكنَّ الذي يبدو أنَّه للواقفِ حقٌّ، لأنَّ هذا تصرُّفٌ فيما لا يملكُ، فالبقرةُ موقوفةٌ عليه بحيثُ ينتفعُ منها من حليبِها وما أشبهَ ذلك، فالظَّاهرُ أنَّ القولَ هو قولُ الواقفِ، لأنَّها سُلِّمتْ له لينتفعَ بها، وليس له أن يبيعَها.
……………………………………..
س10: في قصّةِ يوسفَ، لماذا ذكرَ اللهُ حالةَ يعقوبَ في فقدِه، ولم يذكر اللهُ سبحانَه وتعالى حالةَ أمِّه؟
ج: اللهُ أعلمُ، لا ندري عن حالِها شيئًا، هل كانت كيعقوبَ في الأسى، اللهُ أعلم، والعجبُ من بعضِهم، بعضُ المفسرين يقولون: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف:100] إنَّه أبوهُ وخالتُه، وأنَّها ليست أمُّه، وهذا خلافُ ظاهرِ القرآنِ، بل هم أبواه، أمُّه وأبوه، واللهُ أعلم.
……………………………………..
س11: ما حكمُ من نسي قراءةَ سورةِ الفاتحةِ في صلاة سريةٍ وتذكّرَ عندما ركعَ وهو مأمومٌ؟
ج: نرجو أنَّ صلاتَه صحيحةٌ، لأنَّ القراءةَ على المأمومِ فيها اختلافٌ كثيرٌ، ومع النّسيانِ فالرَّاجحُ أنَّها تسقطُ بالنّسيان بالنسبةِ للمأموم.
……………………………………..
س12: من صلّى على أكثرِ من جنازةٍ، هل يحصلُ له من الأجرِ عددَ ما صلّى؟
ج: بهذا يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ، وفضلُ اللهِ واسعٌ.         
 

info

معلومات عن السلسلة


  • حالة السلسلة :مكتملة
  • تاريخ إنشاء السلسلة :
  • تصنيف السلسلة :الفقه وأصوله