بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب الصّيام)
– الدّرس: الأوّل
*** *** *** ***
[1]
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنِّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
[كتابُ الصيامِ]
– الشيخ:
هذا كتابٌ يُذكرُ فيه الأحكامَ المتعلّقة بالصيامِ، والصيامُ عبادةٌ من العباداتِ التي يُحبُّها اللهُ وشَرَعَها لعبادِهِ. وقد رتّبَ المصنّفونَ في مسائلِ الأحكامِ على ترتيبِ أركانِ الإسلامِ، فبدأوا بالصلاةِ ثمَّ الزكاةِ ثمَّ الصومِ ثمَّ الحجِّ. العباداتُ صِنفان: الفرضُ والنَّفلُ، سواءٌ في الصلاةِ أو الصيامِ، لكنَّ المقصودَ الدائمَ هو الفرائضُ، هي القصدُ الأولُ، وما يتعلَّقُ بالنوافلِ إنّما هو تبعٌ. ثمَّ إنَّ معظمَ الأحكامِ المعتبرةِ في الفرائضِ معتبرةٌ في النوافلِ، فأحكامُ الفرائضِ والنوافلِ تكادُ أن تكونَ واحدةً، فأحكامُ الفرائضِ والنوافلِ تكادُ أن تكونَ واحدةً إلَّا في بعضِ المسائلِ المستثناةِ.
والصومُ: صامَ يصومُ صومًا وصيامًا؛ مصدرٌ، ومعناهُ في اللغةِ: هو الإمساكُ مطلقًا، الإمساكُ عن الكلامِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26]. فالإمساكُ عن الكلامِ صيامٌ، ولكنَّ معناه في الشرعِ إمساكٌ خاصٌّ، إمساكٌ عن المفطراتِ، عن مفسداتِ الصيامِ.
والأصلُ هو الإمساكُ عن الأكلِ والشربِ والجماعِ، هذه الثلاثةُ هي المنصوصُ عليها في القرآنِ، منصوصٌ عليها إذنًا ومنعًا، قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، ثمَّ قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ أي الإمساكُ عن الثلاثةِ المذكورةِ التي أحلَّها اللهُ للعبادِ في الليلِ ومنعها في النّهارِ، ويلتحقُ بها كلُّ ما دلَّ الدليلُ على أنَّه يُفسدُ الصيامَ فهو مُلحَقٌ بهذه الثلاثةِ من حيثُ إفسادِ الصيامِ. فالصيامُ إذًا هو الإمساكُ عن مفسداتِ الصيامِ من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
لكن لابدَّ فيه أن يكونَ بنيّةٍ، شرطُ الصومِ هو النيّةُ لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ"، فلابدَّ أن يكونَ الصومُ بنيّةٍ، بنيةٍ من الليلِ حتى يعمَّ الوقتَ كلَّه من الفجرِ إلى الليلِ، وأن يكونَ على وجهِ التقرّبِ إلى اللهِ؛ فمن أمسكَ بنيّةٍ لا على وجهِ القربةِ لم يكن صيامُهُ شرعيًا، يعني صيامٌ عاديٌّ، فأحيانًا يُؤمرُ الإنسانُ بالإمساكِ طبيًا من أجلِ حالةٍ مرضيةٍ يُؤمرُ بالإمساكِ فيُمسكُ، كإجراءِ عمليةٍ أو غيرِها، فلابدَّ أن يكونَ بنيّةِ التقرّبِ إلى اللهِ. ونبّهَ على ذلك الشيخُ محمدٌ عندكم، وهذا تنبيهٌ مهمٌّ لا يكادُ أن يذكرَ، لكنَّ الفقهاءَ لم يذكروهُ لأنَّه أَمرٌ بدهيٌّ وهو أمرٌ مفروغٌ منه، لأنّنا نتكلّمُ عن عبادةٍ، فرضٍ أو تطوعٍ، فهو وإن لم يذكرْهُ الفقهاءُ لأنَّه أمرٌ مفروغٌ منه، لأنَّه في التكلّمِ عن الصيامِ المشروعِ الذي فرضه اللهُ، فالتّنصيصُ عليه من بابِ التأكيدِ وأن يستحضرَ الإنسانُ التعبّدَ والتقرّبَ إلى اللهِ، وإلَّا فالمسلمُ يصومُ لماذا؟ إنّما يريدُ به القربةَ والعبادةَ أو الإمساكَ العاديَّ؟ هذا أمرٌ بدهيٌّ مفروغٌ عليه فالتّنصيصُ عليه من بابِ التأكيدِ. واستحضارُ القربةِ ممّا يكملُ به العملُ ويزدادُ به صلاحًا.
– القارئ: (يجبُ صومُ رمضانَ: برؤيةِ هلالهِ، فإنْ لم يُرَ معَ صحوِ ليلةِ الثلاثينَ: أصبحوا مفطرينَ)
– الشيخ: يقولُ المؤلّفُ: يجبُ صومُ رمضانَ لرؤيتِه: وجوبُ صيامِ رمضانَ في ذمّةِ المكلّفِ ثابتٌ في الكتابِ والسنّةِ والإجماعِ، لأنَّه من ضروريّات الدينِ، فمن جَحَدَ وجوبَ صيامِ رمضانَ كفرَ، وهو أحدُ أركانِ الإسلامِ. لكن هنا يجبُ صيامُ رمضانَ، أي أداءُ الصيامِ إذا دخلَ وقتُهُ، مثل سائرِ الصلواتِ؛ فهي واجبةٌ في ذمّةِ المكلّفِ وهو مُخاطَبٌ بها، فالظهرُ متى تجبُ؟ تجبُ إذا زالتِ الشمسُ، فقولُنا: إذا زالتِ الشمسُ، مثلُ قولِنا هنا: يجبُ صومُ رمضانَ برؤيةِ هلالِهِ، فالواجباتُ الموقّتةُ تجبُ في دخولِ الوقتِ.
والشروطُ: مرَّ عليكم، منها ما هو شروطُ وجوبٍ وصحةٍ وإجزاءٍ، فالوقتُ: هو شرطُ وجوبٍ وشرطُ صحّةٍ. فصيامُ رمضانَ إنّما يجبُ إذا دَخَلَ شهرُ رمضانَ ولا يصحُّ قبلَه، ولا يجبُ. فثبوتُ دخولِ الشهرِ هو شرطُ وجوبٍ وشرطُ صحّةٍ، فلا يصحُّ قبلَه، بل لا يجبُ قبلَه. فهنا قولُ المؤلّفِ: يجبُ برؤيةِ الهلالِ، فإنْ لم يرَ ليلةَ الثلاثينَ من شعبانَ أصبحوا مفطرين، هذه نتيجةُ أنّه يجبُ برؤيةِ الهلالِ، ثمَّ إذا لم يرَ تلكَ الليلةَ، يعني وجبَ في اليومِ الثاني.
إذًا شهرُ رمضانَ يجبُ برؤيةِ الهلالِ أو بإكمالِ الشهرِ ثلاثينَ. "أصبحوا مفطرينَ": إذا أصبحوا مفطرينَ يومَ الثلاثين معناهُ أنّهم سيصومونَ غدًا، بناءً على ماذا؟ إذا صاموا غدًا بناءً على أنَّهم رَأوه أم لم يروه، فإنَّهم يصومونَ اليومَ الآخر، الواحدَ والثلاثين، يصومونَه ولابدَّ، رأوا الهلالَ أو لم يروهُ، وذلك لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "صوموا لرؤيتِه": يعني شهرَ رمضانَ "وأفطروا لرؤيتِه": لرؤيةِ هلالِ شوالَ. "صوموا لرؤيتِهِ": أي رؤيةِ الهلالِ، وفي اللفظِ الآخرِ: "إذا رأيتموهُ فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، الأولُ هلالُ رمضانَ، والثاني هلالُ شوالَ.
فإذا لم يرَ ليلةَ الثلاثين أصبحنا مفطرينَ، معناها إكمالُ الشهرِ، وهذا معنى قولِه: "فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدّةَ ثلاثين"، وجاءَ في روايةٍ: "فأكملوا عدَّةَ شعبانَ ثلاثين"، هذا في شأنِ رؤيةِ هلالِ رمضانَ "فأكموا عدة شعبان". وقولُه: "أكملوا العدَّةَ ثلاثين": يشملُ هلالَ رمضانَ وهلالَ شوالَ، فإذا رأيناهُ أي هلالَ شوالٍ وجبَ الفطرُ، وإذا لم نرهُ وَجَبَ أن نكملَ الشهرَ ثلاثينَ لقولِه: " فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّةَ"، عدَّةُ ماذا؟ عدَّةُ شعبانَ، وهذا في هلالِ رمضان، أو عدَّةُ رمضانَ في شأنِ هلالِ شوال، " فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدّةَ ثلاثين".
إذًا: رمضانُ يجبُ صومُه برؤيةِ الهلالِ أو بإكمالِ عدّةِ شعبانَ ثلاثينَ يومًا، يجبُ بأحدِ أمرين: إمّا رؤيةُ الهلال، وإمَا إكمالُ شعبانَ ثلاثينَ يومًا لأحدِ السّببين. ولا يجوزُ الاعتمادُ على غيرِ هذينِ الأمرينِ، فلا يُعوّلُ على الحسابِ بإجماعِ العلماءِ، أخذًا بالأدلّةِ المستفيضةِ عن النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-. فلو أجمعَ أهلُ الحسَّابونَ أو الفلكيونَ على أنَّ الهلالَ لا يُرَى، أنَّه مثلًا يُولدُ في هذهِ الليلةِ ويُرَى ولم نرهُ فلا نعتدُّ به؛ لأنَّ الحكمَ عندنا الكتابُ والسنّةُ، لا نصومُ حتّى نراهُ، إذا لم نرهُ فالحمدُ للهِ، "أكملوا العدّةَ ثلاثين". فلا نعتدُّ بقولِ أهلِ الحسابِ لا في النّفي ولا في الإثباتِ، فلو قامتِ البيّنةُ على دخولِ الشهرِ ورؤيةِ الهلالِ وحكمَ أهلُ الحسابِ بأنَّه لا يُرَى وقد رأيناه فنحنُ معذورون، نحن معذورون حتى لو قُدّرَ أنَّ الشهودَ يُخطئون.
لو أخطأَ الناسُ في رؤيةِ هلالِ ذي الحجّةِ وحجَّ الناسُ بأنَّهم تقدّموا أو تأخَّروا، فلا يضرُّهم ذلك لأنَّهم عملوا بأمرِ اللهِ وشرعِه، "الصومُ يومَ تصومون والأضحى يومَ تُضحّون". فالمقصودُ أنَّ شهرَ رمضانَ يثبتُ بأحدِ هذين الأمرين: إمّا برؤيةِ الهلالِ أو بإكمالِ شعبانَ ثلاثينَ يومًا.
يقولُ: "فإن لم يُرَ الهلالُ ليلةَ الثلاثين أصبحوا مفطرين": معناه أنَّهم يُكملونَ شعبانَ ثلاثينَ، هذا معناهُ أنَّهم يُصبحونَ مُفطرينَ، وإفطارُهم يكونُ في يومِ الثلاثينَ. إذًا: أكملوا الشهرَ ثلاثينَ فبالضرورةِ أنَّه لابدَّ أن يصوموا غدًا لا على الرؤيةِ، بل بناءً على إكمالِ الشهرِ ثلاثينَ يومًا. والرؤيةُ بالمكبّراتِ معتبرةٌ لأنَّها هي الرؤيةُ، هذه مساعدةٌ للبصرِ.
– القارئ: (وإنْ حالَ دونَه غيمٌ أو قَتَرٌ: فظاهرُ المذهبِ يجبُ صومُه)
– الشيخ: يقولُ: إن حالَ دونَه غيمٌ: سحابٌ، أو قَتَرٌ: غبارٌ، يعني ليلةَ الثلاثين، يقولُ: ظاهرُ المذهبِ المعتمدِ عند الحنابلةِ -عند المتأخّرينَ منهم- لأنَّ لهم اصطلاحٌ يقولون: المذهبُ كذا، أو المذهبُ كذا، بناءً على ما رُويَ عن الإمامِ أحمدَ. يرونَ أنَّه جاءَ عن الإمامِ أحمدَ رواياتٌ تدلُّ وتقتضي هذا، وهم مُنازَعون في هذا، من الفقهاءِ من يقولُ: إنَّه لم يثبتْ عن الإمامِ أحمدَ روايةٌ تقتضي القولَ بوجوبِ الصومِ، لكنَّ الذي جاءَ عنه ما يقتضي الاستحبابَ لا الوجوبَ، لذلك قال المؤلّفُ: فظاهرُ المذهبِ أنَّه يجبُ الصومُ. وهذا اليومُ هو يومُ الشكِّ، ويومُ الشكِّ لأهلِ العلمِ فيه مذاهبٌ، قيلَ: حرامٌ لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "لا تقدّموا رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين إلّا رجلٌ كان يصومُ صومًا فليصم"، ولحديثِ عمارَ: "من صامَ اليومَ الذي يُشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ"، وفيه مخالفةٌ أيضًا لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "صوموا لرؤيتِهِ وأفطروا لرؤيتِهِ"، فإنَّ من صامَ يومَ الشكِّ لم يَصُم كما أُمرَ. وقيلَ: مستحبٌّ احتياطًا. وقيلَ: مكروهٌ. وقيلَ: واجبٌ كما هنا. فهي أقوالٌ متباينةٌ، وأقوى هذه الأقوالِ: أنَّه حرامٌ ولا يجوزُ صيامُه، لأنَّه مخالفٌ لهذهِ الأدلّةِ.
– القارئ: (وإن رُؤِيَ نهارًا: فهو للّيلةِ المقبلةِ)
– الشيخ: يظهرُ أنَّه يعني يُحتمَلُ أن يُرَى، والرؤيةُ المعتبرةُ بعد غروبِ الشمسِ، أمَّا إذا رأيناهُ قبلَ غروبِ الشمسِ ثمَّ غابَ قبلها فإنَّه لم يُرَ، تقدّمَ، لكن إذا رؤي متأخرًا عن الشمسِ وهذا ما يعبّرُ عنه بالولادةِ، يظهرُ أنَّ تأخّرهُ عن الشمسِ يُهيّئهُ أن يُرَى فيصيرُ لليلةِ المقبلةِ، فإذا رؤيَ متأخرًا عن الشمسِ في النّهارِ فهو لليلةِ المقبلةِ. رأيناهُ العصرَ مثلًا، هذا واضحٌ أنَّ الشمسَ تغربُ قبلَه، لأنَّ سيرَ القمرِ أضعفُ، كلَّما تقدّمَ الوقتُ ازدادَ تأخرًا، الشمسُ تقطعُ الدورةَ بكم؟ بأربعٍ وعشرينَ ساعةً تقريبًا، يعني جزءٌ بسيطٌ الفرقَ.
لكنَّ القمرَ يقطعُ الفلكَ بما يقربُ من خمسٍ وعشرينَ ساعةً، يعني أقلَّ أو أكثرَ. دائمًا إذا سارَ مع الشمسِ يكونُ متأخرًا، ولهذا انظروا متى ترونَه في الليلةِ الأخرى، إذا رأى الناسُ الهلالَ أوَّلَ ليلةٍ من الشهرِ يرونَه بُعيدَ غروبِ الشمسِ بدقائقَ. الليلةُ الثانيةُ متى؟ يتأخّرُ، فمعناه لا يرونَهُ بعدَ الشمسِ إلّا بربعٍ، وهكذا يستمرُّ تأخُّرُهُ حتى يبلغَ منتهاه. فهذا المقصودُ بقولِه: إنْ رؤيَ نهارًا فهو لليلةِ المقبلةِ.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
وَإِنْ رُئيَ نَهَارًا فَهْوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ.
قولُه: «وإنْ رئيَ نهارًا فهو لليلةِ المقبلةِ»: الضميرُ يعودُ على الهلالِ. والمؤلّفُ لم يُرِدِ الحكمَ بأنَّه لليلةِ المقبلةِ.
– الشيخ: وكأنَّه ما يريدُ بهذا أنّنا نحكمُ أنَّ الليلةَ المقبلةَ من الشهرِ، لأنَّ الحكمَ بدخولِ الشهرِ يُلاحَظُ عند الغروبِ. فهو لليلةِ المقبلةِ، المؤلّفُ لا يريدُ الحكمَ.
– القارئ: ولكنّه أرادَ أن ينفيَ قولَ من يقولُ: إنَّه لليلةِ الماضيةِ، فإنَّ بعضَ العلماءِ يقولُ: إذا رُئيَ الهلالُ نهارًا قبلَ غروبِ الشمسِ من هذا اليومِ فإنَّه لليلةِ الماضيةِ، فيلزمُ الناسَ الإمساكُ. وفصَّلَ بعضُ العلماءِ بين ما إذا رُئيَ قبلَ الزّوالِ أو بعدَه، والصحيحُ أنَّه ليس لليلةِ الماضيةِ، اللهمّ إلّا إذا رُئيَ بعيدًا عن الشمسِ بينَه وبينَ غروبِ الشمسِ مسافةً طويلةً، فهذا قد يُقالُ: إنَّه لليلةِ الماضيةِ، ولكنَّه لم يُرَ فيه لسببٍ من الأسبابِ، لكن مع ذلك لا نتيقّنُ هذا الأمرَ.
– الشيخ: ولهذا الناسُ رأوا الهلالَ رفيعًا، فهذا معنى أنَّه متأخّرٌ، إذا رأوهُ رفيعًا. يعني غابتِ الشمسُ قبلَه بكثيرٍ وظهرَ مستنيرًا، يقولون: يقعُ في النّفوسِ أنَّه لليلةِ الماضيةِ لأنّه رفيعٌ، فارتفاعُه يُشعِرُ بأنَّه قد هَلَّ. ولهذا إذا أكملنا الشهرَ ثلاثينَ يومًا ورأيناهُ في اليومِ الأولِ الذي هو اعتبارًا من واحدٍ وثلاثينَ في الحسابِ، ورأيناهُ رفيعًا هل يتغيّرُ الحكمُ؟ يعني قد يقوى الظنُّ أو يقوى احتمالُ أنَّه قد هَلَّ، لكن نحنُ غيرُ مكلفينَ، إنَّما علينا أن نعتمدَ ما تيقنّاه، فهذا ظنَّ أنَّه قد هَلَّ. فكِبَرُ الأهلةِ وارتفاعُ الهلالِ لا يُغيّرُ من الحكمِ الشرعيِّ شيئًا.
– القارئ: وقولُه «لليلةِ المقبلةِ»: ليس على إطلاقِه أيضًا؛ لأنَّه إن رُئيَ تحتَ الشمسِ بأنْ يكونَ أقربَ للمغربِ من الشمسِ فليسَ لليلةِ المقبلةِ قطعًا؛ لأنَّه سابقٌ للشمسِ، والهلالُ لا يكونُ هلالًا إلَّا إذا تأخَّرَ عن الشمسِ. فمثلًا: إذا رُئيَ قبلَ غروبِ الشمسِ بنصفِ ساعةٍ، وغَرَبَ قبلَ غروبِها بربِعِ ساعةٍ، فلا يكونُ للمقبلةِ قطعًا لأنَّه غابَ قبلَ أن تغربَ الشمسُ، وإذا غابَ قبلَ أن تغربَ الشمسُ فلا عبرةَ برؤيتِه؛ لأنَّ العبرةَ برؤيتِه أن يُرى بعدَ غروبِ الشمسِ متخلفًا عنها.
– الشيخ: وهذا هو الظّاهرُ، والذي عليه عملُ المسلمين، إنَّما يتراءَونَه بعدَ غروبِ الشمسِ، أمّا إذا رأوهُ ثمَّ غابَ قبلَ غروبِ الشمسِ فلا عِبرةَ برؤيتِه لهم. لكن بناءً على التقريرِ السابقِ ما يُتصوَّرُ أن نراهُ يعني متأخرًا عن غروبِ الشمسِ ثمَّ نراهُ عندَ غروبِ الشمسِ متقدّمًا، هذا لا يمكنُ؛ لأنَّه من المتقررِ عندنا أنَّه لا يتقدّمُ الشمسَ بعدَ أن كان متأخرًا؛ لأنَّ سيرَهُ بطيءٌ فلا يزدادُ إلَّا تأخّرًا.
– القارئ: (وإذا رآهُ أهلُ بلدٍ: لَزِمَ الناسَ كُلَّهُمُ الصومُ)
– الشيخ: يعني رؤيَ في بلدٍ وليس معناهُ أنَّه رآهُ كلُّ البلدِ. "لزمَ الناسَ كلَّهم الصومُ": يعني لزمَ المسلمينَ في جميعِ أقطارِ الدنيا، هذا أحدُ الأقوالِ في المسألةِ، وهي مسألةٌ كبيرةٌ من مسائلِ الخلافِ، وتعدّدتْ فيها المذاهبُ. هذا أحدُ الأقوالِ: إذا رُؤيَ في بلدٍ ثبتَ الهلالُ بشهادةٍ معتبرةٍ لزمَ الناسَ كلَّهم الصومُ، وحينئذٍ لا عبرةَ باختلافِ المطالعِ، ولا عبرةَ بأيِّ أمرٍ من الأمورِ، يلزمُ الناسَ كلَّهم. وهذا في الزمانِ الماضي لا أثرَ له بهذهِ الصفةِ لزمَ الناسَ كلَّهم، فإنَّهم لم يكونوا يتساءلونَ في الأقطارِ المتباعدةِ. يعني إذا رُؤيَ الهلالُ في بلدٍ إنَّما يعتبرُهُ ويعملُ به من كان قريبًا منه فقط، ولم يكن أهلُ المغربِ يُكاتبونَ أهلَ المشرقِ، الكلُّ يعملُ برؤيتِه في البلدِ المعيّنِ وما كان قريبًا منه.
ومن أهلِ العلمِ من يقولُ: إنّما يلزمُ برؤيةِ البعضِ من كانوا متّحدي المطلعِ، يعني أنَّ العبرةَ باتّحادِ المطالعِ، فإذا رُؤيَ في بلدٍ لزمَ من هو على سمتِه من البلادِ من حيثُ مطلعِ الهلالِ. أمّا القولُ الأوّلُ فلا اعتبارَ لاختلافِ المطالعِ، وأقولُ أنَّه في الماضي أنَّ هذا المذهب لا يتأتّى تطبيقُه ولم يكن له حقيقةً ولا يمكنُ تطبيقُه، أمَّا الآنَ بعدَ وجودِ وسائلِ الاتصالِ، يعني لو كانت الأمّةُ تحتَ ولايةٍ واحدةٍ لأمكنَ تطبيقُ هذا المذهب، لكن الآنَ أكثرُ ما يفرّقُ النّاسَ الآنَ اختلافُ الولاياتِ، لكلِّ بلدٍ حكومةٌ وولايةٌ يعتمدون ما يعتمدون.
ولهذا من أهلِ العلمِ من يقولُ: إنّ العبرةَ بصومِ الإمامِ، بصومِ الحاكمِ، بصومِ الدولةِ، فكلُّ من هو تحتَ نفوذِها يلزمُهُ الصومُ جمعًا للكلمةِ. ومما قيلَ في هذا: أنّه إذا رُؤيَ في المشرقِ لزمَ من بعدَهم، وهذا عندي قولٌ قويٌّ وجيّدٌ من جهةِ النّظرِ للمعنى الذي ذكرتُه وهو أنَّ الهلالَ لا يزدادُ بتقدّمِ الوقتِ إلّا تأخّراّ، فإذا رأت السعوديةُ مثلًا فنحنُ نقطعُ أنَّه لابدَّ أن يُرَى في المغربِ، لأنَّه لا يزدادُ بتقدّمِ الوقتِ إلّا تأخّرًا، ويمكنُ أن نقولَ أنَّه غابَ بعدَ الشمسِ ثمَّ إنَّه في الحجازِ يغيبُ قبلها أو في مصرَ أو في المغربِ، فإذا رُؤيَ في جهةِ المشرقِ فإنَّ هذا يقتضي أنَّه يُرَى في البلادِ الغربيةِ عن تلكَ البلادِ، هذا عندي من أحسنِ الاعتباراتِ إن أمكنَ تطبيقُه، والآنَ هذا ممكنٌ بحكمِ وجودِ هذهِ الوسائلِ ونقلِ الأخبارِ والمعلوماتِ، متيسّرٌ، لكنَّ الذي هو معتمدٌ في أكثرِ البلدانِ ما تعتمدُهُ الجهاتُ العلميّةُ أو الرسميّةُ والحكوميّةُ، والأمرُ واسعٌ وللهِ الحمدُ، يعني دينُ اللهِ مبنيٌّ على التيسيرِ.
– القارئ: (ويُصامُ: برؤيةِ عدلٍ، ولو: أنثى)
– الشيخ: قولُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "صوموا لرؤيتِهِ" متوجّهٌ لمن؟ إلى كلِّ واحدٍ؟ إلى كلِّ الناسِ؟ المقصودُ: صوموا إذا رآهُ من يثبتُ بخبرِهِ الشهادةُ. إذا رآهُ أهلُ بلدٍ ثبتتِ الرؤيةُ برؤيةِ واحدٍ على كلامِ المؤلّفِ ولو كانت أنثى، وهذا خاصٌّ في رؤيةِ هلالِ رمضانَ. أمّا بقيّةُ الشهورِ فالمعروفُ أنَّه لا يثبتُ دخولُ الشهرِ ولا خروجُهُ إلّا برؤيةِ شاهدين، ويروونَ في ذلك حديث: "إذا شَهِدَ شاهدان فصوموا وأفطروا".
ودليلُ ما ذكرهُ المؤلّفُ ما ثبتَ عن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنه: "قال تراءَى الناسُ الهلالَ فرأيتُه وأخبرتُ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فأمرَ النّاسِ بالصيامِ"، وجاءَ أعرابيٌّ وشهدَ عند الرسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّه رأى الهلالَ فأمرَ بصيامِهِ.
يقولُ المؤلّفُ: "ولو أنثى": و"لو" في اصطلاحِ الحنابلةِ: إشارةٌ إلى القولِ القويِّ في المسألةِ، يعني المذهبُ يثبتُ برؤيةِ أنثى، والقولُ الثاني الذي أشارَ إليه المؤلّفُ أنَّه لا يثبتُ برؤيةِ المرأةِ. وما ذُكرَ في المذهبِ لعلَّه هو الصحيحُ، كما أنَّ الحديثَ والروايةَ يثبتُ بروايةِ المرأةِ فكذلكَ، فهذا من نوعِ الروايةِ، لأنَّه يتعلّقُ بأمرٍ دينيٍّ، فهي غيرُ مُتّهمةٍ، فلا تتطرّقُ التّهمةُ في خبرِ المسلمِ أو المسلمةِ العدلِ.
– القارئ: (فإنْ صامُوا: بشهادةِ واحدٍ ثلاثينَ يومًا فلم يُرَ الهلالُ، أو صامُوا لأجلِ غيمٍ: لم يفطرُوا)
– الشيخ: هاتانِ مسألتانِ، إذا صاموا برؤيةِ واحدٍ على ما تقدَّمَ ثلاثينَ يومًا ولم يُرَ الهلالُ لم يفطروا ولو أكملوا ثلاثينَ، لأنَّ هذا يقتضي بناءَ الفطرِ على رؤيةِ واحدٍ، والقولُ الصحيحُ عندهم: أنَّ الفطرَ لا يثبتُ إلَّا برؤيةِ شاهدينِ، فلا يصحُّ بناءُ الفطرِ من رمضانَ على رؤيةِ واحدٍ، لأنَّ هلالَ شوّالٍ لا يثبتُ عندهم إلَّا برؤيةِ شاهدين، فإن صاموا ثلاثينَ ولم يُرَ الهلالُ فإنَّهم حينئذٍ قد بَنَوا الفطرَ على رؤيةِ واحدٍ في أوّلِ الشهرِ.
والقولُ الثاني: أنَّهم يُفطرون لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّةَ ثلاثين" وقد صُمنَا بأمرِ اللهِ ورسولِه، وبشهادةِ العدلِ، وأفطرنا بأمرِ اللهِ ورسولِه بإكمالِ الشهرِ، فالصّحيحُ: إذا صُمنا ثلاثينَ يومًا ولو برؤيةِ واحدٍ عدلٍ فإنَّ الواجبَ أن نفطرَ لقولِه: "فإن غُمَّ عليكم فاكملوا العدَّةَ ثلاثين"، وقد أكملنا الشهرَ ثلاثين.
– القارئ: (ومَنْ رأى وحدهُ: هلالَ رمضانَ ورُدَّ قولُهُ، أو رأى هِلالَ شوالٍ: صامَ)
– الشيخ: هاتانِ مسألتانِ أيضًا، من رأى هلالَ رمضانَ ورُدَّ قولُه لأنَّه ليس بثقةٍ، أو ليسَ بعدلٍ، أو ليسَ بمتميّزٍ في بصرِه، فردّتِ المحكمةُ خبرَه، ورُدَّ قولُه في هلالِ رمضانَ وكذلك شوالَ، فمن رأى الهلالَ وحدَه ورُدَّ قولُه صامَ، صامَ في المسألتين، فيَعملُ برؤيتِه بالأوّلِ ولا يَعملُ برؤيتِه في الثاني، صامَ في المسألتين. فمن رأى هلالَ رمضانَ ورُدَّ قولُه فإنَّ عليه أن يصومَ لأنَّه قد رأى الهلالَ، فيصومُ في خاصةِ نفسِهِ ولا يُظهِرُ ذلك، لكن إذا رأى هلالَ شوّالٍ ورُدَّ قولُه، يعملُ كما يعملُ في أوّلِ الشهرِ؟ لا، لا يعملُ به، فغلّبوا جانبَ الاحتياطِ في الصيامِ في الموضعين. والقولُ الثاني: التفريقُ بين الصيامِ والإفطارِ، فإذا رُدَّ قولُه في الأوّلِ فإنَّه يصومُ، وأمَّا في الفطرِ فإنَّه لا يُفطرُ، تفريق بين المسألتين أنَّه في الأوّلِ لا يصومُ وفي الثاني لا يُفطرُ. وفي الحديثِ الصحيحِ: "الصومُ يومَ تصومون، والفطرُ يومَ تفطرون"، وهذا يقتضي أنَّه لا ينفردُ عن الجماعةِ، لا في صيامِهِ ولا في فطرِهِ.
القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلاَلَ رَمَضَانَ، وَرُدَّ قَولُهُ، أوْ رَأى هِلاَلَ شَوَّالٍ صَام …
قولُه: «ومن رَأَى وحدَهُ هلالَ رمضانَ، ورُدَّ قولُه، أو رَأَى هلالَ شوَّالٍ صامَ» «وحده» أي: منفردًا عن الناسِ، سواءٌ كان منفردًا بمكانٍ أو منفردًا برؤيةٍ.
مثالُ ما إذا كانَ منفردًا بمكانٍ: إذا كانَ الإنسانُ في بريّةٍ ليسَ معه أحدٌ فرأى الهلالَ، وذهبَ إلى القاضي فردَّ قولَه إمَّا لجهالتِه بحالِه، أو لأيِّ سببٍ من الأسبابِ. ومثالُ الانفرادِ بالرؤيةِ: أن يجتمعَ معه الناسُ لرؤيةِ الهلالِ فيراهُ هو ولا يراهُ غيرُه لكن رُدَّ قولُه فيلزمُه الصومُ؛ لقولِه تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، ولقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: «صوموا لرؤيتِهِ وأفطروا لرؤيتِهِ»، وهذا الرجلُ رآهُ فوجبَ عليه الصومُ، وكلُّ ما يترتّبُ على دخولِ الشهرِ؛ لأنَّه رآهُ. وقال بعضُ العلماءِ: لو رأى هلالَ رمضانَ وحدَهُ لم يلزمْه الصومُ؛ لأنَّ الهلالَ ما هلَّ واشتهرَ لا ما رُئيَ.
وقولُه: «أو رأى هلالَ شوالٍ صامَ»: أي وجوبًا، ففرَّقَ المؤلّفُ بين من انفردَ برؤيةِ هلالِ رمضانَ، ورُدَّ قولُه بأنَّه يصومُ مع مفارقتِهِ الجماعةَ، وبين من انفردَ برؤيةِ هلالِ شوالَ فإنَّه يصومُ ولا يفطرُ برؤيتِه؛ ووجهُ ذلك أنَّ هلالَ شوالَ لا يثبتُ شرعًا إلّا بشاهدين، وهنا لم يشهدْ به إلَّا واحدٌ، فلا يكونُ داخلًا شرعًا فيلزمُهُ الصومُ مع أنَّه رآهُ. وأمَّا هلالُ رمضانَ فيثبتُ بشهادةِ واحدٍ وقد شهدَ به فلزمَهُ الصومُ. وقال بعضُ العلماءِ: بل يجبُ عليه الفطرُ سرًا لقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: «صوموا لرؤيتِهِ وأفطروا لرؤيتِه»، وهذا الرجلُ قد رآهُ فيلزمُهُ الفطرُ، ولكن يكونُ سرًا؛ لئلّا يُظهرَ مخالفةَ الجماعةِ.
واختارَ شيخُ الإسلامِ ـ رحمهُ اللهُ ـ في هاتينِ المسألتينِ أنَّه يتبعُ الناسَ؛ فلو رأى وحدهُ هلالَ رمضانَ لم يَصُمْ؛ ولو رأى هلالَ شوالٍ وحدَهُ لم يُفطرْ؛ لأنَّ الهلالَ ما هَلَّ واستهلَّ واشتَهَر، لا ما رُئي. والذي يظهرُ لي في مسألةِ الصومِ في أوّلِ الشهرِ ما ذكرهُ المؤلّفُ أنَّه يصومُ، وأمَّا في مسألةِ الفطرِ فإنَّه لا يفطرُ تبعًا للجماعةِ، وهذا من بابِ الاحتياطِ، فنكونُ قد احتطنا في الصومِ والفطرِ، ففي الصومِ قلنا له: صُمْ، وفي الفطرِ قلنا له: لا تُفطرْ بل صُمْ.
– مداخلة: ما ترونَ أنَّه يعتبرها في الرؤيتين، وفي القراءةِ السابقةِ قلتُم: والصوابُ أنَّه لا يُفطرُ ولا يصومُ، سبيلُهُ سبيلُ المؤمنين، فرؤيتُه غيرُ معتبرةٍ؟
– الشيخ: لحديثِ: "الصومُ يومَ تَصومون، والفطرُ يومَ تُفطرون".
– القارئ: مسألةٌ: تبيَّن مّما سبقَ أنَّ دخولَ رمضانَ يثبتُ بشهادةِ واحدٍ، ودليلُ ذلك حديثُ ابن عمرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال: «تراءَى النّاسُ الهلالَ فأخبرتُ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنّي رأيتُه فصامَ وأمرَ النَّاسَ بصيامِه». وهلالُ شوالَ وغيرهُ من الشهورِ لا يثبتُ إلَّا بشاهدين لقولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: «فإن شهدَ شاهدان فصوموا وأفطروا»، ومثله دخولُ شهرِ ذي الحجّةِ لا يثبتُ إلَّا بشاهدين، فلو رآهُ شخصٌ وحدَهُ لم يثبتْ دخولُ الشهرِ بشهادتِه.
– الشيخ: أقولُ: ولا يحجُّ، وهذا مما يقوّي أنَّه لا يُعتَدُّ بشهادتِه لا في صومٍ ولا في حجٍّ ولا في فطرٍ.
– القارئ: على هذا فإذا وقفَ رجلٌ بعرفةَ في اليومِ التاسعِ عنده الذي هو الثامنُ عند الناسِ فإنَّ ذلك لا يُجزئُه. وإن أرادَ أن يصومَ اليومَ التاسعَ عندَه الذي هو عندَ الناسِ الثامنَ بنيّةِ أنَّه يومُ عرفة فإنَّ ذلكَ لا يجزئُه عن صومِ يومِ عرفة، ولو صامَ اليومَ التاسعَ عندَ الناسِ الذي هو العاشرَ عندَه، هل يجوزُ أن يصومَه؟
الجوابُ: نعم يجوزُ أن يصومَه؛ لأنَّه وإن كان عنده حسبَ رؤيتِه العاشرَ فإنَّه عندَ الناسِ التاسعَ، فلم يثبتْ شرعًا دخولُ شهرِ ذي الحجّةِ بشهادةِ هذا الرّجلِ، وعلى هذا فإذا وقفَ في العاشرِ عنده، وهو التاسعُ عندَ الناسِ أجزأَهُ الوقوفُ.
وقولُ المؤلّفِ هنا: «ومن رَأَى وحدَهُ هلالَ رمضانَ، ورُدَّ قولُه»: ولم يَقُلْ في هلالِ شوالَ ورُدَّ قولُه؟ لأنَّ هلالَ شوالَ لا يثبتُ برؤيةِ واحدٍ مطلقًا حتى لو قُبِلَ وصُدِّقَ، بخلافِ هلالِ رمضانَ.
– مداخلة: إذا صامَ في بلدهِ ثلاثينَ يومًا ثمَّ سافرَ إلى بلدٍ آخرَ فوجدَهم صائمينَ في اليومِ الواحدِ والثلاثين بالنسبةِ له، هل يصومُ معهم؟
– الشيخ: يصومُ معهم، هذا الذي عليه الفتوى. كما لو سافرتْ من المشرقِ إلى المغربِ، وطالَ النّهارُ، هل تفطرُ مع أهلِ الرياضِ، أم تنتظرُ حتى تغيبَ الشمسُ عندك؟! هو لم يصمْ زيادةً، لكنَّه صامَ بسببٍ، فالشهرُ بالنّسبةِ له امتدَّ، كالذي امتدَّ به النّهارُ إذا سافرَ من المشرقِ إلى المغربِ.
– مداخلة: البلدُ الذي يعتمدُ على الحسابِ، وشخصٌ رأى الهلالَ، هل يعتبرُ برؤيةِ البلدِ الذي هو فيه بناءً على حسابِهم، أم؟
– الشيخ: بحسبِ جماعةِ المسلمين، إذا كان لجماعةِ المسلمين كيانٌ يُتَّبعُ فإنَّه يصومُ معهم.
– مداخلة: الآن في عُمانَ لا يعتمدونَ على الرؤيةِ أبدًا وإنّما يعتمدونَ على الحسابِ، فهل يعتمدُ على رؤيتِهِ هو، أم على الحسابِ الذي عندهم؟
– الشيخ: يتوجَّهُ أنْ يعملَ برؤيتِهِ كما إذا كان في أرضٍ ليس فيها أحدٌ، يعني منفردٌ. وهذهِ مسألةٌ تحتاجُ إلى زيادةِ تأمّلٍ وتدبّرٍ، لأنَّه يتعارضُ عنده العملُ بالرؤيةِ أو اعتبارُ متابعةِ الجماعةِ، لكنَّ الجماعةَ هنا يعملونَ بخلافِ ما هو عليه المقتضَى الشرعيِّ.
– مداخلة: أهلُ الحسابِ يعتمدونَ على ماذا؟
– الشيخ:
عندهم حساباتٌ تخصُّهم وأنا لا أُحسنُها، كالكسوفِ مثلًا فإنَّهم يحسبونَه، وحسابُ الكسوفِ أدقُّ بكثيرٍ من غيرِه، لكنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ لم تُحلَّ لنا في دخولِ الشهرِ على حسابِهم.
– مداخلة: لماذا فرَّقوا بين دخولِه وأنَّه يثبتُ بشهادةٍ، وخروجِهِ لا يثبتُ إلَّا بشاهدين؟
– الشيخ: لوجودِ الدليلِ في مسألةِ حديثِ ابنِ عمرَ وحديثِ الأعرابي، وإلّا فالأصلُ أنَّه لا يثبتُ استثناء.
الأسئلة:
س1: إن صامَ الناسُ لرؤيةِ واحدٍ ثلاثينَ يومًا، ورأى شخصٌ آخرُ وحدَهُ هلالَ شوّالٍ، هل يوم الناسِ أم يفطرون؟
ج: الذي اعتمدناه أنَّهم يُفطرونَ لإكمالِ الشهرِ ثلاثينَ يومًا. لكنَّ هذا السؤالَ مبنيٌّ على المذهبِ، وهذا السؤالُ مختصٌّ بقولِ المؤلّفِ "لم يفطروا"، فهذهِ المسألةُ فيها تلفيقٌ يعني أكملوا الشهرَ باعتبارِ. فقد يقالُ هذا انطلاقًا من قولِهم أنَّهم لا يُفطرونَ لأنَّه يلزمُ حينئذٍ بناءُ الفطرِ على رؤيةِ واحدٍ، أنَّه إذا رآهُ واحدٌ أي هلالَ شوالٍ انضافَ إلى رؤيةِ الأولِ، وهذا يوافقُ الرأيَ المرجّح الذي أُشيرَ إلى ترجيحِه، أنَّهم إذا أكملوا ثلاثيَن يومًا فإنَّهم يُفطرونَ لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فحينئذٍ يتقوّى إن رآهُ واحدٌ والحمدُ للهِ.
………………………………………….
س2: هل يجوزُ إيداعُ المالِ في البنوكِ الربويّةِ للحفظِ فقط؟
ج: إذا كان هناك ضرورةٌ، لكن الآنَ هناك مجالاتٌ واسعةٌ، فلماذا تلجئُ إلى البنكِ الربويِّ وهناك بنوكٌ إسلاميةٌ يمكنُ الإيداعُ عندَهم.
………………………………………….
س3: عندنا في أفغانستانَ يصومونَ ويُفطرونَ برؤيةِ المملكةِ فهل عملُهم صحيحٌ؟
ج: نرجو ذلك إن شاءَ اللهُ، وهذا ما أدّى إليه اجتهادُ الفقهاءِ عندَهم.
………………………………………….
س4: ما معنى كلامِ أبي العباسِ ابنِ تيميةَ رحمهُ اللهُ في إثباتِ حوادثَ لا أوّلَ لها؟
ج: هذا السؤالُ ليس في محلّه، محلُّه درسٌ آخر.
………………………………………….
س5: قال أحمدُ: "لا أحبُّ أن يتبركَ أحدٌ بطيبِ الكعبةِ، ولكنْ يضعُ طيبًا من عنده ثمَّ يأخذُهُ"، فهل يُؤخذُ منه جوازُ التبركِ بالكعبةِ؟
ج: يُشعرُ بهذا، وهذا يُنظرُ فيه، في ثبوتِه عن الإمامِ أحمدَ، ثمَّ في تقريرِ حُكمِهِ بالدّليلِ، ما شُرعَ لنا التبرّكُ بحيطانِ الكعبةِ والتّمسحُ بها وبالطيبِ الذي يُوضعُ عليها. والإمامُ أحمدُ عَلَمٌ من أعلامِ هذهِ الأمةِ، لكن هذا لا يلزمُ أنَّ كلَّ ما يقولُه صوابٌ.
………………………………………….
س6: هل في يمينِ الإكراهِ كفّارةٌ؟
ج: إذا أُكرهَ عليه بغيرِ حقٍّ فلا تجبُ عليه.
………………………………………….
س7: هل تُقالُ أذكارُ النومِ عندَ كلِّ نومٍ، أو في نومِ الليلِ فقط؟
ج: الظاهرُ وغالبُ الأدلّةِ على أنَّه نومُ الليلِ، ولكنْ ما يمنعُ أن تقولَ: بسمكَ اللهمَّ وضعتُ جنبي وبكَ أرفعُهُ، فهذا شيءٌ طيّبٌ، ونفسُكَ ذاهبةٌ ولا تدري هل ستعودُ، وهذا المعنى مشتركٌ في كلِّ نومٍ.
الحاشية السفلية
↑1 | الدرس يبدأ في الدقيقة 6.30 |
---|