بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة النَّمل
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النَّمل:7-14]
– الشيخ : إلى هنا، اللّهُ أكبرُ، لا إلهَ إلّا اللّهُ، هذا في هذهِ الآياتِ ذكرَ اللّهُ سبحانه وتعالى بعضَ، أو ذكرَ قصّةَ إرسالِ موسى عليهِ السلامُ، قصّةَ إرسالهِ إلى فرعونَ وقومِهِ، وقدْ ذكرَ اللّهُ هذا المعنى مُفَصَّلاً في سورةِ أيضاً القَصصِ، السورةُ الّتي بعدَ هذهِ، وذكرها أيضاً في سورةِ طه.
وقدْ تضمّنتْ هذهِ الآياتُ أنّهُ، أنّ موسى عليهِ السلامُ رأى ناراً وذلكَ عندما خرجَ بأهلهِ مِنْ مَدْيَنَ، خرجَ بزوجتِهِ وسارَ ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّور﴾ [القصص:29]
وهو طور سيناء، يعني أبصر ناراً {آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّور ناراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص:29] ، قالها كما هنا: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ} آتيكمْ بخبرٍ يعني يعني عن الطريقِ، في الآية الأخرى أو آتيكم {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه 10] لعلّي آتيكم{ مِنْهَا بخبرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} يدلُّ على أنَّهم كانوا في حالِ ووقتِ بردٍ {أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
{فَلَمَّا جَاءَهَا } جاءَها جاءَ إلى هذهِ النارِ وصلَ إليها، {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} ناداهُ اللّهُ {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء 10]، القرآنُ يُفسّرُ بعضُهُ بعضَاً، يعني ما، ليسَ المقصودُ أنَّهُ ناداهُ مَلَكٌ أو نادَاهُ، لا، نادَاهُ ربُّهُ ربُّ العالمينَ، {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، يعني الّذي يُكَلِّمُكَ ويُخَاطِبُكَ هُوَ اللّهُ {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في الآية الأخرى: {يا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين} [القصص 30] .
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء 10]، فاللَّهُ كَلَّمَهُ، هذه، هذا هُوَ التكّليمُ الأوّلُ، اللّهُ تعالى كَلَّمَ موسى بصوتٍ عَالٍ وَرَفيعٍ نِداءٍ، سمَّاهُ نداءً، فناداهُ وناجاهُ، وهذا كُلُّهُ يتضمّنُهُ قولُهُ تعالَى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء 164] ، اللّهُ كَلَّمَ موسى يعني أكثرَ مِنْ مَرّةٍ، عندَ إرسالهِ كما في هذهِ الآياتِ، وعندما واعدَهُ ربُّهُ، سبحانَ اللّهِ، وكانَ في يدهِ عصاهُ، في يدِ موسى عصا فأمرهُ اللّهُ بإلقائِهَا، {وَأَلْقِ عَصَاكَ}، فألقى عصاه {فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} لمــّا ألقاهَا تغيّرتْ حالُهَا وَانْقَلَبَتْ، كأنَّها حَيَّةٌ دَقِيْقَةٌ تَهْتَزُّ فَرُعِبَ موسى {كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا}، {فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى}، قالَ اللَّهُ له: {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ} وفي الآية الأخرى {أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}[القصص31]، {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، {أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}، في جَيْبِ قَمِيْصِهِ { أَدْخِلْ يَدَكَ فِي} {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} بيضاءَ للناظرينَ يعني بياضٌ غيرُ عاديٍّ لكنَّهُ ليسَ مِنْ سُوْءٍ وَآفَةٍ لا، بل هو بَياضٌ يعني فيهِ جمالٌ وفيهِ ضياءٌ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}.
في الآية الأخرى قال اللّه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص32] بُرْهَانَانِ: اليدُ والعَصَا.
فأمرَهُ اللّهُ تعالى حينئذٍ بالذهابِ إلى فرعونَ، إلى فرعونَ وقومِهِ {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}، هاتانِ آيتانِ وهناكَ آياتٌ أُخرى، فذكرَ اللّهُ في سورةِ الإسراءِ {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء101]، مِنها العَصا واليدُ {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}، {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، خارجينَ عَنْ طاعةِ اللّهِ، اللّهُ المستعانُ، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا}[القصص 36]، لا إله، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، اقرأ الآياتِ.
– القارئ : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً}.
– الشيخ : {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً}، لــمّا جاءَ موسى بآياتِ اللّهِ الواضحةِ البيّنةِ الّتي فيها تَبصيرٌ لذويْ العقولِ، {جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَجَحَدُوا بِهَا}، جَحَدُوْهَا وَكَذَّبُوا بِها مَعَ أنَّهُم مُسْتِيْقِنُونَ، إذاً تَكذيبُهُمْ بها جَحْدٌ، كانَ جَحْدَاً واسْتِكْبَارَاً وَطُغْيَانَاً {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} يعني جَحَدُوا بها ظُلْمًا وَعُلُوًّا اسْتِكْبَارَاً.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، وعاقِبَتُهُمْ ذَكرَهَا اللّهُ بالتفصيلِ في آياتٍ، عاقِبَتُهُمْ الهلاكُ والغَرَقُ في البحرِ، هذا فَصَّلهُ اللّه في مواضعَ لا سِيَّمَا في سورةِ طه: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي}[يونس90]، وكذلكَ في سورةِ الشعراءِ كَمَا تَقدَّمَ: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)} [الشعراء64-65-66]، نعم يا محمّد اقرأ.
(تفسير السعدي)
– القارئ : بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيّنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرّحمنِ السّعديّ -رحمهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللّهِ تعالى:
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} إلى آخرِ قصّتِهِ، يعني: اذكرْ هذهِ الحالةَ الفاضلةَ الشريفةَ مِنْ أحوالِ موسى بنِ عِمرانَ، ابتداءُ الوحيِّ إليهِ واصطفاؤُهُ برسالتِهِ وتكليمُ اللهِ إيَّاهُ، وذلكَ أنَّهُ لما مَكَثَ في مَدينَ عِدَّةَ سنينَ وسارَ بأهلِهِ مِن مَدينَ متوجِّهاً إلى مصرَ، فلمّا كانَ في أثناءِ الطريقِ ضَلَّ، وكانَ في ليلةٍ مظلمةٍ باردةٍ فقالَ لَهُمْ: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي: أبصرْتُ ناراً مِنْ بَعيدٍ {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} عَن الطريقِ، {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي: تَسْتَدْفِئُونَ، وَهذا دليلٌ على أنَّهُ تائهٌ وَمُشْتَدٌّ بَرْدُهُ هوَ وأهلُهُ.
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: نادَاهُ اللهُ تعالى وأخبرَهُ أنَّ هذا مَحَلٌّ مُقَدَّسٌ مبارَكٌ، وَمِنْ بركتِهِ أنْ جعلَهُ اللهُ موضِعَاً لتكليمِ اللهِ لموسى وندائِهِ وإرسالِهِ.
{وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عَنْ أنْ يُظَنَّ بِهِ نَقْصٌ أو سُوْءٌ، بل هو الكاملُ في وصفِهِ وفعلِهِ.
– الشيخ : لا إله إلّا اللّه، لا إله إلّا اللّه، لا إله إلّا اللّه، سبحانَ اللَّه، سبحانَ اللَّه.
سبحانَ معناها: التنزيهُ إذا قلتَ: سبحانَ اللَّهِ، يعني: تنزيهاً للَّهِ عنْ كلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء44]، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم17]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون91، الصافات159]، سبحانَ اللّهِ {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء171]
– القارئ : {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: أخْبَرَهُ اللهُ أنَّهُ اللهُ المستَحِقُّ للعبادةِ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ كما في الآيةِ الأخرى.
– الشيخ : {لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ}
– القارئ : {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} {الْعَزِيزُ} الذي قَهَرَ جميعَ الأشياءِ وَأَذْعَنَتْ لَهُ كُلُّ المخلوقاتِ.
– الشيخ : لا إلهَ إلا اللّهُ، لا إلهَ إلّا اللهُ، العظيمُ الواحدُ القهّارُ.
– القارئ : {الْحَكِيمُ} في أمرِهِ وخلقِهِ، ومنْ حكمتِهِ أنْ أرسلَ عبدَهُ موسى بن عمرانَ الذي عَلِمَ اللهُ منْهُ أنّه أهلٌ لرسالتِهِ ووحيهِ وتكليمِهِ، ومن عزَّتِهِ أنْ تَعتمدَ عليهِ ولا تستوحشَ من انفرادكَ وكثرةِ أعدائكَ وجبروتِهِم، فإنَّ نواصيهِمْ بيدِ اللهِ وحركاتِهِمْ وسكونِهِمْ بتدبيرِهِ.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} فألقاهَا {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ}.
– الشيخ : {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} يعني واضحٌ من الكلامِ أنّه أنّه ألقَاهَا، ولهذا المفسّرونَ يُقدِّرونَ هذا المحذوفَ المعلومَ {وَأَلْقِ عَصَاكَ}، فألقَاهَا فصارتْ تهتزٌّ {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}.
– القارئ : وهو ذَكَرُ الحَيَّات سريعُ الحركةِ، {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ذُعْرَاً من الحيَّةِ الّتي رأى على مُقْتَضَى الطَّبَائِعِ البشريَّةِ.
– الشيخ : يعني هذا الخوفُ ليسَ بمذمةٍ، ولا يُعابُ بِهِ الإنسانُ، بلْ هذا يُسمَّى الخوفَ الطبيعيَّ، خوفٌ طبيعيٌّ، الإنسانُ مجبولٌ على أنّه يخافُ من المؤذياتِ، يخافُ من الذئبِ، يخاف من السَّبُعِ، يخافُ من الأسَدِ، يخافُ من الحيَّةِ، هذا أمرٌ طبيعيٌّ، فخوفُ موسى عليهِ السلامُ هذا بموجبِ الفطرةِ والطبيعةِ البشريةِ، ولا يُذمُّ به الإنسانُ، ولا يُقال: هذا جُبْنٌ، لا، بل هذا خوفٌ طبيعيٌّ، وهذا كثيرٌ شواهدُهُ في القرآنِ، إبراهيمُ لما دخلَ عليهِ الملائكةُ بِصُوَرِ رجالٍ غيرِ معروفينَ يعني وَجِلَ منهمْ وقالَ لهم: قومٌ منكرونَ يعني غيرُ معروفينَ يعني كأنَّهُ مَنْ أنتم؟ نعم.
– القارئ : فقالَ اللهُ لَهُ: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} وقالَ في الآيةِ الأخرى: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}؛ لأنَّ جميعَ المخاوفِ مُنْدَرِجَةٌ في قضائِهِ وقدرِهِ وتصريفِهِ وأمرِهِ، فالّذينَ اختصَّهُمُ اللهُ برسالتِهِ واصطفاهُمْ لوحيهِ لا ينبغي لهمْ أنْ يخافوا غيرَ اللهِ خصوصَاً عندَ زيادةِ القربِ منهُ والحظوةِ بتكليمِهِ.
{إِلّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} أي: فهذا الّذيْ هو مَحَلُّ الخوفِ والوحْشَةِ بسببِ ما أسْدَى من الظُّلمِ وما تَقَدَّمَ له من الجُرْمِ، وأمّا المرْسَلُونَ فما لهُمْ وللوَحْشَةِ والخَوفِ؟ ومعَ هذا مَنْ ظَلَمَ نفسَهُ بمعاصي اللهِ، وتابَ وأنابَ فبدَّلَ سيّئاتِهِ حسناتٍ، ومعاصيهِ طاعاتٍ، فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، فلا ييئسُ أحدٌ مِنْ رحمتِهِ ومغفرتِهِ فإنَّهُ يَغفرُ الذنوبَ جميعاً وهو أرحمُ بعبادِهِ مِنَ الوالدةِ بولدِهَا.
– الشيخ : … لا إله إلّا اللّه، اللّهُ أكبرُ، اللّهُ أكبرُ، اللّهُ أكبرُ.
اللّهُ تعالى كثيراً ما يُخبِرُ عَن عَن نفسِهِ بأنَّهُ غفورٌ ورحيمٌ، فهذا يَفتحُ بابَ الرجاءِ، وينفي القنوطَ مِن رحمةِ اللّهِ، فاللّهُ غفورٌ ورحيمٌ فعلى العبدِ أنْ يستغفرَ ربَّهُ إذا أساءَ، يستغفرُ ربَّهُ، يستغفرُ ربَّهُ ، بل ينبغي أنْ يستغفرَ ربَّهُ كثيراً كما كانَ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يُكثِرُ مِنْ أنْ يقولَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ"، " اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" ، فينبغي للمسلمِ أنْ يُكثرَ من الاستغفارِ، لا إلهَ إلّا اللّهُ، فلا غِنى للعبدِ عنْ مغفرةِ اللّهِ مهمَا بَلَغَ في درجاتِ الكمالِ والفضلِ فإنَّهُ لا يستغني عَنْ مغفرةِ ربِّهِ فأولياءُ اللّهِ وأنبياؤُهُ يستغفرونَهُ كثيراً.
– القارئ : {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} لا بَرَصَ ولا نَقْصَ بل بياضٌ يُبْهِرُ الناظرينَ شعاعُهُ. {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي: هاتانِ الآيتانِ انقلابُ العَصا حيّةً تَسعى وإخراجُ اليدِ من الجَيبِ فتخرجَ بيضاءَ في جملةِ تسعِ آياتٍ تذهبُ بها وتدعو فرعونَ وقومَهُ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} فسقُوا بشركهِمِ وعتوِّهِم وعلوِّهِم على عبادِ اللهِ واستكبارهِمْ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ.
فذهبَ موسى عليهِ السلامُ إلى فرعونَ وملئِهِ ودعاهُمْ إلى اللهِ تعالى وأراهُم الآياتِ.
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} مضيئةً تدلُّ على الحقِّ وَيُبْصَرُ بها كما تُبْصَرُ الأبصارُ بالشمسِ. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} لم يَكْفِهِمْ مُجرَّدُ القولِ بأنَّهُ سحرٌ بَلْ قالوا: {مُبِينٌ} ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ. وهذا من أعجبِ العجائبِ الآياتُ المبصراتُ والأنوارُ الساطعاتُ، تُجعَلُ من بين الخُزعبلاتِ وأظهرُ السحرِ! هلْ هذا إلّا من أعظمِ المكابرةِ وأوقحِ السفسطةِ؟!
{وَجَحَدُوا بِهَا} أي: كفروا بآياتِ اللهِ جاحدينَ لها، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي: ليسَ جَحْدُهُمْ مُستنداً إلى الشكِّ والريبِ، وإنّما جَحْدُهُمْ مع عِلمهِمِ وتَيَقُنِهِمِ بصحَّتِهِا {ظُلْمًا} منهمْ لحقِّ ربِّهِم ولأنفسهِم، {وَعُلُوًّا} على الحقِّ وعلى العبادِ وعلى الانقيادِ للرُّسِلِ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أسوأَ عاقبةٍ دمَّرهُم اللهُ وغرَّقهُم في البحرِ وأخزاهُمْ وأورثَ مساكنَهُم المستضعفينَ منْ عبادِهِ.
قال اللّه تعالى..
– الشيخ : إلى هنا، {ولقد آتينا داود}
– القارئ : نعم، أحسن الله إليك.