الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة العنكبوت/(8) من قوله تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} الآية 46 إلى قوله تعالى {بل هو آيات بينات} الآية 49
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(8) من قوله تعالى {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} الآية 46 إلى قوله تعالى {بل هو آيات بينات} الآية 49

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة العنكبوت

الدَّرس: الثَّامن

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:46-49]

– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي]

– القارئ : عفا الله عنك.

– الشيخ : سبحانَ الله العظيم، لا إله إلَّا الله، يرشدُ سبحانه وتعالى في هذه الآيةِ إلى المنهجِ المستقيمِ في الجدالِ، في جدالِ الكفَّارِ، والجدالُ هو المناظرةُ الَّتي تكونُ بين المختلِفَين وبينَ الخصمَين، وبينَ المؤمنين والكفَّار تباينٌ في المعتقد، {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] وبينَ المؤمنين وبينَ اليهودِ والنصارى كذلك اختلافٌ، وهم فيما بينهم مختلفون، اليهودُ والنصارى مختلفون فيما بينهم، متفرِّقون.

يقولُ تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} أهلُ الكتابِ هذا اسمٌ معروفٌ لليهودِ والنصارى، لأنَّهم ينتسبون، اليهودُ ينتسبون إلى شريعة التوراة والنصارى ينتسبون كذلك إلى الإنجيلِ، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني بالطريقة الَّتي هي أصلحُ؛ لأنَّ الطريقةَ الطريقة الحسنةَ أو الَّتي هي أحسنُ في الجدالِ هي الَّتي توصلُ إلى الغايةِ المنشودةِ من بيانِ الحقِّ ودفعِ وردِّ الباطلِ.

قالَ اللهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فيمكن الَّذين يتجاوزون يعتدون ويعتدون ويظلمون يمكن أن يُعامَلوا بالغلظةِ، جزاءً وفاقاً، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا} وقولوا أيُّها المؤمنون، لأهلِ الكتابِ، {وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا} القرآن، وما أُنزِلَ إليكم من التوراة والإنجيل، وهذا هو شأنُ المؤمنين، فهم يؤمنون بكلِّ ما أنزلَ اللهُ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4]

{وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ليسَ كحالِ اليهودِ والنصارى، يدَّعون يَدَّعون الإيمان بكتبهم ويكفرون بما وراءَه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة:91] مصدِّقاً لما معكم {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:91] لا إله إلا الله.

{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} الإلهُ واحدٌ، هذه تشبهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مسلمون مستسلمون منقادون للإلهِ الحقِّ، للإلهِ الحقِّ سبحانه وتعالى.

قالَ اللهُ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} بعضُ أهلِ الكتابِ يؤمنون بالقرآن، {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} من المشركين من يدخلُ في الإسلامِ، {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}

ثمَّ يقولُ تعالى: {وَمَا كُنْتَ} أيُّها النبيُّ، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} الرسولُ مضى عليه عمرٌ، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِه} [يونس:16] لبثَ عمر وهو ليسَ عنده من هذا العلمِ الَّذي جاء به، لم يكنْ عنده، وما كانَ يتلو شيئاً من كتبِ أهلِ الكتابِ، لأنَّه كانَ أمِّيَّاً، أوَّلاً من العرب من الأميِّين ليسوا أهلَ كتابٍ، الشيءُ الثاني أنَّه أميٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ.

{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ} لا يقرأُ المكتوبَ ولا يكتبُ، {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} يعني لو كانَ الرسولُ يعني يقرأُ في الكتبِ أو أنَّه يكتبُ ويراسلُ لارتابَ المبطلون وشكُّوا، وقالُوا: هذا تعلمه، ومعَ ذلك زعمُوا هذا وادَّعوه معَ أنَّ الرسولَ يعلمون أيش حاله، يعلمون حالَه عليه السلام، وأنَّه لا يقرأُ ولا يكتبُ أمِّيٌّ.

{إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ} هذا القرآنُ، {آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} القرآنُ مكتوبٌ في المصاحف محفوظٌ في الصدورِ، {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} نعم يا محمَّد.

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآيةُ. ينهى تعالى عن مجادلةِ أهلِ الكتابِ، إذا كانَتْ عن غيرِ بصيرةٍ مِن المجادلِ، أو بغيرِ.

– الشيخ : أي ينبغي للإنسان ما يدخل في جدال مع الكفَّار أو مع المبتدعةِ وهو ليسَ عنده علمٌ يستطيعُ أن يقيمَ الحججَ ويزيِّفَ الشبهات، يدخلُ معهم يتورَّطُ، يمكن يؤدّي إلى تسلُّطِ الخصمِ والانتصارِ، ينتصرُ على هذا المسلمِ وعلى هذا السنيّ، لا، ينبغي أن يتسلَّحَ المسلمُ الَّذي يريدُ مجادلةَ المخالفين أنْ يتسلَّحَ بالعلمِ والبصيرةِ، حتَّى يستطيعَ يقيم الأدلَّة ويزيِّف الشبهات.

 

– القارئ : أو بغيرِ قاعدةٍ مرضيَّةٍ، وألَّا يجادلوا إلَّا بالَّتي هيَ أحسنُ، بحسنِ خلقٍ ولطفٍ ولينِ كلامٍ، ودعوةٍ إلى الحقِّ وتحسينِهِ، وردِّ الباطلِ وتهجينِهِ، بأقربِ طريقٍ موصلٍ لذلكَ، وألَّا يكونَ القصدُ منها مجرَّدُ المجادلةِ والمغالبةِ وحبِّ العلوِّ، بل يكونُ القصدُ بيانُ الحقِّ وهدايةُ الخلقِ، {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِن أهلِ الكتابِ، وإنَّما يجادلُ على وجهِ المشاغبةِ والمغالبةِ، فهذا لا فائدةَ في جدالِهِ؛ لأنَّ المقصودَ منها ضائعٌ.

{وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} أي: ولتكنْ مجادلتُكم لأهلِ الكتابِ مبنيَّةً على الإيمانِ بما أُنزِلَ إليكم وأُنزِلَ إليهم، وعلى الإيمانِ برسولِكم ورسولِهم، وعلى أنَّ الإلهَ واحدٌ، ولتكنْ مناظرتُكم إيَّاهم على وجهٍ يحصلُ به القدحُ في شيءٍ مِن الكتبِ الإلهيَّةِ، أو بأحدٍ مِن الرُّسلِ، كما يفعلُهُ الجاهلُ عندَ مناظرةِ الخصومِ، يقدحُ بجميعِ ما معَهم، مِن حقٍّ وباطلٍ، فهذا ظلمٌ، وخروجٌ عن الواجبِ وآدابِ النَّظرِ، فإنَّ الواجبَ أنْ يردَّ ما معَ الخصمِ مِن الباطلِ، ويقبلَ ما معَهُ مِن الحقِّ، ولا يردُّ الحقَّ لأجلِ قولِهِ، ولو كانَ كافراً. وأيضاً، فإنَّ بناءَ مناظرةِ.

– الشيخ : يعني الحقُّ يجبُ قبولُه ممَّن جاءَ به، يجبُ قبولُ الحقِّ ممَّن جاءَ به، ولو كانَ الكافرُ، الكافرُ إذا قالَ حقّ نعم، توافقُه عليه، ما يمكن أن تردَّ الحقَّ من أجلِ أنَّ هذا خصمٌ، كما لا تقبلُ الباطلَ ممَّن يكونُ يعني من شيعتِك ومن قومِك ومن أهلِ مذهبِك، هذا يحصلُ بينَ أهلِ المذاهبِ، فأهلُ التعصُّبِ تجدُه يردُّ الحقَّ الَّذي معَ خصمِه، ويؤيِّدُ الباطلَ الَّذي معَ أهلِ شيعتِه.

 

– القارئ : وأيضاً فإنَّ بناءَ مناظرةِ أهلِ الكتابِ على هذا الطريقِ فيهِ إلزامٌ لهم بالإقرارِ بالقرآنِ وبالرسولِ الَّذي جاءَ بهِ فإنَّهُ إذا تكلَّمَ في الأصولِ الدِّينيَّةِ الَّتي اتَّفقَتْ عليها الأنبياءُ والكتبُ، وتقرَّرَتْ عندَ المتناظرينَ، وثبتَتْ حقائقُها عندَهما، وكانَتْ الكتبُ السَّابقةُ والمرسلونَ معَ القرآنِ ومحمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- قد بيَّنَتْها ودلَّتْ عليها وأخبرَتْ بها، فإنَّهُ يلزمُ التَّصديقَ بالكتبِ كلِّها، والرُّسلِ كلِّهم، وهذا مِن خصائصِ الإسلامِ.

فأمَّا أنْ يُقالَ: نؤمنُ بما دلَّ عليهِ الكتابُ الفلانيُّ دونَ الكتابِ الفلانيِّ، وهوَ الحقُّ الَّذي صدَّقَ ما قبلَهُ، فهذا ظلمٌ وهوىً، وهوَ يرجعُ إلى قولِهِ بالتَّكذيبِ؛ لأنَّهُ إذا كذَّبَ القرآنَ الدَّالَّ عليهِ، المصدِّقَ لما بينَ يديهِ مِن التوراةِ، فإنَّهُ مكذِّبٌ لما زعمَ أنَّهُ بهِ مؤمنٌ.

وأيضاً، فإنَّ كلَّ طريقٍ تثبتُ بهِ نبوَّةُ أيِّ نبيٍّ كانَ، فإنَّ مثلَها وأعظمَ منها دالَّةٌ على نبوَّةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وكلُّ شبهةٍ يُقدَحُ بها في نبوَّةِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فإنَّ مثلَها أو أعظمَ منها يمكنُ توجيهُها إلى نبوَّةِ غيرِهِ، فإذا ثبتَ بطلانُها في غيرِهِ، فثبوتُ بطلانِها في حقِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أظهرُ وأظهرُ.

– الشيخ : هذا مضمونُ ما قرَّرَه شيخُ الإسلامِ وبيَّنَه وشرحَه وفصَّلَه في الجوابِ الصحيحِ، كلُّ دليلٍ يُستدَلُّ به على نبوَّة أحدٍ من الأنبياء فإنَّ مثلَه وأعظمَ وأكملَ منه دلالةً على نبوَّةِ محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وكلُّ ما يطعنُ به الكفَّارُ على نبوَّةِ محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّمَ- فإنَّه يتوجَّهُ مثلُه وأشدُّ إلى نبوَّةِ غيرِه من الأنبياءِ، إذاً فلا بدَّ من التصديقِ بالجميعِ.

 

– القارئ : وقولُهُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: منقادونَ مستسلمونَ لأمرِهِ. ومَن آمنَ بهِ، واتَّخذَهُ إلهاً، وآمنَ بجميعِ كتبِهِ ورسلِهِ، وانقادَ للهِ واتَّبعَ رسلَهُ، فهوَ السَّعيدُ، ومَن انحرفَ عن هذا الطَّريقِ، فهوَ الشَّقيُّ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ …} الآيات.

أي: {وَكَذَلِكَ أَنزلْنَا إِلَيْكَ} يا محمَّدُ، هذا {الْكِتَابَ} الكريمَ، المبيِّنَ كلَّ نبأٍ عظيمٍ، الدَّاعي إلى كلِّ خلقٍ فاضلٍ، وأمرٍ كاملٍ، المصدِّقَ للكتبِ السَّابقةِ، المخبرَ بهِ الأنبياءُ الأقدمون.

{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} فعرفُوهُ حقَّ معرفتِهِ، ولم يداخلْهم حسدٌ وهوىً.

{يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأنَّهم تيقَّنوا صدقَهُ، بما لديهم مِن الموافقاتِ، وبما عندَهم مِن البشاراتِ، وبما تميَّزُوا بهِ مِن معرفةِ الحسنِ والقبيحِ، والصِّدقِ والكذبِ.

{وَمِنْ هَؤُلاءِ} الموجودينَ {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إيماناً عن بصيرةٍ، لا عن رغبةٍ ولا رهبةٍ. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} الَّذين دأبُهم الجحودُ للحقِّ والعنادُ لهُ، وهذا حصرٌ لمن كفرَ بهِ، أنَّه لا يكونُ مِن أحدٍ قصدُهُ متابعةُ الحقِّ، وإلَّا فكُّل مَن لهُ قصدٌ صحيحٌ، فإنَّهُ لا بدَّ أنْ يؤمنَ بهِ، لما اشتملَ عليهِ مِن البيِّناتِ، لكلِّ مَن لهُ عقلٌ، أو ألقى السَّمعَ وهوَ شهيدٌ.

وممَّا يدلُّ على صحَّتِهِ، أنَّهُ جاءَ بهِ هذا النَّبيُّ الأمينُ، الَّذي عرفَ قومُهُ صدقَهُ وأمانتَهُ الَّذي عرفَ قومُهُ صدقَهُ وأمانتَهُ ومدخلَهُ ومخرجَهُ وسائرَ أحوالِهِ، وهوَ لا يكتبُ بيدِهِ خطَّاً، ولا يقرأُ خطَّاً مكتوباً، فإتيانُهُ بهِ في هذهِ الحالِ، مِن أظهرِ البيِّناتِ القاطعةِ، الَّتي لا تقبلُ الارتيابَ، أنَّهُ مِن عندِ اللهِ العزيزِ الحميدِ، ولهذا قالَ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} أي: تقرأُ {مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} لو كنْتَ بهذهِ الحالِ {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} فقالُوا: تعلمُهُ مِن الكتبِ السَّابقةِ، أو استنسخَهُ منها، فأمَّا وقد نزلَ على قلبِكَ، كتاباً جليلاً تحدَّيْتَ بهِ الفصحاءَ والبلغاءَ، الأعداءَ الألداءَ، أنْ يأتوا بمثلِهِ، أو بسورةٍ مِن مثلِهِ، فعجزُوا غايةَ العجزِ، بل ولا حدَّثَتْهم أنفسُهم بالمعارضةِ، لعلمِهم ببلاغتِهِ وفصاحتِهِ، وأنَّ كلامَ أحدٍ مِن البشرِ، لا يبلغُ أنْ يكونَ مجارياً لهُ أو على منوالِهِ، ولهذا قالَ:

{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} الآية، أي: {بَلْ} هذا القرآنُ {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} لا خفيَّاتٌ، {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم سادةُ الخلقِ، وعقلاؤُهم، وأولو الألبابِ منهم، والكُمَّلُ منهم.

فإذا كانَ آياتٍ بيِّناتٍ في صدورِ أمثالِ هؤلاءِ، كانُوا حجَّةً على غيرِهم، وإنكارُ غيرِهم لا يضرُّ، ولا يكونُ ذلكَ إلَّا ظلماً، ولهذا قالَ: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} لأنَّهُ لا يجحدُها إلَّا جاهٌل تكلَّمَ بغيرِ علمٍ، ولم يقتدِ بأهلِ العلمِ، ومَن هوَ متمكِّنٌ مِن معرفتِهِ على حقيقتِهِ، وإمَّا متجاهلٌ عرفَ أنَّهُ حقٌّ فعاندَهُ، وعرفَ صدقَهُ فخالفَهُ. قالَ اللهُ تعالى.؟

– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي].

– القارئ : أحسنَ اللهُ إليكَ