بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة العنكبوت
الدَّرس: العاشر
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَليمُ [العنكبوت:56-60]
– الشيخ : إلى هنا، إلى هنا بس [فقط]
لا إله إلَّا الله، الحمدُ للهِ، يدعو اللهُ عبادَه المؤمنين الموجودين في بلادِ الشركِ والكفرِ يدعوهم إلى الهجرةِ، إلى الخروجِ من بينِ أعداءِ اللهِ؛ لأنَّ وجودَهم بينَ الأعداءِ فيه خطرٌ عليهم، يتعرَّضون لتركِ دينِهم؛ لأنَّ الكفَّارَ لا يتركونهم، لا يألون عن صدِّهم عن دينِهم ودعوتهم إلى الدينِ الباطلِ، واللهُ تعالى يخاطبُ هؤلاءِ المؤمنين بصفةِ العبوديَّةِ: {يَا عِبَادِيَ} هذا فيهِ -واللهُ أعلمُ- نوعٌ من يعني نوع من التهييج، تهييجُ النفوسِ الطيِّبةِ للاستجابةِ، {يَا عِبَادِيَ} {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا} فنادهم بصفةِ الإيمانِ، بل دعاهم بصفةِ العبوديَّةِ الخاصَّةِ، وبصفةِ الإيمانِ.
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} هذا معناه اخرجوا، اخرجوا إلى أرضِ اللهِ الواسعةِ، {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء:100] يجدُ في الأرضِ مراغماً وسعةً، لا إله إلَّا الله، وإذا كان الإنسانُ في أرضٍ لا يستطيعُ أن يظهرَ دينَه فإنَّه تجبُ عليه الهجرةُ، فإذا كانَ وجودُه يحملُه على موافقةِ الكفَّار على دينِهم، إذا أقامَ حينئذٍ إذا وافقَ الكفَّارَ على دينِهم نوعٌ من الاضطرارِ فإنَّه يكونُ مهدَّداً بعذابِ اللهِ، {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:97-98]
فالَّذين يقيمون بينَ الكفَّارِ ويوافقونهم على دينِهم محتجّين بأنَّهم مُستضعَفين، يقولون: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} فهؤلاءِ لا عذرَ لهم، لأنَّهم قادرون على الهجرةِ، الَّذين عذرَهم اللهُ المستضعفون من الرجالِ والنساءِ والولدان لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلاً.
إذاً قولُ أولئك، هؤلاءِ الَّذين تقولُ لهم الملائكةُ: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} هذا كذبٌ، لم يكونوا مستضعفين بل كانوا قادرين، بل كانوا قادرين على الخروجِ، قادرين على الهجرةِ.
ثمَّ يقولُ تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} يعني من العوائقِ عن الهجرةِ الخوفُ من الموتِ، فاللهُ يقولُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الموتُ يأتي للمقيمِ والمسافرِ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ثمَّ من العوائق يعني فراقُ البلدِ والوطنِ والمسكنِ، فاللهُ تعالى يذكِّرُهم بأنَّ اللهَ أعدَّ للمؤمنين الصادقين أعدَّ لهم مساكنَ عظيمةً في جنَّاتِ النعيمِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
ثمَّ من العوائقِ الخوفُ من ضائقةِ الرزقِ وقلَّةِ وسائلِ العيشِ، واللهُ تعالى يقطعُ هذا الهاجسَ وهذا التفكيرَ بقوله: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
"تفسيرُ السَّعديِّ"
– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} الآيات.
يقولُ تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بي وصدَّقُوا رسولي {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} فإذا تعذَّرَتْ عليكم عبادةُ ربِّكم في أرضٍ، فارتحلُوا منها إلى أرضٍ أخرى، حيثُ كانَتْ العبادةُ للهِ وحدَهُ، فأماكنُ العبادةِ ومواضعُها، واسعةٌ، والمعبودُ واحدٌ، والموتُ لا بدَّ أنْ ينزلَ بكم ثمَّ تُرجَعونَ إلى ربِّكم، فيجازي مَن أحسنَ عبادتَهُ وجمعَ بينَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ بإنزالِهِ الغرفَ العاليةَ، والمنازلَ الأنيقةَ الجامعةَ لما تشتهيهِ الأنفسُ، وتلذُّ الأعينُ، وأنتم فيها خالدونَ.
فـ {نعمَ} تلكَ المنازلُ، في جنَّاتِ النَّعيمِ {أَجْرُ الْعَامِلِينَ} للهِ. {الَّذِينَ صَبَرُوا} على عبادةِ اللهِ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} في ذلك. فصبرُهم على عبادةِ اللهِ، يقتضي بذلَ الجهدِ والطَّاقةِ في ذلكَ، والمحاربةَ العظيمةَ للشَّيطانِ، الَّذي يدعوهم إلى الإخلالِ بشيءٍ مِن ذلكَ، وتوكُّلُهم، يقتضي شدَّةَ اعتمادِهم على اللهِ، وحسنُ ظنِّهم بهِ، أنْ يحقِّقَ ما عزمُوا عليهِ مِن الأعمالِ ويكمِّلُها، ونصَّ على التَّوكُّلِ، وإنْ كانَ داخلاً في الصَّبرِ؛ لأنَّهُ يُحتاجُ إليهِ في كلِّ فعلٍ وتركِ مأمورٍ بهِ، ولا يتمُّ إلَّا بهِ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ…} الآية. أي: الباري تباركَ وتعالى، قد تكفَّلَ بأرزاقِ الخلائقِ كلِّهم، قويُّهم وعاجزُهم، فكم {مِنْ دَابَّةٍ} في الأرضِ، ضعيفةِ القوى، ضعيفةِ العقلِ {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} ولا تدَّخرُهُ، بل لم تزلْ، لا شيءَ معَها مِن الرِّزقِ، ولا يزالُ اللهُ يسخِّرُ لها الرِّزقَ، في كلِّ وقتٍ بوقتِهِ.
{اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} فكلُّكم عيالُ اللهِ، القائمِ برزقِكم، كما قامَ بخلقِكم وتدبيرِكم، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فلا تخفى عليه خافيةٌ، ولا تهلكُ دابَّةٌ مِن عدمِ الرِّزقِ بسببِ أنَّها خافيةٌ عليهِ.
كما قالَ تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}
– الشيخ : إلى هنا
– القارئ : أحسنَ اللهُ إليكم
– الشيخ : لا إله إلَّا الله، هات تفسير ابن كثير على الآيات هذه.
– القارئ : يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:
هَذَا أمرٌ مِن اللهِ تعالى الْمُؤْمِنِينَ بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ حَيْثُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدِّينِ، بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ ويعبدوهُ كما أمرَهم، ولهذا قالَ: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنا جُبَيْرُ بْنُ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْرًا فَأَقِمْ» وَلِهَذَا لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُقَامَهُمْ بِهَا، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيَأْمَنُوا على دينِهم هناكَ، فوجدُوا هناكَ خيرَ المنزلَينِ: أصحمةُ النَّجاشيُّ ملكُ الحبشةِ -رحمَهُ اللهُ تعالى- فآواهُم وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ، وَجَعَلَهُمْ سُيُومًا بِبِلَادِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابُهُ الْبَاقُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يَثْرِبَ الْمُطَهَّرَةِ.
– الشيخ : المدينةُ النبويَّةُ هذا الاسمُ الطيِّبُ بخلافِ المدينةِ المنوَّرةِ، ما كانَ السلفُ والعلماءُ يسمّونها المدينةَ المنوَّرةَ، بل يسمَّونها المدينةَ النبويَّةَ أو مدينةَ الرسولِ هكذا، هذا اسمُها الَّذي فيه التنويهُ بالنبيِّ وبالرسولِ، المدينةُ النبويَّةُ أو مدينةُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
– القارئ : ثُمَّ قالَ تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ} أَيْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَحَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ جَازَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، ووافاهُ أتمَّ الثَّوابِ ولهذا قالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أَيْ لَنُسْكِنَنَّهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا مِنْ مَاءٍ وَخَمْرٍ وعسلٍ ولبنٍ، يصرفونَها ويجرونَها حيثُ شاؤُوا، {خالِدِينَ فِيها} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، {نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} نِعْمَتْ هَذِهِ الْغُرَفُ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ عَلَى دِينِهِمْ. وَهَاجَرُوا إِلَى اللَّهِ وَنَابَذُوا الْأَعْدَاءَ، وَفَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَقْرِبَاءَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ورجاءَ ما عندَهُ وتصديقَ موعودِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حَدَّثَنَي أبي، حدَّثَنا صفوانُ المؤذِّنُ، حدَّثَنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، قالَ: حدَّثَنا مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي أبو معاويةَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُ: "أنَّ في الجنَّةِ غرفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللهُ لمَن أطعمَ الطَّعامَ، وأطابَ الكلامَ، وأباحَ الصِّيامَ، وأقامَ الصَّلاةَ والنَّاسُ نيامٌ"
وقولُهُ: {وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، بَلْ رِزْقُهُ تَعَالَى عَامٌّ لِخَلْقِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا، بَلْ كَانَتْ أَرْزَاقُ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ هَاجَرُوا أَكْثَرَ وَأَوْسَعَ وَأَطْيَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ قَلِيلٍ صَارُوا حُكَّامَ الْبِلَادِ فِي سائرِ الأقطارِ والأمصارِ، ولهذا قالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أَيْ: لا تطيقُ جمعَهُ وتحصيلَهُ ولا تؤخِّرُ شَيْئًا لِغَدٍ، {اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ} أَيِ: اللَّهُ يُقَيِّضُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى الذَّرَّ فِي قَرَارِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرَ في الهواءِ والحيتانَ في الماءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مِنْهَالٍ الْجَزَرِيُّ- هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُ مِنَ التَّمْرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟» قَالَ: قُلْتُ لَا أَشْتَهِيهِ يَا رسولَ اللهِ، قالَ: لكنِّي أشتهيهِ، وهذا صُبْحُ رَابِعَةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ ملكِ قيصرَ وكسرى، فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ بِضَعْفِ الْيَقِينِ؟» قالَ: فواللهِ مَا بَرِحْنَا وَلَا رِمْنا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي بِكَنْزِ الدُّنْيَا، وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ كَنَزَ دُنْيَاهُ يُرِيدُ بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً، فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أكنزُ ديناراً ولا درهماً ولا أخبِّأُ رزقاً لغدٍ» هذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَأَبُو الْعَطُوفِ الْجَزَرِيُّ..
– الشيخ : أيش يقول؟ وهذا حديثٌ غريبٌ
– القارئ : وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا فَقَسَ عَنْ فِرَاخِهِ الْبَيْضَ خَرَجُوا وَهُمْ بِيضٌ، فَإِذَا رَآهُمْ أَبوهُمْ كَذَلِكَ نَفَرَ عَنْهُمْ أَيَّامًا حَتَّى يَسوَدَّ الرِّيشُ، فَيَظَلُّ الْفَرْخُ فَاتِحًا فَاهُ يَتَفَقَّدُ أَبَوَيْهِ فَيُقَيِّضُ اللهُ لهُ طيراً صغاراً كالبرغشِ، فيغشاهُ فيتقوَّتَ منهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ حَتَّى يَسْوَدَّ رِيشُهُ، وَالْأَبَوَانِ يَتَفَقَّدَانِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَكُلَّمَا رَأَوْهُ أَبْيَضَ الرِّيشِ نَفَرَا عَنْهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ قَدِ اسْوَدَّ رِيشُهُ عَطَفَا عَلَيْهِ بِالْحَضَانَةِ وَالرِّزْقِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي جُمْلَةِ كَلَامٍ لَهُ فِي الْأَوَامِرِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا»
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أخبرَنا إملاءً أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غالبٍ، حدَّثَني محمَّدُ بنُ سنانٍ، حدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَدَّادٍ شَيْخٌ مِن أهلِ الْمَدِينَةِ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا» قَالَ: وَرُوِّينَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قتيبةُ، حدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سَافِرُوا تَرْبَحُوا وَصُومُوا تَصِحُّوا، وَاغْزُوا تَغْنَمُوا» وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هذا حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَوْقُوفًا، وَفِي لفظٍ «سافرُوا معَ ذوي الجدودِ والميسرةِ» وقولُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ: السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ الْعَلِيمُ بحركاتِهم وسكناتِهم. قالَ اللهُ تعالى..
– الشيخ : إلى هنا
– القارئ : أحسنَ اللهُ إليكَ.