الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الروم/(6) من قوله تعالى {ضرب لكم مثلا من أنفسكم} الآية 28 إلى قوله تعالى {من الذين فرقوا دينهم} الآية 32

(6) من قوله تعالى {ضرب لكم مثلا من أنفسكم} الآية 28 إلى قوله تعالى {من الذين فرقوا دينهم} الآية 32

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الروم

الدَّرس: السَّادس

***     ***     ***

 

– القارئ :  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:28-32]

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : عفا الله عنك

– الشيخ : الحمدُ لله، كنا انتهينا إلى قوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27] هو المبدِعُ للخلقِ، البَادي للخلقِ، هو البَادي لهذا الوجود، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} إذا أفناهُ أعادَه، وهذا يتصل بأمرِ البعث والنُّشور، الله يقول: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء:104] وعدٌ مؤكَّدٌ مُحَقَّقٌ، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل:38]

يقول تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] من المعلوم بداهةً أنَّ إعادةَ الخلقِ أهونُ في نظرِ العَقلِ، أما بالنسبة للهِ فلا فرقَ بين البدايةِ والإعادةِ، بين البَدءِ والإعادةِ، فليس في قدرتِه شيءٌ هَيِّنٌ وأهونُ، فلا يُقال: الله أقدرُ على كذا منه على كذا، لا، بلْ هوَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ، والأشياءُ بالنسبةِ لقدرتِه سواءٌ.

{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] لَهُ الوصفُ الأكملُ الأطيبُ، فهو الموصوفُ بكلِّ كمالٍ على وجهِ الكمالِ، الموصوف بكلِّ صفةِ كمالٍ، واتصافُه بهذه الصفة هو على وجهِ الكمال.

أما المخلوقُ فيتصفُّ ببعض صفات الكمال لكنَّها على وجهٍ ناقصٍ، عِلْمُ المخلوقِ ناقصٌ، وقدرتُه وحياتُه وجميعُ صفاتِه.

{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}

ثم قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} هذا مَثَلٌ ضربَه الله لبيانِ بطلانِ الشركِ، وأنَّ الشركَ مناقضٌ للعقلِ، فهو دليلٌ عقليٌّ، الأمثالُ القرآنية هي أدلةٌ عقليةٌ، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَضَّحَهُ بقولِه: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ} يعني: في عُرفِ الناسِ: هلْ يكونُ العبدُ المملوك شريكاً لمالكِه؟ يعني: ينازعُه ويقاسمُه كالشريكِ الأجنبيّ؟ أبداً، مملوكٌ، هذا مملوكٌ لَهُ.

{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} هذا استفهامُ تقريرٍ، فالـمُخاطَبُونَ كلُّهم يُقِرُّونَ بأنَّ المملوكَ لا يكونُ شريكاً لمالكِه، كيف يكونُ وهو مملوكٌ!؟

أفلا يقولونَ هذا في ربِّ العالمين؟! أنه لا يكون أحدٌ من عبيدِه شريكاً، والمشركون يُقِرُّونَ بأنَّ معبوداتِهم مملوكةٌ لله، ويظهر هذا في التلبية، في تلبيتِهم، كانوا يقولون: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، "إلَّا" شوف، لاحظِ الاستثناءَ، "إلا شريكاً هُوَ لَكَ، تملكُهُ وما مَلَكَ"!

ورد أنَّ الرسولَ -عليه الصلاة والسلام -إذا سمعَهم يُلَبُّونَ هذا إذا قالَ أحدُهم: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، يقول له الرسول: (قَدْ، قَدْ)، يعني: يكفي، قِفْ على هذا، لا تأتي بقولك: "إلا" "إلا"، لا، "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ"، انتهي عند هذا التوحيد، قوله: "لَا شَرِيكَ لَكَ" توحيدٌ طَيِّبٌ، لكن يفسدُه بقوله: "إلا"، "إلا شريكاً هُوَ لكَ، تملكُهُ وما مَلَكَ".

فهذا هو المثل الذي هنا: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} يعني: أنتم وعبيدُكم فيه سواءٍ.

{فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الشريك يخافُ من شريكِه، لا يستقلُّ عنه بشيء، ولا يتصرَّفُ من دونِه، فهو يخافُه، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

ثم قال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ} هؤلاء المشركون لم يَنظروا نظراً عقلياً يَهديهم إلى الـمَسْلَكِ الصوابِ، بل يَتَّبِعُونَ أهوائَهم، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] ومِن أهوائِهم اتباعُ آبائِهم {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}

ثم قال تعالى: {فَأَقِمْ} خطابٌ للنبيِّ ولكلِّ من يصلُحُ لَه، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أي: للدِّينِ الحقِّ، دينِ الإسلام، دينِ التوحيد، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} استقمْ عليه، وتوجَّهْ بوجهِك إلى هذا الدين؛ لِتُقِيْمَهُ وتستقيمَ عليه.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} دينُ التوحيد هو دين الله، (ما مِن مَولودٍ إلا ويُولَدُ على الفِطْرةِ) الحديث، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فالتوحيد هو مقتضى الفِطرة.

يعني: مِن مقتَضَياتِ الفِطرة: أنه ليس مَنْ يَخلق كمَنْ لا يَخلق، ومن مقتَضَياتِ الفِطرة: أنَّ مَن بيدِه الـمُلكُ، وبيدِه القدرةُ والخيرُ والنفعُ والضّرُ والتقديمُ والتأخيرُ هو الذي يستحقُّ التعظيمَ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] إلى آخر الآية.

{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} دينُ التوحيد، ودين الفِطرة هو الدينُ القَيِّمُ، وهو إخلاصُ الدينِ للهِ وعبادتِه -تعالى- وحدَه لا شريك له، هذا هو الدينُ القَيِّمُ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية.

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ} أي: الإعادةُ للخلقِ بعدِ موتِهم {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مِن ابتداءِ خَلقِهم وهذا بالنسبةِ إلى الأذهانِ والعقولِ، فإذا

– الشيخ : أي، هذا هو المفهومُ في عقولِ الناسِ أن الإعادةَ أهونُ.

– القارئ : فإذا كانَ قادراً على الابتداءِ الذي تُقِرُّونَ بِه كانتْ قدرتُه على الإعادةِ التي هِيَ أهونُ أَولى وأَولى.

ولـمَّا ذَكرَ من الآياتِ العظيمةِ ما بِه يَعتبرُ المعتبرونَ ويَتذكرُ المؤمنونَ ويَستبصرُ المهتدونَ ذَكرَ الأمرَ العظيمَ والمطلبَ الكبيرَ فقالَ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} وهوَ كلُّ صفةِ كمالٍ، والكمالُ مِن تلكَ الصفةِ والمحبةُ والإنابةُ التامةُ الكاملةُ في قلوبِ عبادِه المخلصينَ والذِّكرُ الجليلُ والعبادةُ منهم.

فالمثلُ الأعلى هو وصفُه الأعلى وما ترتَّبَ عليهِ، ولهذا كانَ أهلُ العلمِ يَستعملونَ في حقِّ الباري قياسَ الأَولى، فيقولونَ: كلُّ صفةِ كمالٍ في المخلوقاتِ فخالقُها أحقُّ بالاتصافِ بها على وجهٍ لا يشاركُه فيهِ أحدٌ، وكلُّ نقصٍ في المخلوقِ يُنَزَّهُ عَنه فتنزيهُ الخالقَ عنْهُ من بابِ أَولى وأَحْرى.

– الشيخ : يقولون: هذا مِن قياسِ الأَولى، وبيانُه: أن كل كمالٍ ثبتَ للمخلوق فالخالقُ أَولى منه؛ لأنَّ مِن المعلوم بالضرورة أنَّ الخالق أكملُ من المخلوق، وكلُّ نقصٍ يُنزَّهُ عن المخلوقِ فالله أولى بالتنزيهِ عنه.

– القارئ : {وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم} أي: لَه العزةُ الكاملةُ والحكمةُ الواسعةُ، فعزتُه أوجدَ بها المخلوقاتِ وأظهرَ المأموراتِ، وحكمتُه أتقنَ بها ما صَنَعَهُ وأحسنَ فيها ما شَرَعَهُ.

قالَ الله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآيات.

هذا مَثَلٌ ضربَه اللهُ -تعالى- لقُبحِ الشركِ وتهجينِهِ مثلاً مِن أنفسِكم لا يحتاجُ إلى حِلٍّ وتَرحالٍ وإعمالِ الجِمَالِ {هَلْ لَكُمْ ممَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: هَلْ مِن أحدٍ مِن عبيدِكم وإمائِكم الأرقاءُ يشاركُكم في رزقِكم وترونَ أنَّكم وهُم فيهِ على حَدٍّ سواءٍ.

{تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي: كالأحرارِ الشركاءِ في الحقيقةِ الذين يُخاف مِن قِسْمِه واختصاصِ كلِّ شيءٍ بحالِه؟

ليسَ الأمرُ كذلكَ فإنَّه ليسَ أحدٌ مما ملكتْ أيمانُكم شريكاً لكمْ فيما رزقَكُم اللهُ تعالى.

هذا، ولستُم الذينَ خلقتُمُوهم ورزقتُمُوهم وهم أيضاً مماليكٌ مثلكمْ، فكيفَ ترضونَ أنْ تجعلوا للهِ شريكاً مِن خلقِه؟ وتجعلونَه بمنزلتِه، وعديلاً لَه في العبادةِ وأنتمْ لا ترضونَ مساواةَ مماليكِكُم لكم؟!!

هذا من أعجبِ الأشياءِ! ومِنْ أدلِّ شيءٍ على سَفَهِ مَن اتَّخذَ شريكاً مَع اللهِ وأنَّ ما اتَّخذَهُ باطلٌ مُضْمَحِلٌّ ليسَ مساوياً للهِ ولا لَه مِن العبادةِ شيءٌ.

{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} بتوضيحِها بأمثلتِها {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الحقائقَ ويعرفونَ، وأمَّا مَنْ لا يَعقلُ فلو فُصِّلَتْ له الآياتُ وبُيِّنَتْ له البيِّناتُ لمْ يكنْ لَه عقلٌ يُبصِرُ بِه ما تبيَّنَ، ولا لُبٌّ يَعقلُ به ما تَوَضَّحَ، فأهلُ العقولِ والألبابِ هُمُ الذينَ يُساقُ إليهمُ الكلامُ ويُوَجَّهُ الخطابُ.

وإذا عُلِمَ مِن هذا المثالِ أنَّ مَن اتخذَ مِن دونِ اللهِ شريكاً يعبدُهُ ويتوكلُ عليهِ في أمورِه، فإنَّهُ ليسَ مَعَهُ مِن الحقِّ شيءٌ فما الذي أوجبَ لهم الإقدامَ على أمرٍ باطلٍ تَوَضَّحَ بطلانُه وظهر برهانُه؟ قد أوجبَ لهم ذلكَ اتباعُ الهوى؛ فلهذا قال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} هَويتْ أنفسُهم الناقصةُ التي ظهرَ مِن نقصانِها ما تعلَّقَ به هواهَا، أمراً يجزمُ العقلُ بفسادِه والفِطَرُ بِرَدِّهِ بغيرِ علمٍ دَلَّهُمْ عليهِ، ولا برهانٍ قادَهُم إليه.

{فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي: لا تعجبُوا مِن عدمِ هدايتِهم فإنَّ اللهَ -تعالى- أضلَّهُم بظلمِهم ولا طريقٌ لهدايةِ مَن أضلَّ اللهُ؛ لأنَّه ليسَ أحدٌ معارضاً للهِ أو منازعاً لَه في ملكِه.

{وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ينصرونَهم حينَ تَحُقُّ عليهِم كلمةُ العذابِ، وتنقطعُ بهمُ الوصلُ والأسبابُ.

قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآيات.

يأمرُ تعالى بالإخلاصِ لَه في جميعِ الأحوالِ وإقامة دينِه فقالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبُهُ ووجههُ للدينِ الذي هوَ الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ بأنْ تتوجَّهَ بقلبِكَ وقصدِكَ وبدنِكَ إلى إقامةِ شرائعِ الدينِ الظاهرةِ كالصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِ ونحوِها، وشرائعِه الباطنةِ كالمحبةِ والخوفِ والرجاء والإنابةِ، والإحسانِ في الشرائعِ الظاهرةِ والباطنة بأنْ تعبدَ اللهَ فيها كأنَّكَ تراهُ فإنْ لمْ تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ.

وخَصَّ اللهُ إقامةَ الوجهِ؛ لأنَّ إقبالَ الوجهِ تَبَعٌ لإقبالِ القلبِ ويترتبُ على الأمرِ سَعْيُ البدنِ؛ ولهذا قال: {حَنِيفًا} أي: مقبلاً على اللهِ في ذلكَ مُعْرِضَاً عمَّا سِواه.

وهذا الأمرُ الذي أُمرَنا بِه هو {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضعَ في عقولِهم حسنَها واستقباحَ غيرِها، فإنَّ جميعَ أحكامِ الشرعِ الظاهرةِ والباطنةِ قَد وضعَ اللهُ في قلوبِ الخلقِ كلِّهِم، الميلَ إليها، فوضعَ في قلوبِهم محبةَ الحقِّ وإيثارَ الحقِّ وهذا حقيقةُ الفطرةِ.

ومَنْ خرجَ عَنْ هذا الأصلِ فلعارضٍ عَرَضَ لفطرتِه أفسدَها، كما قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ).

{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لا أحدَ يُبَدِّلُ خلقَ اللهِ فيَجْعَلَ المخلوقَ على غيرِ الوضعِ الذي وضعَه اللهُ، {ذَلِكَ} الذي أمرناكَ به {الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: الطريقَ المستقيمَ الـمُوصلَ إلى اللهِ وإلى كرامتِه، فإنَّ مَن أقامَ وجهَه للدينِ حنيفاً فإنَّه سالكٌ الصراطَ المستقيمَ في جميعِ شرائعِه وطرقِه، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} فلا يتعرَّفونَ الدينَ القَيِّمَ وإنْ عرفُوه لمْ يسلكُوهُ.

{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} وهذا تفسيرٌ لإقامةِ الوجهِ للدينِ، فإنَّ الإنابةَ إنابةُ القلبِ وانجذابُ دواعيهِ لمراضي الله -تعالى-.

ويلزمُ مِن ذلكَ عملُ البدنِ بمقتضى ما في القلبِ، فشملَ ذلكَ العباداتِ الظاهرةِ والباطنةِ، ولا يتمُّ ذلكَ إلا بتركِ المعاصي الظاهرةِ والباطنةِ فلذلكَ قالَ: {وَاتَّقُوهُ} فهذا يشملُ فعلَ المأموراتِ وتركَ المنهياتِ.

وخَصَّ من المأموراتِ الصلاةَ؛ لكونِها تدعو إلى الإنابةِ والتقوى كما قالَ -تعالى- في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فهذا إعانتُها على التَّقوى.

ثمَّ قالَ: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فهذا حَثُّهَا على الإنابةِ.

وخَصَّ من المنهياتِ أصلَها والذي لا يُقبلُ معَه عملٌ وهو الشِّركُ فقالَ: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}؛ لكونِ الشِّركِ مضاداً للإنابةِ التي روحُها الإخلاصُ مِن كلِّ وجهٍ.

ثمَّ ذكرَ حالةَ المشركينَ مُهَجِّناً لها ومُقَبِّحَاً فقالَ: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} معَ أنَّ الدينَ واحدٌ وهو إخلاصُ العبادةِ للهِ وحدَه وهؤلاءِ المشركونَ فرَّقوهُ، منهمْ مَن يعبدُ الأوثانَ والأصنامَ، ومنهمْ مَن يعبدُ الشمسَ والقمرَ، ومنهمْ مَن يعبدُ الأولياءَ والصالحينَ، ومنهمْ يهودٌ، ومنهمْ نصارى.

ولهذا قال: {وَكَانُوا شِيَعًا} أي: كلُّ فرقةٍ مِن فِرَقِ الشركِ تحزَّبَتْ وتعصَّبَتْ على نصرِ ما معَها مِن الباطلِ ومنابذةِ غيرِهم ومحاربتِهم.

{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} مِن العلومِ المخالفةِ لعلومِ الرسلِ {فَرِحُونَ} بِه يحكمونُ لأنفسهمْ بأنَّه الحقُّ وأنَّ غيَرهُم على باطلٍ، وفي هذا تحذيرٌ للمسلمينَ من تشتتِهم وتفرُّقِّهم فِرَقَاً كلُّ فريقٍ يتعصَّبُ لما معَه مِنْ حَقٍّ وباطلٍ، فيكونونَ متشابهينَ بذلكَ للمشركينِ في التفرُّقِ بَلْ الدينُ واحدٌ، والرسولُ واحدٌ، والإلهُ واحدٌ.

وأكثرُ الأمورِ الدينيةِ: وقعَ فيها الإجماعُ بينَ العلماءِ والأئمةِ، والأخوُّة الإيمانيةُ قَد عقدَها اللهُ وربطَها أتمَّ ربطٍ، فما بالُ ذلكَ كلِّهِ يُلْغَى ويُبْنَى التفرُّقُ والشِّقاقُ بينَ المسلمينَ على مسائلَ خَفيَّةٍ أو فروعٍ خلافيةٍ يُضَلِّلُ بها بعضُهم بعضاً، ويتميزً بها بعضًهم عن بعضٍ؟

فهلْ هذا إلا مِن أكبرِ نَزَعَاتِ الشيطانِ وأعظمِ مقاصدِه التي كادَ بها المسلمينَ؟

وهلِ السَّعيُ في جمعِ كلمتِهم وإزالةِ ما بينَهم مِن الشِّقاقِ الـمَبنيِّ على ذلكَ الأصلِ الباطلِ، إلَّا من أفضلِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ وأفضلِ الأعمالِ الـمُقرِّبةِ إلى اللهِ؟

ولـمَّا أمرَ تعالى

– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي].