بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الروم
الدَّرس: السَّابع
*** *** ***
– القارئ : عفا الله عنك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:33-39]
– الشيخ : إلى هنا
– القارئ : عفا الله عنك
– الشيخ : يذكرُ -سبحانه وتعالى- في هذهِ الآياتِ حالَ كثيرٍ مِنَ الناسِ في سائرِ أحوالِهم، في حالِ النَّعماءِ والضَّراءِ والرحمةِ والبلاءِ، {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ}، كحالِهم في البحر، لكن هذا يحصلُ لهم إذا ركِبُوا البحرَ وأحاطتْ بهم الأمواجُ، ويحصلُ لهم إذا مسَّهم ضُرٌّ من مرضٍ ومن كيدِ عدوٍّ.
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً}، أزالَ الضُر وأحلَّ محلَّها الرحمةَ {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أبداً، كالحال التي وصفَهم اللهُ بها إذا ركبِوا في البحرَ.
{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، يعني بهذا الصنيعِ يَؤُوْلُ أمرُهُم إلى الكفر، الكفر بنِعَم الله، والكفر بالله بسببِ الشِرك، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}، قال الله: {فَتَمَتَّعُوا}، هذا تهديدٌ، أمرُ تهديدٍ، تمتعوا في هذه الحياة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا}، هذا وصفُ حالِهم إذا حصلتْ لهم الرحمةُ من الغِنى، من الغِنى والصِّحة والقوة، {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}، إذا حصلت لهم النِعَمُ وتوالتْ عليهمْ فرحوا فرحَ البَطَرَ، فرحَ الغرور، لا الفرحَ الطبيعيَّ العاديَّ، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}، إذا مسَّهم ما يكرهونَ قَنِطُوا، فهم بين فرحٍ وغرورٍ ويأسٍ وقنوطٍ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ}، فاللهُ -تعالى- هو الذي يفعلُ ما يشاءُ، فيعطي ويمنعُ ويخفضُ ويرفعُ، يبسطُ الرزق لمن يشاءُ ويُضيِّقه على من يشاءُ.
ثم قال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}، أمرَ اللهُ بأداءِ الحقوقِ، حقُّ القريبِ، واليتيمِ والمسكينِ، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ}، يعني: أداءُ الحقوقِ والنفقاتِ الواجبةِ والمستحبةِ خيرٌ لهم عندَ اللهِ إذا أخلصُوا النية، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ}، فالرِّبا ضدُّ الصدقة، الـمُرابي -والعياذ بالله- يطلبُ الربحَ والزيادةَ بغيرِ حَقٍّ، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ثم قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ}، مَنْ يبذلُ مالَه ويُخرِجُ مالَهُ مِن أجلِ الفوائدِ بالعقودِ المحرَّمة -العقود الربوية- فهو إنْ رَبى وزادَ المالُ فإنه لا يَنالُ أجراً عندَ الله ولا يَربو عندَ الله، وحينئذٍ يكونُ هذا الربحُ وَبَالاً على صاحبِه؛ لأنَّه ربحٌ غيرُ شرعيّ.
{وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، الْمُضْعِفُونَ يعني: تُضاعفَ لهم الأجورُ ويُبارك الله لهم في أموالِهم، {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}.
(تفسير السعدي)
– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعدي رحمَه اللهُ تعالى:
ولـمَّا أمرَ تعالى بالإنابةِ إليهِ وكانَ المأمورُ بها هِيَ الإنابةُ الاختياريةُ التي تكونُ في حَالِ العُسْرِ واليُسْرِ والسَّعَةِ والضِّيْقِ ذكرَ الإنابةَ الاضطراريةَ التي لا تكونُ مَعَ الإنسانِ إلا عندَ ضيقِهِ وكَربِهِ، فإذا زالَ عنهُ الضيقُ نَبَذَهَا وراءَ ظهرِهِ وهذهِ غيرُ نافعةٍ فَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ}
– الشيخ : يعني تضرُّعُ الإنسانِ عندَ الضرورةِ هذا لا يُحمَدُ فيه، ولا يُعَدُّ عملاً صالحاً؛ لأنَّ الدافعَ له الضرورةُ ليسَ الدافعَ له التعبُّدُ لله.
– القارئ : فقال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} الآيات
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ مَرَضٌ أَوْ خَوْفٌ مِنْ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ. {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} وَنَسُوا مَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الضُّرَّ إِلَّا اللَّهُ.
ثمَّ {إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} شَفَاهُمْ مِنْ مَرَضِهِمْ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} يَنْقُضُونَ تِلْكَ الْإِنَابَةَ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُمْ، وَيُشْرِكُونَ بِهِ مَنْ لا أسعدَهم ولا أَشْقَى، وَلَا أَفْقَرَ وَلَا أَغْنَى، وَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ أَنْجَاهُمْ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَأَزَالَ عَنْهُمُ الْمَشَقَّةَ، فَهَلَّا قَابَلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَلِيلَةَ بِالشُّكْرِ وَالدَّوَامِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ؟
{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا} أَيْ: حُجَّةً ظَاهِرَةً {فَهُوَ} أَيْ: ذَلِكَ السُّلْطَانُ، {يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} وَيَقُولُ لَهُمُ: اثْبُتُوا عَلَى شِرْكِكُمْ وَاسْتَمِرُّوا عَلَى شَكِّكُمْ فَإِنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ وَمَا دَعَتْكُمُ الرُّسُلُ إِلَيْهِ بَاطِلٌ.
فَهَلْ ذَلِكَ السُّلْطَانُ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ حَتَّى يُوجِبَ لَهُمْ شِدَّةَ التَّمَسُّكِ بِالشِّرْكِ؟ أَمِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ وَالْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالرُّسُلُ الْكِرَامُ وَسَادَاتُ الْأَنَامِ، قَدْ نَهَوْا أَشَدَّ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَحَذَّرُوا مِنْ سُلُوكِ طُرُقِهِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ وَحَكَمُوا بِفَسَادِ عَقْلِ وَدِينِ مَنِ ارْتَكَبَهُ؟!
فَشِرْكُ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ، وَنَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ.
قال الله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا…} الآيات.
يُخبِرُ تعالى عَن طبيعةِ أكثرِ الناسِ في حالي الرَّخاءِ والشدةِ أنَّهم إذا أذاقَهم اللهُ منه رحمةً مِنْ صحةٍ وغنىً ونصرٍ ونحوِ ذلكَ فرحوا بذلكَ فَرَحَ بَطَرٍ، لا فرحَ شكرٍ وتَبَجُّحٍ بنعمةِ اللهِ.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: حالَ تَسوؤُهم وذلكَ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} مِن المعاصي {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ييأَسونَ مِن زوالِ ذلكَ الفقرِ والمرضِ ونحوِه. وهذا جهلٌ منهم وعدمُ معرفةٍ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} فالقنوطُ بعدَ ما عُلِمَ أنَّ الخيرَ والشرَّ من اللهِ، والرزقُ سَعَتُهُ وضِيقُهُ مِن تقديرِه ضائعٌ ليسَ لَه محلٌ، فلا تنظرْ أيَّها العاقلُ لمجرَّدِ الأسبابِ، بَلْ اجعلْ نظركَ لمسببِها؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فهمُ الذينَ يعتبرونَ بَسْطَ اللهِ لمنْ يشاءُ وقبضَهُ، ويعرفونَ بذلكَ حكمةَ اللهِ ورحمتِه، وجودِهِ وجذبُ القلوبِ لسؤالِه في جميعِ مطالبِ الرزقِ.
قالَ اللهُ -تعالى-: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} الآيات.
– الشيخ : بس يكفي.
– القارئ : أحسن الله إليك.