بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الروم
الدَّرس: الثَّامن
*** *** ***
– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[الروم:40-45]
– الشيخ : إلى هنا بس [يكفي]
– القارئ : عفا الله عنك.
– الشيخ : لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا فيه الاحتجاجِ من الله على المشركين لإبطالِ شركِهم، فيذكر أنه -تعالى- هو خالقُهم ورازقُهم، {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون:80]، الذي هذا هو شأنه هو المستحقُّ للعبادة، أما ما يُعبَد من دون الله فلا يفعل شيئاً، أين مَن يَخلق ومن لا يَخلق؟، الله الذي خلق، هو الذي ابتدأ خلقَكم، وهو الذي أنشأكم وهو الذي يرزقكم، يُمدُّكم بالأرزاق، تنزِل من السماء ويخرُج من الأرض، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ثم يحييكم، يحييكم ليوم المعاد، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}.
ثم يقرِّرُهم بهذه الحقيقة: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ}، هو يُقرُّهم بأنَّ آلهتَهم التي جعلوها شركاء لله لا تفعلُ شيئاً، فلا تخلقُ ولا ترزقُ ولا تحيي ولا تموتُ، {هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ} سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
ثم نزَّه نفسه عن شرك المشركين؛ لأنه تنقُّصٌ لربِّ العالمين، مَن يتخذ من دون الله شركاء يتنقَّصُ ربَّ العالمين، الله تعالى لا شريك له في ربوبيتِه ولا في إلهيتِه ولا في أسمائِه وصفاته، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، التسبيح: التنزيه، تنزيهاً لله عن شركِ المشركين وعن شركائِهم.
ثم يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} معروفان، والفسادُ الذي ظهر فيهما فسادُ المصالح التي تكون في البَرِّ والبحرِ، عقوبة، هذا الفساد عقوبةٌ:
وذكرَ الحكمة من الفسادِ مثلاً: تَلَفُ الثمار، ذهاب الأنفس، وقوع الأوبئة الأمراض المهلكة المدمِّرة، كلُّه من فساد الحياة، فساد الحياة، وفي البحر أيضاً تفسدُ المصالح التي هناك، يعرف ذلكَ خبراء البحار، يعرفون ما يحصل في البحر من أمور الفسادِ، سواءً كان فيما يتعلَّق بالمنافع التي تحصل.
والبحر ذكرَ الله فيه منفعتين: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]
قال الله: {بِمَا كَسَبَتْ}، يعني: ظهور الفساد في البرِّ والبحرِ بسببِ المعاصي، بسبب ما كسبَه العباد، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ…لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، أسأل الله العافية.
والعقوبات أنواع، العقوبات أنواع، تكون بأنواع: باختلالِ الأمنِ يعني: الخوف، حصول الجوعُ، بفساد الثمار بهلاكِ النفوس، بِتَلَفِ الأموال، وهذا الفساد بسببِ الفساد، الفسادُ الكونيُّ بسببِ الفساد العَمَليّ من الناس، {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
ثم قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}، سيروا هنا وهناك وتفكَّروا، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}، فلهذا أخذَهُم الله، كعادٍ وثمودَ وغيرهم، وقومِ إبراهيم، {كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ}، في الآية الأخرى: {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]
ثم قال -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}، {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ}، يعني: استقمْ على الدينِ وتوجَّه، توجَّه؛ لإقامة دين الله والقيام به، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30] {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}، يومئذ يتفرَّقُون، كما جاء في أول السورة، سبحان الله! {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، هنا قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}، يومٌ هائلٌ بما فيه، ولا أحدَ يستطيعُ ردَّهُ، وفي ذلكَ اليوم يتفرَّق العباد، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}، فريقانِ، يصيرون فريقين، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
(تفسير السعدي)
– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ -تعالى-: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} الآيات.
أَيْ: فَأَعْطِ الْقَرِيبَ مِنْكَ -عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِ وَحَاجَتِهِ- حَقَّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ أَوْ حَضَّ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْبِرِّ وَالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالْعَفْوِ في زَلَّتِهِ وَالْمُسَامَحَةِ عَنْ هَفْوَتِهِ، وَكَذَلِكَ آتِ الْمِسْكِينَ الَّذِي أَسْكَنَهُ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ مَا تُزِيلُ بِهِ حَاجَتَهُ وَتَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتَهُ مِنْ إِطْعَامِهِ وَسَقْيِهِ وَكُسْوَتِهِ.
{وَابْنَ السَّبِيلِ} الْغَرِيبَ الْمُنْقَطِعَ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ الَّذِي فِي مَظِنَّةِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَأَنَّهُ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا كَسْبَ يُدَبَّرَ نَفْسَهُ بِهِ فِي سَفَرِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي فِي بَلَدِهِ، فَإِنَّهُ حتى ولَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَكِنْ لَا بُدَّ -فِي الْغَالِبِ- أَنْ يَكُونَ فِي حِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَنَحْوِهَا تَسُدُّ حَاجَتَهُ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ حِصَّةً لِلْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ {ذَلِكَ} أَيْ: إِيتَاءُ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ} بِذَلِكَ الْعَمَلِ {وَجْهَ اللَّهِ} أَيْ: خَيْراً غَزِيراً وَثَوَاباً كَثِيراً؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي الَّذِي وَافَقَ مَحَلَّهُ الْمَقْرُونَ بِهِ الْإِخْلَاصُ.
فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ خَيْرًا لِلْمُعْطِي، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا وَنَفْعًا لِلْمُعْطَى كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] مَفْهُومُهَا أَنَّ هَذِهِ الْمُثْبَتَاتِ خَيْرٌ لِنَفْعِهَا الْمُتَعَدِّيَ، وَلَكِنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ} الَّذِينَ عَمِلُوا هَذِهِ الْأَعْمَالَ وَغَيْرَهَا لِوَجْهِ اللَّهِ {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الْفَائِزُونَ بِثَوَابِ اللَّهِ النَّاجُونَ مِنْ عِقَابِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُهُ مِنَ النَّفَقَاتِ ذَكَرَ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَقْصِدٌ دُنْيَوِيٌّ فَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} أَيْ: مَا أَعْطَيْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمُ الزَّائِدَةِ عَنْ حَوَائِجِكُمْ وَقَصْدِكُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَرْبُوَ أَيْ: يَزِيدَ فِي أَمْوَالِكُمْ بِأَنْ تُعْطُوهَا لِمَنْ تَطْمَعُونَ أَنْ يُعَاوِضَكُمْ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا، فَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَرْبُو أَجْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ لِكَوْنِهِ مَعْدُومَ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْإِخْلَاصُ.
وَمِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الزِّيَادَةُ فِي الْجَاهِ وَالرِّيَاءِ عِنْدَ النَّاسِ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ.
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} أَيْ: مَالٍ يُطَهِّرُكُمْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ وَيُطَهِّرُ أَمْوَالَكُمْ مِنَ الْبُخْلِ بِهَا وَيَزِيدُ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْمُعْطَى. {تُرِيدُونَ} بِذَلِكَ {وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أَيِ: الْمُضَاعَفُ لَهُمُ الْأَجْرُ الَّذِينَ تَرْبُو نَفَقَاتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَيُرَبِّيهَا اللَّهُ لَهُمْ حَتَّى تَكُونَ شَيْئًا كَثِيرًا.
ودلَّ قولُهُ: {وَمَا أُتِيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} أَنَّ الصَّدَقَةَ مَعَ اضْطِرَارِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْفِقِ أَوْ مَعَ دَيْنٍ عَلَيْهِ لَمْ يَقْضِهِ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزَكَاةٍ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيُرَدُّ تَصَرُّفُهُ شَرْعًا كَمَا قَالَ -تَعَالَى- فِي الَّذِي يَمْدَحُ: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}[الليل:18] فَلَيْسَ مُجَرَّدُ إِيتَاءِ الْمَالِ خَيْرًا حَتَّى يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يَتَزَكَّى بِهِ صاحبُهُ.
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} الآية.
يُخبِرُ تعالى أنه وحدَه المنفردُ بخلقِكم ورزقكِم وإماتتِكم وإحيائِكم، وأنَّهُ ليسَ أحدٌ من الشركاءِ التي يدعوها المشركونَ من يشاركُ اللهَ في شيءٍ مِن هذهِ الأشياءِ.
فكيفَ يُشرِكونَ بمنِ انفردَ بهذهِ الأمورِ مَن ليسَ لَه تصرُّفٌ فيها بوجهٍ من الوجوهِ؟!
فسبحانَه وتعالى وتقدَّسَ وتنزَّه وعَلَا مِن شِركِهم، فلا يَضُرُّهُ ذلكَ وإنَّما وَبَالُهُ عليهِم.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية
– الشيخ : بس [يكفي]، قف على هذا.
– القارئ : أحسن الله إليكم.