الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة لقمان/(1) من قوله تعالى {الم} الآية 1 إلى قوله تعالى {خالدين فيها وعد الله حقا} الآية 9

(1) من قوله تعالى {الم} الآية 1 إلى قوله تعالى {خالدين فيها وعد الله حقا} الآية 9

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة لقمان

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [لقمان:1-9]

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : عفا الله عنك

– الشيخ : لا إله إلا الله، هذهِ سورة لقمان، لا إله إلا الله، افتُتِحتْ ببعضِ الحروفِ المقطَّعة {الم} كما افتُتِحتْ سورةُ البقرةِ وسورٌ كثيرةٌ، هذه أربع سورٍ متواليةٍ مُفتتحةٌ بهذه الحروف {الم} لا إله إلا الله، وهي التي قالَ فيها النبي -عليه الصلاة والسلام-: (مَنْ قرأَ القرآنَ فلَهُ بكلِّ حرفٍ عشرُ حسناتٍ، لا أقول: {الم} حرفٌ، بلْ ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ).

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} هذا القرآنُ وصفَه الله بصفاتٍ، {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2]

{تِلْكَ آيَاتُ} إشارةٌ إلى هذه الآيات الآتية مِن سورةِ لقمانَ، مِن آياتِ الكتابِ الحكيمِ، من آيات الكتاب الحكيم، أو إشارةٌ إلى جميعِ آيِ القرآنِ.

{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} هذا الكتابُ الحكيمُ هو {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} المحسنونَ في أعمالِهم والمحسنونَ إلى عبادِ اللهِ هم المنتفعُون بهذا الكتاب، فهو لهم هدىً، يهتدون به إلى كلِّ طريقٍ قويمٍ، إلى كلِّ طريقِ خيرٍ، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وهو رحمةٌ لهم؛ لأنَّهم يُؤمنونَ به، ويعملونَ بما فيه: من الشرائعِ، من الفضائلِ، من الأحكامِ، {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}.

ثم وصفَهم بأنَّهم: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} فهذه ثلاثُ صفاتٍ: إقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وبالإيمانُ باليومِ الآخرِ معَ اليقينِ، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فهذان ركنانِ من أركانِ الإسلام: الصلاةُ والزكاةُ، فهما أعظمُ الفرائضِ بعدَ الشهادتينِ.

{يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} فيؤمنونَ بالبَعْثِ والنُّشورِ والجزاءِ والجنةِ والنَّارِ، كلُّها داخلةٌ في الإيمانِ باليوم الآخِر، داخلةٌ في الإيمان بالآخرة.

ثم قال -سبحانه-: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} هؤلاءِ هم على هدىً من الله، يعني: على علمٍ وعلى بصيرةٍ وعلى بيِّنةٍ، خلافُ مَنْ همْ في الضَّلالةِ والظُّلماتِ، شَتَّانَ بينَ الفريقينِ. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في الجملةِ الأولى: بيانُ الطريقِ الذي هُم عليه، وفي الجملةِ الثانيةِ: ذِكْرُ جزاءِهم وعاقبتِهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والفلاحُ هو: الفوزُ والظَّفَرُ بالمطلوبِ والنَّجاةُ من المكروهِ والمرهوبِ.

ولـمَّـا ذكرَ اللهُ هذا الصِّنْفَ الطّيبَ الذين هم عبادُ اللهِ الصالحون، عبادُ اللهِ المؤمنونَ المتقونَ، ذَكَرَ في المقابلِ الصِّنْفَ الآخرَ الذي هو على ضِدِّ ذلكَ، ضِدِّ ما عليه أولئكَ المؤمنونَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} يشتريهِ وَيُؤْثِرُهُ على غيرِه، مُشتري السِّلْعَة راغبٌ فيها، وبائِعُها تاركٌ لها، يشتري لهوَ الحديثِ، يعني: الحديث الذي هو لـَهْوٌ إذاً هو حديثٌ باطلٌ، يشتري الحديثَ الباطلَ ويؤثرُه، وهو كلُّ حديثٍ يُلْهِي القلبَ عن ذكرِ الله، كلُّ حديثٍ، كلُّ كلامٍ، الحديث هو كلامُ، الحديثُ: كلامٌ، يُلهِي القلبَ عن ذكرِ اللهِ، يُلْهي القلبَ عن التفكيرِ والتَّفكُّر في آياتِ الله، يُلْهي القلبَ عن التذكُّر، تذكُّرِ الآخرة، فهذا الشَّقيُّ يُؤثِرُ هذا النوعَ من الحديثِ.

وفُسِّرَ هذا، فسَّرَهُ كثيرٌ من السَّلَفِ بالغِناء، بالغناءِ الباطلِ، وهذا ما يَستدلُّ به أهلُ العلم على تحريمِ الغِناءِ، فهو يشتري لـَهْوَ الحديثِ وَيُؤْثِرُهُ على آياتِ الله، فهو يحبُّ أن يسمعَ لـَهْوَ الحديثِ، وإذا تُلِيتْ عليهِ آياتُ اللهِ أعرضَ عنها.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فمن اشتراهُ، من اشترى لـَهْوَ الحديثِ صارتْ عاقبتُه الضلالُ؛ لأنَّ كما أنَّ آياتِ القرآنِ سببٌ للاهتداءِ؛ لأنَّها تهديْ، فَلـَهْوُ الحديثِ يُضِلُّ، يُضِلُّ مُؤْثِرَهُ ومُشْتَرِيَهُ، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} يعني: يتخذُ سبيلَ الله هُزُوًا، يتخذُ سبيلَ الله هُزُوًا.

{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} هذه هي العاقبةُ وهذا هو الجزاءُ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ومِن دَأْبِ هذا الشَّقيِّ إذا تُتْلى عليه آياتُ اللهِ {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} يعني: أعرضَ عنها متكبِّراً، يأنفُ مِنْ أنْ يستمعَ لها وأنْ يُصغيَ إليها ويستجيبَ لما فيها، {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} بلْ {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

فلمَّا ذكرَ عاقبةَ هذا الصِّنفِ مِن الناسِ عذابٌ مهينٌ، وعذابٌ أليمٌ، ذكرَ عاقبةَ المؤمنينَ، رجعَ الكلامُ إلى الصِّنف الأولِ؛ لأنَّ اللهَ ذكرَ عاقبتَهم مجمَلة، مجملةً {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ثمَّ فَصَّلَ ذلكَ بقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى:

تَفْسِيرُ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} الآيات

يُشِيرُ تَعَالَى إِشَارَةً دَالَّةً عَلَى التَّعْظِيمِ إِلَى {آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} أَيْ: أنَّ آيَاتَهُ مُحْكَمَةٌ، صَدَرَتْ مِنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ بِأَجَلِّ الْأَلْفَاظِ وَأَفْصَحِهَا، وَأَبْيَنِهَا، الدَّالَّةِ عَلَى أَجَلِّ الْمَعَانِي وَأَحْسَنِهَا.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَالتَّحْرِيفِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ كُلِّهَا، مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ، مُطَابِقٌ لَهَا الْوَاقِعُ، لَمْ يُخَالِفْهَا كِتَابٌ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِخِلَافِهَا، نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَأْتِ وَلَنْ يَأْتِيَ عِلْمٌ مَحْسُوسٌ وَلَا مَعْقُولٌ صَحِيحٌ، يُنَاقِضُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا مَا أَمَرَتْ بِشَيْءٍ، إِلَّا وَهُوَ خَالِصُ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ رَاجِحُهَا، وَلَا نَهَتْ عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا وَهُوَ خَالِصُ الْمَفْسَدَةِ أَوْ رَاجِحُهَا، وَكَثِيرًا مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ، مَعَ ذِكْرِ حِكْمَتِهِ فَائِدَتِهِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ، مَعَ ذِكْرِ مَضَرَّتِهِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْظِ الْبَلِيغِ، الَّذِي تَعْتَدِلُ بِهِ النُّفُوسُ الْخَيِّرَةُ، وَتَحْتَكِمُ، فَتَعْمَلُ بِالْحَزْمِ.

وَمِنْ إِحْكَامِهَا: أَنَّكَ تَجِدُ آيَاتِهَا الْمُتَكَرِّرَةَ، كَالْقِصَصِ، وَالْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، قَدِ اتَّفَقَتْ كُلُّهَا وَتَوَاطَأَتْ، فَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ، وَلَا اخْتِلَافٌ. فَكُلَّمَا ازْدَادَ بِهَا الْبَصِيرُ تَدَبُّرًا، وَأَعْمَلَ فِيهَا الْعَقْلَ تَفَكُّرًا، انْبَهَرَ عَقْلُهُ، وَذُهِلَ لُبُّهُ مِنَ التَّوَافُقِ وَالتَّوَاطُؤِ، وَجَزَمَ جَزْمًا لَا يُمْتَرَى فِيهِ، أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

وَلَكِنْ – مَعَ أَنَّهُ حَكِيمٌ – يَدْعُو إِلَى كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ

– الشيخ : يعني قَصَصُ الأنبياءِ، أو قصَّةُ آدم وإبليس تأتي في مواضع كثيرة والأصلُ واحدٌ، ولكنَّها تختلف بالزيادةِ والنَّقصِ، فيُذكرُ في هذا الموضع ما لا يُذكَرُ في الموضع الآخر، ولكن مِحوَرُ القصَّةِ واحدٌ، وبهذه الفروق الزيادة، يعني الزيادة في بعضِ الآيات والمواضعِ هذا يمنعُ التَّكرار، فليسَ في القرآن تَكرارٌ، يعني: كلامٌ مُكَرَّرٌ لا معنىً له، بل يكونُ في هذهِ القِصَّةِ في هذا الموضعِ ما ليسَ فيها في الموضع الآخر.

 

– القارئ : وَلَكِنْ -مَعَ أَنَّهُ حَكِيمٌ- يَدْعُو إِلَى كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ خُلُقٍ لَئِيمٍ، أَكْثَرُ النَّاسِ مَحْرُومُونَ منَ الِاهْتِدَاءَ بِهِ، مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِهِ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- وَعَصَمَهُ، وَهُمُ الْمُحْسِنُونَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمْ وَالْمُحْسِنُونَ إِلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ هُدًى لَهُمْ، يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ طُرُقِ الْجَحِيمِ، وَرَحْمَةً لَهُمْ، تَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُمُ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ.

ثُمَّ وَصَفَ الْمُحْسِنِينَ بِالْعِلْمِ التَّامِّ، وَهُوَ الْيَقِينُ الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، فَيَتْرُكُونَ مَعَاصِيَهُ، وَوَصَفَهُمْ بِالْعَمَلِ، وَخَصَّ مِنَ الْعَمَلِ، عَمَلَيْنِ فَاضِلَيْنِ: {يُقِيْمُوْنَ الصَّلاةَ} الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعَبُّدِ الْعَامِّ لِلْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَالْجَوَارِحِ الْمُعِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الَّتِي تُزَكِّي صَاحِبَهَا مِنَ الصِّفَاتِ الرَّذِيلَةِ، وَتَنْفَعُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَتَسُدُّ حَاجَتَهُ، وَيُبَيِّنُ بِهَا أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْثِرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّتِهِ لِلْمَالِ، فَيُخْرِجُ مَحْبُوبَهُ مِنَ الْمَالِ، لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ طَلَبُ مَرْضَاةِ اللَّهِ.

{أُولَئِكَ}: الْمُحْسِنُونَ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ التَّامِّ، وَالْعَمَلِ {عَلَى هُدًى} أَيْ: عَظِيمٍ كَمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ، وَذَلِكَ الْهُدَى حَاصِلٌ لَهُمْ، وَوَاصِلٌ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرَبِّيهِمْ بِالنِّعَمِ؛ وَيَدْفَعُ عَنْهُمُ النِّقَمَ.

وَهَذَا الْهُدَى الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ تَرْبِيَتِهِ الْخَاصَّةِ بِأَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ التَّرْبِيَةِ.

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الَّذِينَ أَدْرَكُوا رِضَا رَبِّهِمْ، وَثَوَابَهُ الدُّنْيَوِيَّ وَالْأُخْرَوِيَّ، وَسَلِمُوا مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ؛ وَذَلِكَ لِسُلُوكِهِمْ طَرِيقَ الْفَلَاحِ، الَّذِي لَا طَرِيقَ لَهُ غَيْرَهَا.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ، الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ، ذَكَرَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا

– الشيخ : أعوذ بالله أعوذ بالله

– القارئ : وَأَنَّهُ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ تَعَوَّضَ عَنْهُ كُلَّ بَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ، فَتَرَكَ أَعْلَى الْأَقْوَالِ، وَأَحْسَنَ الْحَدِيثِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ أَسْفَلَ قَوْلٍ وَأَقْبَحَهُ، لِذَلِكَ قَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآيات.

أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ مَحْرُومٌ مَخْذُولٌ يَشْتَرِي أَيْ: يَخْتَارُ وَيَرْغَبُ رَغْبَةَ مَنْ يَبْذُلُ الثَّمَنَ فِي الشَّيْءِ.

{لَهْوَ الْحَدِيثِ} أَيِ: الْأَحَادِيثَ الْمُلْهِيَةَ لِلْقُلُوبِ، الصَّادَّةَ لَهَا عَنْ أَجَلِّ مَطْلُوبٍ، فَدَخَلَ فِي هَذَا كُلُّ كَلَامٍ مُحَرَّمٍ، وَكُلُّ لَغْوٍ بَاطِلٍ، وَهَذَيَانٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْكُفْرِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْعِصْيَانِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الرَّادِّينَ عَلَى الْحَقِّ، الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ لِيَدْحَضُوا بِهِ الْحَقَّ، وَمِنْ غِيبَةٍ، وَنَمِيمَةٍ، وَكَذِبٍ، وَشَتْمٍ، وَسَبٍّ، وَمِنْ غِنَاءٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ، ومِن الْمَاجِرِيَّاتِ الْمُلْهِيَةِ، الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا. فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ، {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} عَنْ هَدْيِ الْحَدِيثِ {لِيُضِلَّ النَّاسَ} عن سبيل الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ: بَعْدَ مَا ضَلَّ بِفِعْلِهِ، أَضَلَّ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْإِضْلَالَ، نَاشِئٌ عَنِ الضَّلَالِ.

وَإِضْلَالُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَدُّهُ عَنِ الْحَدِيثِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ النَّافِعِ، وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا، حَتَّى يَقْدَحَ فِي الْهُدَى وَالْحَقِّ، الذي جاءتْ بِهِ آياتُ اللهِ، {وَيَتَّخِذُها هَزُّوا} يَسْخَرُ بِهَا، وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ مَدْحِ الْبَاطِلِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَالْقَدْحِ فِي الْحَقِّ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، أَضَلَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَخَدَعَهُ بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ، مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُهُ ذَلِكَ الضَّالُّ، وَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ.

{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} بِمَا ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَاسْتَهْزَءُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا الْحَقَّ الْوَاضِحَ.

وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} لِيُؤْمِنَ بِهَا وَيَنْقَادَ لَهَا، {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} أَيْ: أَدْبَرَ إِدْبَارَ مُسْتَكْبِرٍ عَنْهَا، رَادٍّ لَهَا، وَلَمْ تَدْخُلْ قَلْبَهُ وَلَا أَثَّرَتْ فِيهِ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} بَلْ {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أَيْ: صَمَمًا لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْأَصْوَاتُ؛ فَهَذَا لَا حِيلَةَ فِي هِدَايَتِهِ.

{فَبَشِّرْهُ} بِشَارَةً تُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ الْحُزْنَ وَالْغَمَّ؛ وَفِي بَشَرَتِهِ السُّوءَ وَالظُّلْمَةَ وَالْغَبَرَةَ، {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} مُؤْلِمٍ لِقَلْبِهِ؛ وَلِبَدَنِهِ؛ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ؛ وَلَا يُدْرَى بِعَظِيمِ أَمْرِهِ، فَهَذِهِ بِشَارَةُ أَهْلِ الشَّرِّ، فَلَا نِعْمَتِ الْبِشَارَةُ. وَأَمَّا بِشَارَةُ..

– الشيخ : أعوذ بالله، "بَشِّرْ"، الأصل أنَّ التبشيرَ فيما يَسُرُّ، هذا هو الأصل، لكن هنا يقولُها أهلَ العلمِ والبلاغةِ يقولونُ: هذا تَهَكُّمٌ، "بَشِّرْ"، هذا يسمع {بَشِّرْهُ} يتطلَّعُ إلى أنه: بَشِّرْهُ بالكرامةِ؟ بَشِّرْهُ بالجنَّةِ؟ فهذا فيه تَهَكُّمٌ بالـمـُبْطِل، أسأل الله العافية.

 

– القارئ : وَأَمَّا بِشَارَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} جَمَعُوا بَيْنَ عِبَادَةِ الْبَاطِنِ بِالْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرِ بِالْإِسْلَامِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

{لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} بِشَارَةٌ لَهُمْ بِمَا قَدَّمُوهُ، وَقِرًى لَهُمْ بِمَا أَسْلَفُوهُ.

{خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، نَعِيمِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ، وَالْبَدَنِ.

{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْلَفَ، وَلَا يُغَيَّرَ، وَلَا يَتَبَدَّلَ.

{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كَامِلُ الْعِزَّةِ، كَامِلُ الْحِكْمَةِ، مِنْ عِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَّقَ مَنْ وَفَّقَ، وَخَذَلَ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ عِلِمُهُ فِيهِمْ وَحِكْمَتُهُ.

– الشيخ : انتهى؟

– القارئ : نعم، {خلقَ السمواتِ والأرضَ}.