الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة لقمان/(5) من قوله تعالى {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات} الآية 20 إلى قوله تعالى {نمتعهم قليلا} الآية 24

(5) من قوله تعالى {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات} الآية 20 إلى قوله تعالى {نمتعهم قليلا} الآية 24

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة لقمان

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:20-24]

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : عفا اللهُ عنكَ

– الشيخ : يذكِّرُ سبحانَهُ وتعالى العبادَ بنعمِه العظيمةِ الَّتي لا تُحصَى، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ومنها تسخيرُ هذه المخلوقاتِ للعبادِ سخَّرها، و{سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} جميعاً منه، تسخيرٌ وتيسيرٌ، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هذا شاملٌ كلَّ ما يكونُ سبباً، كلُّ ما يكونُ سبباً في إيصالِ المنافعِ للعبادِ، أو سببٌ لدفعِ المضارِّ عنهم، سخَّرَ البحرَ، سخَّرَ الرياحَ، سخَّرَ السحابَ، سخَّرَ النجومَ، وهو الَّذي سخَّرَ لكم النجومَ، وهو الَّذي سخَّرَ، وسخَّرَ الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:32-33]

لا بقدرةِ العبادِ، العبادُ لا يقدرون على شيءٍ من ذلكَ، فاللهُ خلقَ هذه المخلوقاتِ وسخَّرَها للعبادِ، لمصالحِ العباد، سخَّرَ لكم الأنهارَ، سخَّرَ لكم الشمسَ والقمرَ، وأسبغَ على العبادِ أنواعَ النعمِ، وكلُّ هذا داخلٌ في الابتلاءِ، اللهُ تعالى سخَّرَ هذه المخلوقاتِ وأسبغَ النعمَ للحكمةِ العامَّةِ، الحكمةُ العامَّةُ في وجودِ هذا الوجودِ هو الابتلاءُ؛ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} نعمٌ ظاهرةٌ مشاهَدةٌ، ونعمٌ خفيَّةٌ، نعمٌ في كيانِك أيُّها الإنسانُ، في كيانِك وتركيبِك وجسمِك، لا إله إلَّا الله، السمعُ البصرُ العقلُ، فاللهُ يُذكِّرُ بهذه النعمةِ تارةً إجمالاً وتارةً يُفصِّلُ {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

ثمَّ يذكرُ تعالى صنفاً من الناسِ لم يشكروا نعمَ اللهِ ولم يتَّبعوا هدى اللهِ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} يجادلُ في اللهِ، يجادلُ في ربوبيَّتِه ويجادلُ في إلهيَّتِه، وهذا فريقُ طوائفِ الكفرِ، والكفَّارُ يعني منهم أئمةٌ، أئمةُ كفرٍ دعاةٌ، وقادةُ شرٍّ وطغيانٍ وكفرانٍ، ومنهم أتباعٌ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} هذا حالُ أكثرِ الأممِ الكافرةِ، حجَّتُهم أنَّهم يتَّبعون آباءَهم، قالوا: وجدْنا آباءَنا، {قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] وقالَ: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا … فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]

قالَ اللهُ ردَّاً عليهم يعني تتَّبعون آباءَكم ولو كانَ الشيطانُ يدعوهم على عذابِ السعيرِ؟ تتَّبعونهم في طريقِ جهنَّمَ؟ {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ} قالَ اللهُ: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ} يعني يدعوا آباءَهم، {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} المتَّبعُ لغيرِه يجبُ أنْ ينظرَ إلى أينَ ينتهي؟ إلى أين يذهبُ به، إلى أينَ يذهبُ به متبوعُه.

ثمَّ ذكرَ اللهُ الصنفَ المقابلَ، فالفريقُ الأوَّلُ هم فريقُ الكفَّارِ المشركين المكذِّبين المعاندين المجادلين، {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} يسلمُ وجهَه إلى اللهِ بالإقبالِ على اللهِ والاستقامةِ على دينِه وهو محسنٌ في ذلك متَّبعٌ لما جاءَت به الرسلُ، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} هذه هي العروةُ، العروةُ الَّتي مَن تمسَّكَ بها نجا، عروةٌ، مثلُ العروةِ الَّتي يتمسَّكُ بها من يخشى السقوطَ في هوَّةٍ، إذا تمسَّكَ بعروةٍ وُثقى شديدةٍ لا تنفصمُ، كما في الآيةِ الأخرى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور}

{وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} وفي هذا تسليةٌ للرسولِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، لا تحزنْ، {وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مرجعُهم إلى اللهِ فينبئُهم بما كانوا يعملون ويجزيهم عليه، ويجزيهم على أعمالهم، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولكنَّ اللهَ يملي، يملي للكافرين، يملي لهم ويستدرجُهم في هذه الدنيا، نمتِّعُهم قليلاً، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يُمتّعون في هذه الدنيا متاع ثمَّ مصيرُهم إلى جهنَّمَ، كما قالَ تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] وهذا المعنى في القرآِن كثيرٌ، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]

فهذه معانٍ يعني تُثنَى في القرآنِ وتُذكَرُ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ بألفاظٍ وأساليبَ مختلفةٍ متنوِّعةٍ، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} عذابُ جهنَّمَ عذابٌ شديدٌ أليمٌ عظيمٌ، أعوذُ باللهِ من عذابِ جهنَّمَ، نعم يا محمَّد.

 

"تفسيرُ السَّعديِّ"

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} الآيات.

يمتنُّ تعالى على عبادِهِ بنعمِهِ، ويدعوهم إلى شكرِها ورؤيتِها؛ وعدمِ الغفلةِ عنها فقالَ: {أَلَمْ تَرَوْا} أي: تشاهدوا وتبصروا بأبصارِكم وقلوبِكم، {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} مِن الشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ، كلُّها مسخَّراتٌ لنفعِ العبادِ.

{وَمَا فِي الأرْضِ} مِن الحيواناتِ والأشجارِ والزُّروعِ، والأنهارِ والمعادنِ ونحوِها كما قالَ تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا}

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} أي: عمَّكم وغمرَكم بوافرِ نعمِهِ الظَّاهرةِ والباطنةِ الَّتي نعلمُ بها؛ والَّتي تخفى علينا، نعمُ الدُّنيا، ونعمُ الدِّينِ، حصولُ المنافعِ، ودفعُ المضارِّ، فوظيفتُكم أنْ تقوموا بشكرِ هذهِ النِّعمِ؛ بمحبَّةِ المنعمِ والخضوعِ لهُ؛ وصرفِها في الاستعانةِ على طاعتِهِ، وألَّا يُستعانَ بشيءٍ منها على معصيتِهِ.

{و} لكنْ معَ توالي هذهِ النِّعمِ؛ فإنَّ {مِنَ النَّاسِ مَنْ} لم يشكرْها؛ بل كفرَها؛ وكفرَ بمن أنعمَ بها؛ وجحدَ الحقَّ الَّذي أنزلَ بهِ كتبَهُ

– الشيخ : وهذا حالُ الناسِ أمامَ النعمِ ينقسمون فريقين، وأعظمُ النعمِ العامَّةِ إرسالُ الرسلِ… كلَّما جاءَ أمَّةً الرسولُ فصاروا فريقين مؤمنٌ وكافرٌ، منهم من يؤمنُ به ويتَّبعُه ويطيعُه، ومنهم من يكذِّبُه وهم الأكثرون، وهم الأكثرون، وهكذا سائرُ النعمِ، الناسُ فيها فريقان شاكرٌ وكافرٌ، كما جاءَ في الحديثِ القدسيِّ، حديثُ يومَ صلَّى الرسولُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- بالحديبيةِ صلاة الفجر على إثرِ مطرٍ، على إثرِ مطرٍ، على إثرِ سماءٍ كانتْ من الليلِ فالتفتَ إلى الصحابةِ وقالَ: تدرونَ ماذا قالَ ربُّكم؟ قالُوا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: أصبحَ مِن عبادي مؤمنٌ وكافرٌ، مؤمنٌ بي وكافرٌ، فمن قالَ: مُطِرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِهِ فذلكَ مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكبِ، ومَن قالَ: مُطِرْنا بنوءِ كذا ونوءِ كذا فذاكَ كافرٌ، فأصبحُوا فريقينِ.

وتدبَّرْ هذا المعنى في حالِ الناسِ هكذا، فمِن الناسِ من يستعينُ بنعمِ اللهِ على معاصيه، ويجحدُ وينسبُ هذه النعمَ إلى أسبابِها، غافلاً عن الَّذي خلقَها وخلقَ أسبابَها، وأزالَ الموانعَ عنها.

 

– القارئ : وجحدَ الحقَّ الَّذي أنزلَ بهِ كتبَهُ وأرسلَ بهِ رسلَهُ، فجعلَ {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} أي: يجادلُ عن الباطلِ؛ ليدحضَ بهِ الحقَّ؛ ويدفعَ بهِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ مِن الأمرِ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، وهذا المجادلُ يجادلُ بغيرِ علمٍ وعلى غيرِ بصيرةٍ، فليسَ جدالُهُ عن علمٍ، فيُترَكُ وشأنَهُ، ويُسمَحُ لهُ في الكلامِ {وَلا هُدًى} يقتدي بهِ بالمهتدينَ {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي: نيِّرٍ مبينٍ للحقِّ فلا معقولٌ ولا منقولٌ ولا اقتداءٌ بالمهتدينَ، وإنَّما جدالُهُ في اللهِ مبنيٌّ على تقليدِ آباءٍ غيرِ مهتدينَ، بل ضالِّينَ مُضلِّينَ.

ولهذا قالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ} على أيدي رسلِهِ، فإنَّهُ الحقُّ، وبُيِّنَتْ لهم أدلَّتُهُ الظَّاهرةُ {قَالُوا} معارضينَ ذلكَ: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} فلا نتركُ ما وجدْنا عليهِ آباءَنا لقولِ أحدٍ كائناً مَن كانَ.

قالَ تعالى في الرَّدِّ عليهم وعلى آبائِهم: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي: فاستجابَ لهُ آباؤُهم، ومشَوا خلفَهُ، وصارُوا مِن تلاميذِ الشَّياطينِ، واستولَتْ عليهم الحيرةُ.

فهل هذا موجبٌ لاتِّباعِهم لهم ومشيِهم على طريقتِهم، أم ذلكَ يرهبُهم مِن سلوكِ سبيلِهم، وينادي على ضلالِهم، وضلالِ مَن تبعَهم؟

وليسَ دعوةُ الشَّيطانِ لآبائِهم ولهم، محبَّةً لهم ومودَّةً، وإنَّما ذلكَ عداوةٌ لهم ومكرٌ لهم، وبالحقيقةِ أتباعُهُ مِن أعدائِهِ، الَّذينَ تمكَّنَ منهم وظفرَ بهم، وقرَّتْ عينُهُ باستحقاقِهم عذابَ السَّعيرِ، بقبولِ دعوتِهِ.

قالَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآيات.

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} أي: يخضعُ لهُ وينقادُ لهُ بفعل الشَّرائعِ مخلصاً لهُ دينَهُ. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} في ذلكَ الإسلامِ بأنْ كانَ عملُهُ مشروعاً، قد اتَّبعَ فيهِ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-.

أو: ومَن يسلِمُ وجهَهُ إلى اللهِ، بفعلِ جميعِ العباداتِ، وهوَ محسنٌ فيها، بأنْ يعبدَ اللهَ كأنَّهُ يراهُ، فإنْ لم يكنْ يراهُ، فإنَّهُ يراهُ.

أو ومَن يسلمُ وجهَهُ إلى اللهِ، بالقيامِ بحقوقِهِ، وهوَ محسنٌ إلى عبادِ اللهِ، قائمٌ بحقوقِهم.

والمعاني متلازمةٌ، لا فرقَ بينَها إلَّا مِن جهةِ اختلافِ موردِ اللَّفظتينِ، وإلَّا فكُّلها متَّفقةٌ على القيامِ بجميعِ شرائعِ الدِّينِ، على وجهٍ تُقبَلُ بهِ وتُكمَلُ، فمَن فعلَ ذلكَ فقد {اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي: بالعروةِ الَّتي مَن تمسَّكَ بها، توثَّقَ ونجا، وسلمَ مِن الهلاكِ، وفازَ بكلِّ خيرٍ.

ومَن لم يسلمْ وجهَهُ للهِ، أو لم يحسنْ لم يستمسكْ بالعروةِ الوثقى، وإذا لم يستمسكْ بالعروةِ الوثقى لم يكنْ ثَمَّ إلَّا الهلاكُ والبوارُ. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} أي: رجوعُها ومنتهاها، فيحكمُ في عبادِهِ، ويجازيهم بما آلَتْ إليهِ أعمالُهم، ووصلَتْ إليهِ عواقبُهم، فليستعدُّوا لذلكَ الأمرِ.

{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} لأنَّكَ أدَّيْتَ ما عليكَ، مِن الدَّعوةِ والبلاغِ، فإذا لم يهتدِ، فقد وجبَ أجرُكَ على اللهِ، ولم يبقَ للحزنِ موضعٌ على عدمِ اهتدائِهِ؛ لأنَّهُ لو كانَ فيهِ خيرٌ، لهداهُ اللهُ.

ولا تحزنْ أيضاً، على كونِهم تجرَّؤُوا عليكَ بالعداوةِ، ونابذُوكَ المحاربةَ، واستمرُّوا على غيِّهم وكفرِهم، ولا تتحرَّقْ عليهم، بسببِ أنَّهم ما بُودِرُوا بالعذابِ.

فإنَّ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} مِن كفرِهم وعداوتِهم، وسعيِهم في إطفاءِ نورِ اللهِ وأذى رسلِهِ.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الَّتي ما نطقَ بها النَّاطقونَ، فكيفَ بما ظهرَ، وكانَ شهادةً؟

{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} في الدُّنيا؛ ليزدادَ إثمُهم، ويتوفَّرَ عذابُهم، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي: نُلجؤُهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: انتهى في عِظمِهِ وكبرِهِ، وفظاعتِهِ، وألمِهِ، وشدَّتِهِ

– الشيخ : أعوذُ باللهِ مِن النارِ

– القارئ : قالَ اللهُ

– الشيخ : إلى هنا.