الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة السجدة/(2) تتمة قوله تعالى {يدبر الأمر من السماء} الآية 5 إلى قوله تعالى {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} الآية 14

(2) تتمة قوله تعالى {يدبر الأمر من السماء} الآية 5 إلى قوله تعالى {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} الآية 14

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة السَّجدة

الدَّرس: الثَّاني

***     ***     ***

 

– القارئ : عفا اللهُ عنكَ، أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة:5-14]

– الشيخ : إلى هنا

– القارئ : عفا اللهُ عنكَ

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، سبحانَ اللهِ العظيم، سبحان الله، يدبِّرُ الأمر سبحانه وتعالى، يدبِّرُ أمرَ هذا الكونِ بالتدبيرِ القدريِّ كما سبقَ به علمُه وسبقَ به الكتابُ، وكذلك التدبيرُ الشرعيُّ ينزلُ الوحيَّ على من يشاءُ من رسلِه {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} كثيرًا ما يثني اللهُ على نفسِه، ويُعرِّفُ عبادَه بإحاطةِ علمِه بكلِّ شيءٍ، بإحاطةِ علمِه بكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فدلَّتْ على إثباتِ العلمِ والعزَّةِ والرحمة.

{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} كثيرًا ما يقرنُ اللهُ بينَ هذين الاسمين العزَّةُ والرحمةُ، فهو القويُّ الَّذي لا يغلبُه غالبٌ ولا ينالُه أحدٌ بضرٍّ سبحانه وتعالى، وهو الرحيمُ بالعبادِ وخصَّ المؤمنين: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]

أحسنَ خلقَ كلِّ ما خلقَ سبحانه من سائر المخلوقاتِ العلويَّة والسفليَّة، ومن الإنسانِ والحيوانِ، ومن مخلوقاتِ هذا الإنسانِ الَّذي جعلَ اللهُ له شأنًا في هذا الوجودِ، جعلَ له شأناً في هذا الوجود وهو أنْ جعلَه مُتعلَّقًا للابتلاءِ بالخيرِ والشرِّ، بدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ، أوَّلُ إنسانٍ وهو آدمُ خلقَه من ترابٍ من طينٍ من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ كما جاء في الآياتِ هذه، بدايةُ الإنسانِ وهذا أصلُه {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [النجم:32] {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17] {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] بدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ، ثمَّ جعلَ نسلَه من سلالةِ نسلِ آدمَ ذريته يخلقون من ذلك الماءِ المني، من ماءٍ مهينٍ {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:20-23] {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:17-20]

يعني المعنى الواحدُ يأتي في القرآن ويُثنَّى مرَّاتٍ وكرَّاتٍ؛ لتقريره في النفوسِ وللاحتجاج، هذا فيه احتجاجٌ على الكفَّار والمشركين الَّذين يعبدون معَ اللهِ غيرَه، يعبدون معَ اللهِ غيرَه، هو الَّذي خلقَ هذا الوجودَ، وهو الَّذي خلقَ الإنسانَ الأوَّلَ، وخلقَ كلَّ فردٍ من الأفراد ممَّا يعلمُ الناسُ من ماءٍ مهينٍ، ثمَّ جعلَ نسلَه من سلالةٍ من ماءٍ مهينٍ، ثمَّ سواهُ ونفخَ فيه من روحِه {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} المشركونَ يقولون: إذا ذهبتْ أبدانُنا في الأرضِ وتفتَّتَ الأجسامُ وصاروا ترابًا نعودُ خلقًا جديدًا.

{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} فدلَّت الآيةُ، اللهُ تعالى ينكرُ على المشركين استبعادُهم البعثَ مثلما قالَ اللهُ: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} هذه هي القيامةُ الأولى، القيامةُ الصغرى بالموتِ ثمَّ يصيرُ الناسُ إلى القبورِ إلى يومِ النشورِ {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}

ثمَّ يذكرُ تعالى حالَ المجرمين يومَ القيامةِ عندما يقفون عندَ اللهِ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} يتمنَّون الرجعةَ، يتمنَّون الرجعةَ عندَ الموتِ، ويتمنَّون الرجعةَ يومَ القيامةِ، ويتمنون الرجعةَ وهم في النارِ: {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} إلى آخرِ الآيات، نعم يا محمَّد.

 

"تفسيرُ السَّعديِّ"

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِهِ تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} الآيات

{يُدَبِّرُ الأمْرَ} القدريَّ والأمرَ الشَّرعيَّ، الجميعُ هوَ المتفرِّدُ بتدبيرِهِ، نازلةُ تلكَ التَّدابيرِ مِن عندِ المليكِ القديرِ {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ} فَيُسْعِدُ بها ويُشْقِي، ويُغْنِي

– الشيخ : كما قالَ تعالى يتنزَّلُ الأمرُ بينهنَّ، بينَ السماءِ والأرضِ.

– القارئ : ويُعِزُّ، ويُذِلُّ، ويُكرِمُ، ويُهِينُ، ويرفعُ أقوامًا، ويضعُ آخرينَ، ويُنزلُ الأرزاقَ.

{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي: الأمرُ ينزلُ مِن عندِهِ، ويعرجُ إليهِ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} وهو يعرجُ إليهِ، ويصلُهُ في لحظةٍ.

{ذَلِكَ} الَّذي خلقَ تلكَ المخلوقاتِ العظيمةَ، الَّذي استوى على العرشِ العظيمِ، وانفردَ بالتَّدابيرِ في المملكةِ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فبسعةِ علمِهِ، وكمالِ عزَّتِهِ، وعمومِ رحمتِهِ، أوجدَها، وأودعَ فيها، مِن المنافعِ ما أودعَ، ولم يعسرْ عليهِ تدبيرُها.

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، سبحان الله وبحمدِه، لا إله إلَّا الله، كلُّ هذا مِن تعريفِ اللهِ لعبادِه، اللهُ يُعرِّف عبادَه، لولا ما أنزلَه في كتبِه وبلَّغَتْه رسلُه ما عرفَتْه العبادُ هذه المعرفةَ المفصَّلةَ

– القارئ : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي: كلُّ مخلوقٍ خلقَهُ اللَّهُ، فإنَّ اللّهَ أحسنَ خلقَهُ، وخلقَهُ خلقًا يليقُ بهِ، ويوافقُهُ، فهذا عامٌّ.

ثمَّ خصَّ الآدميَّ؛ لشرفِهِ وفضلِهِ فقالَ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ} وذلكَ بخلقِ آدمَ -عليهِ السَّلامُ- أبي البشرِ.

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} أي: ذريةُ آدمَ ناشئةٌ {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} وهوَ النُّطفةُ المُستقذَرَةُ الضَّعيفةُ.

{ثُمَّ سَوَّاهُ} بلحمِهِ، وأعضائِهِ، وأعصابِهِ، وعروقِهِ، وأحسنَ خِلْقتَهُ، ووضعَ كلَّ عضوٍ منهُ، بالمحلِّ الَّذي لا يليقُ بهِ غيرُهُ، {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} بأنْ أرسلَ إليهِ الملكَ، فينفخُ فيهِ الرُّوحَ، فيعودُ بإذنِ اللّهِ، حيواناً، بعدَ أنْ كانَ جمادًا.

{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ} أي: ما زالَ يُعطيكم مِن المنافعِ شيئًا فشيئاً، حتَّى أعطاكم السَّمعَ والأبصارَ..

– الشيخ : الشيخُ -رحمه اللهُ- على أنَّ قولَه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أنَّ المقصودَ خلقُ أفرادِ الناسِ، خلقُهم في الأرحامِ، والقولُ الآخرُ أنَّ المرادَ بقولِه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} أنَّ المرادَ آدمُ، والآيةُ محتملةٌ وكأنَّها عندي أظهرُ في آدمَ، بدأَه من طينٍ ثمَّ سوَّاه ونفخَ فيه من روحِه، وقولُه: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ} من نوعِ الكلامِ المعترضِ لأنَّ قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} متفقٌ تمامًا معَ الآياتِ الواردةِ في شأنِ آدمَ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} نعم واللهُ أعلمُ.

 

– القارئ : {وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} الَّذي خلقَكم وصوَّرَكم. قالَ اللهُ تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآياتُ. أي: قالَ المكذِّبونَ بالبعثِ على وجهِ الاستبعادِ: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ} أي: بَلِينَا وتمزَّقْنا، وتفرَّقْنا في المواضعِ الَّتي لا تُعْلَمُ {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: لمبعوثونَ بعثًا جديدًا بزعمِهم أنَّ هذا مِن أبعدِ الأشياءِ، وذلكَ بقياسِهم قدرةَ الخالقِ، بقُدرِهم. وكلامُهم هذا، ليسَ لطلبِ الحقيقةِ، وإنَّما هوَ ظلمٌ، وعنادٌ، وكفرٌ بلقاءِ ربِّهم وجحدٌ، ولهذا قالَ: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُون} فكلامُهم عُلِمَ مصدرُه وغايتُه، وإلَّا فلو كانَ قصدُهم بيانُ الحقِّ، لَبَيَّنَ لهم مِن الأدلَّةِ القاطعةِ على ذلكَ، ما يجعلُه مُشاهَداً للبصيرةِ، بمنزلةِ الشَّمسِ للبصرِ.

ويكفيهم، أنَّهم عندَهم علمٌ أنَّهم قد ابتُدِئُوا مِن العدمِ، فالإعادةُ أسهلُ مِن الابتداءِ، وكذلكَ الأرضُ الميِّتةُ، ينزلُ اللّهُ عليها المطرَ، فتحيا بعدَ موتِها، وينبتُ بهِ متفرِّقُ بذورِها.

{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي: جعلَهُ اللّهُ وكيلًا على قبضِ الأرواحِ، ولهُ أعوانٌ. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} فيُجازيكم بأعمالِكم، وقد أنكرْتُم البعثَ، فانظروا ماذا يفعلُ اللّهُ بكم.

قالَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} الآياتُ.

لمَّا ذكرَ تعالى رجوعَهم إليهِ يومَ القيامةِ ذكرَ حالَهم في مقامِهم بينَ [يديهِ] فقالَ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ} الَّذينَ أصرُّوا على الذُّنوبِ العظيمةِ، {نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} خاشعينَ خاضعينَ أذلَّاءَ، مقرِّينَ بجرمِهم، سائلينَ الرَّجعةَ قائلينَ: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي: بأنَّ لنا الأمرَ..

– طالب: بانَ

– القارئ : عندي أي بأنَّ ألف بهمزة

– الشيخ : ولو كانَ. سمعْنا وأبصرْنا بأنَّ لنا الأمرَ لا، سمعْنا وأبصرْنا أي: بانَ لنا الأمرُ، بانَ لنا الأمرُ

– القارئ : أي: بانَ لنا الأمرُ، ورأيْناهُ عيانًا، فصارَ عينَ يقينٍ.

{فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: صارَ عندَنا الآنَ، يقينٌ بما [كنَّا] نُكذِّبُ بهِ، أي: لرأيْتَ أمراً فظيعًا، وحالًا مزعجةً، وأقوامًا خاسرينَ

– الشيخ : نسألُ اللهَ العافيةَ، ونعوذُ باللهِ من هذه الأمورِ

– القارئ : وسؤالاً غيرَ مجابٍ؛ لأنَّهُ قد مضى وقتُ الإمهالِ. وكلُّ هذا بقضاءِ اللّهِ وقدرِهِ، حيثُ خلَّى بينَهم وبينَ الكفرِ والمعاصي، فلهذا قالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي: لهديْنا النَّاسَ كلَّهم، وجمعْناهم على الهدى، فمشيئتُنا صالحةٌ لذلكَ، ولكنَّ الحكمةَ تأبى أنْ يكونوا كلَّهم على الهدى، ولهذا قالَ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} أي: وجبَ، وثبتَ ثبوتًا لا تغيُّرَ فيهِ.

{لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فهذا الوعدُ، لا بدَّ منهُ، ولا محيدَ عنهُ، فلا بدَّ مِن تقريرِ أسبابِهِ مِن الكفرِ والمعاصي.

{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي: يُقالُ للمجرمينَ، الَّذين ملكَهم الذُّلُّ، وسألُوا الرَّجعةَ إلى الدُّنيا، ليستدركوا ما فاتَهم، قد فاتَ وقتُ الرُّجوعِ ولم يبقَ إلَّا العذابَ، فذوقوا العذابَ الأليمَ، بما نسيْتُم لقاءَ يومِكم هذا، وهذا النِّسيانُ نسيانُ تركٍ، أي: بما أعرضْتُم عنهُ، وتركْتُم العملَ لهُ، وكأنَّكم غيرُ قادمينَ عليهِ، ولا مُلاقِيهِ.

{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: تركْناكم بالعذابِ، جزاءً مِن جنسِ عملِكم، فكما نَسِيْتُمْ نُسِيْتُمْ، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} أي: العذابَ غيرَ المُنقطِعِ، فإنَّ العذابَ إذا كانَ لهُ أجلٌ وغايةٌ، كانَ فيهِ بعضُ التَّنفيسِ والتَّخفيفِ، وأمَّا عذابُ جهنَّمَ

– الشيخ : أعوذُ باللهِ، أعوذُ باللهِ من عذابِ جهنَّم، نعوذ بالله، نسألُ اللهَ العافيةَ، ينبغي للمسلمِ العاقلِ أن يستغيثَ باللهِ من النارِ كثيرًا؛ ولهذا يذكرُ اللهُ عن عباده وأوليائه هذا المعنى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] نعم أعوذُ بالله.

 

– القارئ : وأمَّا عذابُ جهنَّمَ -أعاذَنا اللّهُ منهُ- فليسَ فيهِ رَوْحُ راحةٍ، ولا انقطاعٌ لعذابِهم فيها. {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مِن الكفرِ والفسوقِ والمعاصي.

– الشيخ : انتهى؟

– القارئ : {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ}

– الشيخ : نعم بعدَه

– طالب: قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} هل يحرمُ وصفُ الإنسانِ بالقبحِ، ولأنَّ اللهَ خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويمٍ؟

– الشيخ : {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] الألوانُ والألسنُ مختلفةٌ، والحسنُ -فيما يظهرُ واللهُ أعلمُ- ليسَ المرادُ به الجمالَ جمالَ الصورةِ، بل كلُّ شيءٍ بحسبِه حتَّى الَّذي نقولُ عنه: إنَّ هذا دميمٌ، هو من إحسانِ الخلقِ باعتبارِ أنَّ اللهَ تعالى له حكمةٌ في خلقِ هذا على هذه الصورةِ، خلقَ هذا جميلاً، وهذا دميمًا، وهذا طويلاً وهذا قصيرًا، فهذا كلُّه داخلٌ في إحسانِ الخلقِ. {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} يعني: ليسَ المرادُ جعلَه جميلًا، بل هو يعني مفهومُ الإحسانِ هو خلقُ الشيءِ بموجبِ الحكمةِ، واللهُ أعلمُ.