الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة السجدة/(3) من قوله تعالى {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا} الآية 15 إلى قوله تعالى {ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه ثم أعرض عنها} الآية 22
file_downloadsharefile-pdf-ofile-word-o

(3) من قوله تعالى {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا} الآية 15 إلى قوله تعالى {ومن أظلم ممن ذكر بايات ربه ثم أعرض عنها} الآية 22

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة السَّجدة

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة:15-22]

– الشيخ : اللهم صلّ على محمد، أستغفر الله، لا إله إلا الله، {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا}، الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بآياتِ الله، استجابُوا، وأنابُوا، وصلَّوا، وأدَّوا ما فرضَ الله عليهم، هؤلاءِ هم المؤمنونَ بآياتِ الله، {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا}، اقرأ الآية.

 

– القارئ : {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا}

– الشيخ : {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، فوصفَهم أولاً بالسجودِ والتسبيحِ، والسجودُ يُشرَعُ فيه التسبيح، {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}، فالكفَّار {إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48]، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21]

ويُشرَع في هذا الموضِع السجودُ؛ لثبوتِه عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن ليسَ المقصودُ من معنى الآية هو هذه السجدة، هذا خَبَرٌ عن حالِ المؤمنين الذين يسجدونَ ويسبِّحون لله، وأعظم ذلك أداءُ ما فرضَه الله عليهم، هذا هو السجودُ المفروض، أمَّا سجود التلاوة فهو تطوُّعٌ، مَنْ شاءَ سَجَدَ -وهو سُنَّةٌ- ومَنْ شاءَ لمْ يسجُدْ، لكن السجودُ الفرضُ هو السجودُ في الصلواتِ الخمسِ.

والكفارُ لا يسجدُون، {إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}، {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، لا يستجيبونَ، فهم مُسْتَكْبِرُونَ، والمؤمنونَ متواضعونَ لا يستكبرونَ، فالسجودُ فيه تواضعٌ، السجودُ تواضعٌ لله، وخضوعٌ بالقلبِ والبدنِ، خضوعٌ وانقيادٌ بالقلبِ والبدنِ.

ومن صفاتهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، {الْمَضَاجِعِ}: المراقد، فهم يَجْفُونَ مَضاجِعَهم، {جُنُوبُهُمْ} تجفُوا وتميلُ {عَنِ الْمَضَاجِعِ} قياماً، وهذا يَدخلُ فيه قيامُ الليل، ويَدخلُ فيه القيامُ لصلاة الفجرِ، المؤمنونَ يَتركون مضاجِعَهم في صلاة الفجر ويقومونَ ويستجيبونَ، والـمَخذولون -نعوذ بالله- الكفارُ ومن أشبَهَهُم لا يفارقون مضاجِعَهم.

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يتركون المراقِدَ ويجفُونَ المضاجِعَ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يدعونَه، يسألونَه الجنَّة ويستجيرونَ به من النَّارِ، ويسألونَه المطالبَ العاليةَ من العلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ، وصلاحِ القلوبِ والأعمالِ وصلاحِ الذُّريَّةِ.

{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وكثيراً ما يَقرِنُ اللهُ بين الصلاةِ والإنفاقِ، وهذا منها، فلمَّا أثنى عليهمْ بالقيامِ للصلاةِ أثنى عليهم بالإنفاقِ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

قال الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، يعني: أنَّ اللهَ ادَّخَرَ لهم ثواباً لا يعلمُ كُنْهَهُ إلا الله، كما في الحديث: (قال الله: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)، يعني: ثوابُ الآخرةِ وما في الجنةِ من النَّعيم لا يَخطرُ على البالِ، أمرٌ عظيمٌ، وأمرٌ فوقَ ما يخطرُ بالبالِ، أو يدورُ في الخيالِ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

ثم يذكرُ الله التباينَ بين الفريقينِ، بين المؤمنينَ العاملينَ الصَّالحاتِ، والفاسقينَ الكافرينَ، هما فريقانِ متناقضانِ ضِدَّانِ في أعمالهِما وأحوالهِما ومآلهِما، فهلْ يستويانِ؟!! {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}، هذا هو الجوابُ، {لَا يَسْتَوُونَ}، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى}، هذا هو البرهانُ على أنَّهما لا يستويان، أنهم لَا يَسْتَوُونَ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، فَسَّرَ العذابَ الأدنى بما يحصلُ من الكفارِ من عذابٍ في الدنيا وعذابٍ في القبر، هذا عذابٌ أدنى، والعذابُ الآخَرُ العظيمُ هو عذابُ النار، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، وقولُه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} تُرَجِّحُ أنَّ المرادَ بالعذابِ الأدنى هو العذابُ الـمُعَجَّلُ في الدنيا.

 

(تفسيرُ السَّعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديِّ -رحمه الله تعالى-:

– الشيخ : رحمه الله وجزاه الله عنا وعن الإسلام.

– القارئ : في تفسير قول الله -تعالى-: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} الآيات

لَمَّا ذَكَرَ الْكَافِرِينَ بِآيَاتِهِ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، ذَكَّرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَوَصَفَهُمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أَيْ: إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، مَنْ يُوجَدُ مِنْهُ شَوَاهِدُ الْإِيمَانِ.

– الشيخ : أي، يعني: المؤمنونَ حقاً همُ الذين تُوجدُ منهم شواهدُ الإيمان، وتظهرُ منهم الدلائلُ على صدقِ إيمانِهم.

– القارئ : وَهُمُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} فَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَأَتَتْهُمُ النَّصَائِحُ عَلَى أَيْدِي رُسُلِ اللَّهِ، وَدُعُوا إِلَى التَّذَكُّرِ، سَمِعُوهَا فَقَبِلُوهَا، وَانْقَادُوا، وَ{خَرُّوا سُجَّدًا} أَيْ: خَاضِعِينَ لَهَا، خُضُوعَ ذِكْرٍ لِلَّهِ، وَفَرَحٍ بِمَعْرِفَتِهِ.

{وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} لَا بِقُلُوبِهِمْ، وَلَا بِأَبْدَانِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الِانْقِيَادِ لَهَا، بَلْ مُتَوَاضِعُونَ لَهَا

– الشيخ : الكفارُ مستكبرونَ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42-43] والكفارُ مخاطَبون -على الصحيح- مخاطبون بفروعِ الشريعةِ، بمعنى أنهم يعاقَبُونَ على تركِها، وإن كانتْ لو فعلوهَا ما صحَّتْ منهم؛ لأنَّ شرطَها الإيمانُ، شرطُ الأعمالِ الصالحة الإيمان، فمنْ لمْ يؤمنْ لا تصحُّ منه الأعمالُ.

 

– القارئ : {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} لَا بِقُلُوبِهِمْ، وَلَا بِأَبْدَانِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الِانْقِيَادِ لَهَا، بَلْ مُتَوَاضِعُونَ لَهَا، قَدْ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ، وَقَابَلُوهَا بِالِانْشِرَاحِ، وَتَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، وَاهْتَدَوْا بِهَا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} أَيْ: تَرْتَفِعُ جُنُوبُهُمْ، وَتَنْزَعِجُ عَنْ مَضَاجِعِهَا اللَّذِيذَةِ، إِلَى مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ، وَمُنَاجَاةُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلِهَذَا قَالَ: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أَيْ: فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَدَفْعِ مَضَارِّهِمَا.

{خَوْفًا وَطَمَعًا} أَيْ: جَامِعِينَ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، {خَوْفًا} أَنْ تُرَدَّ أَعْمَالُهُمْ، {وَطَمَعًا} فِي قَبُولِهَا، {خَوْفًا} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، {وَطَمَعًا} فِي ثَوَابِهِ.

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} مِنَ الرِّزْقِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا {يُنْفِقُونَ} وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ النَّفَقَةِ، وَلَا الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ؛ لِيَدُلَّ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ، النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ، كَالزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ، وَالنَّفَقَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالنَّفَقَةِ وَالْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ، خَيْرٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ وَافَقَ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا، قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَلَكِنَّ الْأَجْرَ يَتَفَاوَتُ، بِتَفَاوُتِ النَّفْعِ، فَهَذَا عَمَلُهُمْ.

وَأَمَّا جَزَاؤُهُمْ، فَقَالَ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ نُفُوسِ الْخُلُقِ؛ لِكَوْنِهَا نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَيْ: فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ، وَالنَّعِيمِ الْغَزِيرِ..

– الشيخ : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

– القارئ : وَالنَّعِيمِ الْغَزِيرِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَاللَّذَّةِ وَالْحُبُورِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ، مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)، فَكَمَا صَلَّوْا فِي اللَّيْلِ وَدَعَوْا وَأَخْفَوُا الْعَمَلَ، جَازَاهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ، فَأَخْفَى أَجْرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} الآيات، يُنَبِّهُ -تَعَالَى- الْعُقُولَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِيهَا، مِنْ عَدَمِ تَسَاوِي الْمُتَفَاوِتِينَ الْمُتَبَايِنِينَ، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ..

– الشيخ : هذا مناسبٌ لما سبقَ؛ لأنه تقدَّم ذِكرُ الفريقين، ذِكرُ السعداءِ وذِكرُ الأشقياءِ، مثل: المؤمنين، مثل: الكفار، فبعدَ عرضِ حالِ الفريقينِ قال -تعالى-: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} والمراد بالفِسْقِ هنا الفِسْقُ الأكبرُ الذي هو الكُفرُ، لأنَّ الفِسْقَ يأتي مراداً به الفِسْقُ الأدنى، الفِسْقُ الأصغر، كالكُفرِ الأصغرِ، ويأتي مُرادَاً به الفسقُ الأعظمُ: الكفرُ، وهذا هو المرادُ هنا.

 

– القارئ : وَأَنَّ حِكْمَتَهُ تَقْتَضِي عَدَمَ تَسَاوِيهِمَا فَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} قَدْ عَمَرَ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، وَانْقَادَتْ جَوَارِحُهُ لِشَرَائِعِهِ، وَاقْتَضَى إِيمَانُهُ آثَارَهُ وَمُوجِبَاتِهِ، مِنْ تَرْكِ مَسَاخِطِ اللَّهِ، الَّتِي يَضُرُّ وُجُودُهَا بِالْإِيمَانِ. {كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} قَدْ خَرِبَ قَلْبُهُ، وَتَعَطَّلَ مِنَ الْإِيمَانِ..

– الشيخ : أعوذ بالله

– القارئ : فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَازِعٌ دِينِيٌّ، فَأَسْرَعَتْ جَوَارِحُهُ بِمُوجِبَاتِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، فِي كُلِّ إِثْمٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَخَرَجَ بِفِسْقِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، أَفَيَسْتَوِي هَذَانِ الشَّخْصَانِ؟ {لا يَسْتَوُونَ} عَقْلًا وَشَرْعًا، كَمَا لَا يَسْتَوِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَالضِّيَاءُ وَالظُّلْمَةُ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي ثَوَابُهُمَا فِي الْآخِرَةِ.

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مِنْ فُرُوضٍ وَنَوَافِلَ {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أَيِ: الْجَنَّاتُ الَّتِي هِيَ مَأْوَى اللَّذَّاتِ، وَمَعْدِنُ الْخَيِّرَاتِ، وَمَحَلُّ الْأَفْرَاحِ، وَنَعِيمُ الْقُلُوبِ، وَالنُّفُوسِ، وَالْأَرْوَاحِ، وَمَحَلُّ الْخُلُودِ، وَجِوَارُ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ، وَالتَّمَتُّعُ بِقُرْبِهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ، وَسَمَاعُ خِطَابِهِ.

{نُزُلا} لَهُمْ أَيْ: ضِيَافَةً، وَقِرًى {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ، هِيَ الَّتِي أَوْصَلَتْهُمْ لِتِلْكَ الْمَنَازِلِ الْغَالِيَةِ الْعَالِيَةِ، الَّتِي لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا بِبَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَلَا بِالْجُنُودِ وَالْخَدَمِ، وَلَا بِالْأَوْلَادِ، بَلْ وَلَا بِالنُّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهَا بِشَيْءٍ أَصْلًا سِوَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أَيْ: مَقَرُّهُمْ وَمَحَلُّ خُلُودِهِمُ، النَّارُ..

– الشيخ : أعوذ بالله، أعوذ بالله.

– القارئ : الَّتِي جَمَعَتْ كُلَّ عَذَابٍ وَشَقَاءٍ، وَلَا يُفَتَّرُ عَنْهُمُ الْعِقَابُ سَاعَةً.

{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}

– الشيخ : نسأل الله العافية

– القارئ : فَكُلَّمَا حَدَّثَتْهُمْ إِرَادَتُهُمْ بِالْخُرُوجِ، لِبُلُوغِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، رُدُّوا إِلَيْهَا، فَذَهَبَ عَنْهُمْ رَوْحُ ذَلِكَ الْفَرَجِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْكَرْبُ، {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}

فَهَذَا عَذَابُ النَّارِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مَقَرُّهُمْ وَمَأْوَاهُمْ..

– الشيخ : نسأل الله العافية، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار.

– القارئ : وَأَمَّا الْعَذَابُ الَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُقَدِّمَةٌ لَهُ وَهُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَقَدْ ذُكِرَ بِقَوْلِهِ: {ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أَيْ: وَلَنُذِيقَنَّ الْفَاسِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ، نَمُوذَجًا مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى، وَهُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ، فَنُذِيقُهُمْ طَرَفًا مِنْهُ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا، إِمَّا بِعَذَابٍ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، كَمَا جَرَى لِأَهْلِ بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإِمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93] ثُمَّ يُكْمِلُ لَهُمُ الْعَذَابَ الْأَدْنَى فِي بَرْزَخِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَدَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} أَيْ: بَعْضاً وَجُزْءً مِنْهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَمَّ عَذَابًا أَدْنَى قَبْلَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْإِذَاقَةُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى فِي الدُّنْيَا، قَدْ لَا يَتَّصِلُ بِهَا الْمَوْتُ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُذِيقُهُمْ ذَلِكَ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إِلَيْهِ وَيَتُوبُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} الآية

أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ، وَأَزْيَدُ تَعَدِّيًا، مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ، الَّتِي أَوْصَلَهَا إِلَيْهِ رَبُّهُ، الَّذِي يُرِيدُ تَرْبِيَتَهُ، وَتَكْمِيلَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ عَلَى يْدِ رُسُلِهِ، تَأْمُرُهُ، وَتُذَكِّرُهُ مَصَالِحَهُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ، وَتَنْهَاهُ عَنْ مَضَارِّهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، الَّتِي تَقْتَضِي أَنْ يُقَابِلَهَا بِالْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالِانْقِيَادِ وَالشُّكْرِ، فَقَابَلَهَا هَذَا الظَّالِمُ بِضِدٍّ مَا يَنْبَغِي، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا، وَلَا اتَّبَعَهَا، بَلْ أَعْرَضَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ

– الشيخ : أعوذ بالله

– القارئ : فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمُجْرِمِينَ، الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ شَدِيدَ النِّقْمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}

– الشيخ : انتهى، نعم بعده.