بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
– شرح كتاب "زاد المستقنع في اختصار المقنع"
– (كتاب المناسك)
– الدّرس: الثّاني عشر
*** *** *** ***
– القارئ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعين، أمَّا بعد؛ قال المصنّفُ رحمهُ اللهُ تعالى:
[بابُ دخولِ مكةَ]
– الشيخ: الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، نلاحظُ أنَّ الفقهاءَ -رحمهم الله- قد أبدعوا في ترتيبِ الأحكامِ، ومن ذلك ترتيبُ مسائلِ الحجِّ بدءً من حكمِهِ ومن ثمَّ الكلامُ عن المواقيتِ، ثمَّ تكلّموا عن الإحرامِ ومحظوراتِ الإحرامِ، والآنَ يُفترضُ أنَّه وصلَ إلى مكةَ، ولدخولِ مكةَ مسائلٌ وأحكامٌ، ولهذا عقدوا لهذا القسمِ "بابُ دخولِ مكةَ"، فكأنَّ القارئَ يتخيّلُ مسيرةَ الحجِّ ومسيرةَ الحاجِّ من قصدِهِ للحجّ ووصولِهِ للمواقيتِ وبعد إحرامِه، ولهذا ذكروا محظوراتِ الإحرامِ بعد الكلامِ في المواقيتِ والإحرامِ لأنَّ هذا موضعه، وهذا الترتيبُ مطابقٌ لما يقعُ، إذًا هو ترتيبٌ بديعٌ.
– القارئ: (يُسنُّ مِنْ أعلاهَا)
– الشيخ: يُسنُّ دخولُ مكةَ من أعلاها كما جاءَ في الحديثِ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- "دخلَ مكةَ من أعلاها، وخرجَ من أسفلِها"، والصحيحُ أنَّ هذا يُسنُّ لمن كان واردًا من تلكَ الجهةِ، طريقُ المدينةِ يناسبُ أعلى مكةَ، لكن من يأتي من الغربِ من جدّةَ مثلًا فلا نقولُ له يُسنُّ لك أن تذهبَ وتدورَ لتدخلَ من أعلى مكةَ. والنبيُّ كان يعلمُ أنَّ الناسَ تأتي من نواحي مكةَ ولم يأمرْ لا أمرَ وجوبٍ ولا استحبابٍ، فالصحيحُ أنَّه يُسنُّ لمن كانت في طريقِهِ أن يدخلَ من أعلاها.
– القارئ: (والمسجدِ: من بابِ بني شيبةَ)
– الشيخ: أي يُسنُّ دخولُ المسجدِ من بابِ بني شيبةَ، جاءَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- "أنَّه دخلَ المسجدَ من بابِ بني شيبةَ"، وتعلمونَ أنَّ المسجدَ كان صغيرًا، وليسَ بالمساحةِ التي أدركناها، والآنَ أبوابُ الحرمِ بعيدةٌ عن الكعبةِ، لكنَّ أبوابَ الحرمِ في القديمِ قريبةٌ، وقد أدركنا ما يُسمّى ببابِ بني شيبةَ، يعني قد وضعَ له يعني مثل ما يقالُ قوسٌ، هذا البابُ يقابلُ تمامًا المقامَ ويبعدُ عنه بضعةَ أمتارٍ، ويبدو أنَّ دخولَ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- من هذا البابِ هو نظيرُ دخولِه من أعلاها، ولهذا قال الفقهاءُ يُسنُّ دخولُ المسجدِ من بابِ بني شيبةَ، وكان المقابلُ لبابِ بني شيبةَ يُسمّى بابُ السلامِ، فكانَ الناسُ يدخلونَ من بابِ السلامِ لأنَّه المقابلُ لبابِ بني شيبةَ، وكما قلنا أنَّه كان قريبًا من المقامِ نظرًا للمساحةِ التي كانت محدودةً، أمّا بعدَ التوسعةِ صارَ له أبوبٌ كثيرةٌ وبعيدةٌ.
– القارئ: (فإذا رأى البيتَ: رفعَ يديه، وقالَ ما وردَ)
– الشيخ: يشيرُ إلى أنَّه يرفعُ يديه يدعو، ويقولُ ما وردَ، وذكروا أشياءَ، والغالبُ في هذه الآثارِ أنَّها ضعيفةٌ، لا تُفيدُ ثبوتَ السنيّةِ والاستحبابِ، والصحيحُ أنَّه يقولُ ما يقولُه عندَ دخولِه في سائرِ المساجدِ، فيقولُ الداخلُ: "بسمِ اللهِ، أعوذُ باللهِ العظيمِ وبوجهِ الكريمِ وسلطانِه القديرِ من الشيطانِ الرجيمِ، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتحْ لي أبوابَ رحمتك"، ويقدّمُ رجلَه اليمنى ويقولُ هذا الذكرَ المشروعَ عندَ دخولِ سائرِ المساجدِ.
– القارئ: (ثمَّ يطوفُ مضطبعًا)
– الشيخ: يبدأُ بالطوافِ، لا يبدأُ بصلاةِ ركعتين، لأنَّه سيصلّي ركعتين، يبدأُ بالطوافِ لأنَّه هو الغايةُ، فالغايةُ من الحجِّ والعمرةِ هو الطوافُ بالبيتِ، فيبدأُ بالطوافِ ولا يقدّمُ عليه شيئًا. والاضطباعُ: هو أن يجعلَ وسطَ ردائِه تحتَ عاتقِهِ يعني إبطِهِ الأيمنِ، ويجعل طرفيهِ على عاتقِهِ الأيسرِ، وهو سنّةٌ في الطوافِ الأوَّلِ للحاجِّ والمعتمرِ، ولا يُشرعُ الاضطباعُ فيما سوى ذلك من الأطوافِ، فضلًا عن سائرِ الأحوالِ، وكثيرٌ من الجهّالِ يحسبونَ أنَّ الاضطباعَ هو هيئةُ الإحرامِ مطلقًا، وهذا غلطٌ من فعلِ الجهَّالِ.
– القارئ: (يبتدئُ المعتمرُ: بطوافِ العمرةِ، والقارنُ، والمفردُ: للقدومِ)
– الشيخ: المعتمرُ يبدأُ بطوافِ العمرةِ لأنَّ هذا هو الواجبُ عليه، وهذا الطوافُ الأوّلُ هو ركنُ العمرةِ، والقارنُ والمفردُ يطوفُ للقدومِ، والمعروفُ عند الجمهورِ أنَّ طوافَ القدومِ سنّةٌ وليسَ بركنٍ، إنّما ركنُ الحجِّ هو طوافُ الإفاضةِ، وبعضُهم يذهبُ إلى وجوبِهِ، واستدلَّ من ذهبَ إلى عدمِ وجوبِهِ بحديثِ عروةَ ابن المضرّسِ الذي فيه أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال في المزدلفةِ: "من شهدَ صلاتَنا هذه وقد وقفَ بعرفةَ قبلَ ذلك أيَّة ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ فقد تمَّ حجُّهُ".
– القارئ: (فيحاذي الحجرَ الأسودَ، بكلِّهِ، ويستلِمُهُ، ويُقَبِّلُهُ)
– الشيخ: يبتدئُ بالطوافِ من الحجرِ الأسودِ، لكن يقولون: كيفيةُ الابتداءِ الطوافُ بالحجرِ أن يحاذيَ الحجرَ بكلّيتِهِ أي بكلِّ بدنِهِ، وتحرّي هذه الدّقة فيها حرجٌ، والفرضُ هو أن يمرَّ بالحجرِ ببدنِهِ كسائرِ البيتِ يمرُّ عليه، يُحاذيه بجانبِهِ الأيسرِ، يحاذيهِ بصدرِهِ. تأتي من جهةِ الركنِ اليماني، إذا حاذيتَهُ بجانبِكَ أجزأَ، وفي الحقيقةِ نحنُ نستقبلُهُ بقطعِ النظرِ عن تطبيقِ الكليةِ هذه، نتحرّى أن نستقبلَهُ إذا تيسّرَ، وإذا لم يتيسّرْ نُشيرُ ونحن نسيرُ، والذي جاءَ عن النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- "أنَّه طافَ بالبيتِ سبعًا من الحجرِ إلى الحجرِ"، ولا أدري أنَّه جاءَ واستقبلَ الحجرَ، التقبيلُ والاستلامُ يقتضي.
– مداخلة: في الرّوضِ قال:
لما روى عمرُ أَنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- استقبلَ الحجرَ، ووضعَ شفتيهِ عليه، يبكي طويلًا، ثمَّ التفتَ، فإِذا بعمرِ بنِ الخطابِ يبكي، فقال: "يا عمرُ ههنا تسكبُ العبراتُ" رواهُ ابنُ ماجه.
– الشيخ: يُنظرُ فيه.
– مداخلة: الإشارةُ تكونُ بيدٍ واحدةٍ؟
– الشيخ: نعم، بيدٍ واحدةٍ.
– القارئ:(وإنْ شقَّ قبَّلَ يدَه، فإنْ شقَّ اللمسُ أشارَ إليه، ويقولُ ما وردَ)
– الشيخ: يستلمُهُ بيمينِهِ ويقبّلُهُ، ويجمعُ بين الاستلامِ والتقبيلِ، فإن شقَّ قبّلَ يمينَه.
– القارئ: (ويجعلُ البيتَ عن يسارِه، ويطوفُ سبعًا، ويَرمُلُ الأفقيُّ في هذا الطوافِ ثلاثًا، ثم يمشي أربعًا)
– الشيخ: الرَملُ: هو الإسراعُ مع تقاربِ الخُطى، ثبتَ أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ رملَ في الطوافِ الأولِ في حجِّهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، وتعلمونَ السببَ في الرّملِ؛ أصلُهُ لما قَدِمَ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم في عمرةِ القضيّةِ، قال المشركونَ: يقدمُ عليكم قومٌ قد وهنتهم حُمّى يثرب فأمرَهم النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أن يراغمونَهم ويُظهروا لهم الجلدَ والقوةَ فأمَرَهم أن يرمَلوا الأشواطَ الثلاثةَ، ويمشوا ما بين الركنينِ، لأنَّهم إذا كانوا بين الركنينِ يكونونَ مستترينَ عن المشركين، لأنَّ المشركينَ يرقبونَهم على جبلِ الشاميّةِ، ثمَّ أنَّ الرسولَ عليه الصلاةُ والسلامُ في حجّتِهِ رملَ في الأشواطِ الثلاثةِ من الحجرِ إلى الحجرِ.
– القارئ: (يستلمُ الحجرَ والركنَ اليمانيَّ كلَّ مرةٍ)
– الشيخ: من سننِ الطوافِ استلامُ الحجرِ والركنِ اليماني، لما ثبتَ عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كان لا يدعُ استلامَهُما، الركنُ اليمانيُّ الغربي، والحجرُ، ويقالُ لهما: الركنانِ اليمانيّانِ، لأنَّ البيتَ له أربعةُ زوايا، كلُّ زاويةٍ تُعدُّ ركنينِ، فالحجرُ الأسودُ هو يمانيٌّ شرقيٌّ، والركنُ اليمانيُّ الآخرُ يمانيٌّ غربيٌّ، والركنانِ الشاميّانِ، فالبيتُ له ركنانِ عراقيّانِ والشاميّانِ واليمانيّانِ والغربيّانِ، فكلُّ زاويةٍ لها جانبان.
– القارئ: (ومَنْ تركَ شيئًا من الطوافِ، أو لم ينوهِ، أو نكَّسَهُ، أو طافَ على الشَّاذَرْوَانَ، أو جدارِ الحِجْرِ، أو عريانَ، أو نجسًا، لم يصحَّ)
– الشيخ: تضمّنتْ هذه الجملةُ الإشارةَ إلى شروطِ الطوافِ، وهي: "من تركَ شيئًا من الطوافِ": يعني طافَ ولكنَّه تركَ شوطًا أو نصفَ شوطٍ أو أقلَّ، إذًا من شروطِ الطوافِ أن يطوفَ بالبيتِ كلِّه لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] فمن طافَ في بعضِهِ لم يطفْ بالبيتِ، ولهذا من طافَ ودخلَ من بابِ الحِجرِ ولفَّ لم يطفْ بالبيتِ لأنَّ الحِجرَ من البيتِ، فمن دخلَ من بابِهِ الشرقيّ وخرجَ من الآخرِ نقصَ طوافُهُ ولم يصحَّ له هذا الشوطُ.
"ولم ينوه": يعني طافَ مع الناسِ ولم ينوِ طوافًا لم يصحَّ؛ لأنَّ شرطَ جميعِ العباداتِ هي النيةُ لقولِهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: "إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ".
"أو نكّسهُ": بحيثُ جعلَ البيتَ عن يمينِهِ، هذا إخلالٌ عظيمٌ، فمن شروطِ الطوافِ أن يجعلَ البيتَ عن يسارِهِ.
– مداخلة: هناك بعضُ النسخِ وهي الأكثرُ وعليها الروضُ وشرحُ ابنُ عثيمينَ "أو نُسكه"، والتي في المقنعِ "نكَّسَهُ".
…
– الشيخ: هذا أنسبُ، لأنَّه إذا قال: "نُسكهُ" نيّة النُّسُكِ من الأولِ، وحينئذٍ لا يكونُ فيه تعرّضٌ لهذا الشرطِ، وهذا شرطٌ معتبرٌ بالاتفاقِ، أنَّه إذا طافَ عن يمينِهِ لم يصحَّ طوافُهُ لأنَّه تغيرٌّ لصورةِ الطوافِ، والنصُّ على قولِهِ "نَكَّسَهُ" أهمُّ من قولِهِ "أو نُسكه"، افرضْ أنَّه طافَ بالنيّةِ الأولى وجاءَ معتمرًا وطافَ بالبيتِ لكن لم يستحضرْ أنَّ طوافَه هذا للعمرةِ، هذا يمكنُ أن يكونَ مقبولًا اعتمادًا على أصلِ النيّةِ الأولى.
"أو طافَ على الشّاذروان": وهو البناءُ أو الارتفاعُ الذي في أساسِ جدارِ الكعبةِ، وهو بناءٌ بارزٌ عن كسوتِها، الكسوةُ تنتهي إليه، ولا يدخلُ تحتَ الكسوةِ، فهذا يسمّونَه الشّاذروان، لو طافَ عليه الطائفُ يقولون: لا يصحُّ؛ لأنَّه هو نفسُ الشّاذروان هذا من أساسِ البيتِ، فمن طافَ فوقَ الشّاذروانِ لم يطفْ بالبيتِ، فمساحةُ البيتِ تشملُ الشّاذروان، بعضُ الناسِ الآنَ مع الزحامِ يتمسّكُ بالكسوةِ ويطوفُ على الشّاذروان.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
وقال شيخُ الإسلامِ ـ رحمهُ اللهُ ـ: يصحُّ الطوافُ على الشاذروان؛ لأنَّ الشاذروانَ ليسَ من الكعبةِ، بل هو كالعتبةِ تكونُ تحتَ سورِ البيتِ، وقد جُعلَ عمادًا للبيتِ، فيجوزُ الطوافُ عليه.
– الشيخ: على كلِّ حالٍ عرفنا أصلَ الإشكالِ، هل الشّاذروانُ من أصلِ مساحةِ البيتِ الذي خصَّهُ اللهُ بالحكمِ وبوجوبِ الطوافِ به، أم أنَّه شيءٌ آخرُ خارجٌ عن مساحةِ البيتِ وإنَّما جُعلَ تقويةً لجدارِ البيتِ. قد يُقالُ ما يُشعرُ أنَّه ليس من البيتِ قصرُ الكسوةِ على ما فوقَ الشّاذروان، فالكسوةُ يجبُ أن تكونَ شاملةً للبيتِ كلِّهِ من أعلاهُ إلى أسفلِهِ، ويبقى الموضوعُ أنَّ الاحتياطَ ألَّا يطوفَ.
– مداخلة: يقولُ الشيخُ ابنُ عثيمين رحمهُ اللهُ:
لكنَّ بعضَ الخلفاءِ ـ جزاهُ اللهُ خيرًا ـ جعلَهُ مُسَنَّمًا كما يُشاهدُ الآن، فلا يمكنُ الطوافُ عليه، فمن صعدَ عليه ليطوفَ زَلِقَ.
– الشيخ: يعني ليسَ مستقيمًا بحيثُ يستطيعُ الطائفُ أن يمشيَ عليه، وهذا ممّا يعوقُ، لو كان عبارةً عن عتبةٍ يعني شكل لسهلَ الطوافُ عليه، لكن الآنَ الواحدُ لا يستطيعُ إلَّا أن يتمسّكَ بالكسوةِ.
"أو جدارِ الحِجرِ": هو المكانُ المعروفُ الذي يقالُ أنَّه ستّةُ أذرعٍ من البيتِ، ومُقتضى قولِهم أنَّ الجدارَ نفسَهُ من الكعبةِ، وهذا القولُ فيه يشبهُ القولَ في الشّاذروان، إن ثبتَ أنَّه من البيتِ فلا يصحُّ الطوافُ عليه لأنَّه منبسطٌ وليسَ كالشّاذروانِ بأنَّه ممسوحٌ، وكأنَّ المشهورَ أنَّ جدارَ الحجرِ ليسَ من البيتِ، لأنَّ المشهورَ أنَّ الحجرَ ستّةُ أذرعٍ من البيتِ، وعليه فجدارُ الحجرِ ليسَ من البيتِ.
– القارئُ يقرأُ من الشرحِ الممتعِ:
قولُه: "أو جدارُ الحِجْرِ": بكسرِ الحاءِ وسكونِ الجيمِ، الحجرُ معروفٌ وهو البناءُ المقوّسُ من شمالي الكعبةِ، ويُسمّى عند العامّةِ حجرُ إسماعيل، ـ وسبحانَ اللهِ ـ كيف يكونُ حجرُ إسماعيلَ وإسماعيلُ لم يعلمْ به؟! وقد بُنِيَ بعدَهُ بأزمانٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ سببَ بنائَه كما ثبتَ في الصحيحِ أنَّ قريشًا لما بنتِ الكعبةِ قصرتْ بهم النّفقةُ، وقد أجمعوا على أن يكونَ البناءُ من كسبٍ طيبٍ، فقالوا: لا بدَّ أن نبنيَ البعضَ، وندعَ البعضَ، وأنسبُ شيءٍ يدعونَه أن يكونَ الناحيةُ الشماليةُ، وجعلوا هذا الجدارَ وسُميَ الحجرُ؛ لأنَّه محجرٌ.
وقد قال النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لعائشةَ: "لولا أنَّ قومَكِ حديثو عهدٍ بكفرٍ لبنيتُ الكعبةَ على قواعدِ إبراهيمَ، وجعلتُ لها بابين بابًا يخرجُ منه الناسُ وبابًا يدخلونَ منه"، لكن تركَ ذلك خوفًا من الفتنةِ، إلَّا أنَّ اللهَ ـ سبحانَهُ وتعالى ـ حقَّقَ ما أرادَهُ الرسولُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بدونِ مضرّةٍ، فلو أنَّها بُنيتْ على قواعدِ إبراهيمَ، وجُعلَ لها بابٌ يدخلُ منه الناسُ، وبابٌ يخرجونَ منه …
فإذا طافَ على جدارِ الحجرِ لم يصحَّ الطوافُ لعدمِ استيعابِ الكعبةِ، وإن طافَ من دونِ جدارِ الحجرِ من الداخلِ، لم يصحَّ من بابِ أولى. وظاهرُ كلامِ المؤلفِ ـ رحمهُ اللهُ ـ أنَّه لو طافَ على جدارِ الحجرِ الذي ليسَ من الكعبةِ لم يصحَّ؛ لأنَّه يثبتُ تبعًا ما لا يثبتُ استقلالًا، ولأنَّ التمييزَ بين الجانبِ الداخلِ في الكعبةِ والخارجِ منها فيه شيءٌ من الصعوبةِ؛ لأنَّ الحجرَ ليسَ كلّه من الكعبةِ، فليسَ من الكعبةِ إلَّا مقدارَ ستةِ أذرعٍ وشيء، وقرَّبَه بعضُهم فقال: إذا ابتدأَ الانحناءَ من الحجرِ يكونُ خارجَ الكعبةِ، ومن المستوي يكونُ داخلَ الكعبةِ. وعليه فنقولُ: إنَّه لا يصحُّ الطوافُ على جدارِ الحجرِ ولو على الجانبِ الخارجِ من الكعبةِ؛ فيكونُ هذا الزائدُ تابعًا للأصلِ.
– الشيخ: إذا ثبتَ أنَّ الجدارَ هذا ليسَ من مساحةِ الكعبةِ فلا يظهرُ وجهٌ لعدمِ صحةِ الطوافِ، لكنَّ الأمورَ الآنَ لا يوجدُ شيءٌ يحقّقُ لنا أنَّ جدارَ الحجرِ كلَّه خارجٌ أو كلّه داخلٌ، فما دامَ في الأمرِ شبهةٌ فإنَّه يُنهى عن الطوافِ عليه.
– مداخلة: …
– الشيخ: لا أدري، لكنَّ الأصلَ أنَّ الحجرَ كلَّه، وعائشةُ رضي اللهُ عنها عندما أرادت أن تدخلَ الكعبةَ وتصلّي فيها أرشدها أن تصلّي في الحجرِ مطلقًا ولم يقلْ في مقدّمه، فيظهرُ أنَّه كلَّه من الكعبةِ.
"أو عُريان": لو طافَ وهو عريانٌ لا يصحُّ، إذًا من شروطِ الطوافِ سترُ العورةِ، وقد جاءَ في الحديثِ الصحيحِ: "ألَّا يطوفَ بالبيتِ عُريانٌ"، هذه من الأمورِ التي أمرَ بها النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أن ينادى بها في السنةِ التاسعةِ من الهجرةِ، فأرسلَ أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه من ينادي بالناسِ بأربعِ مسائلَ: "ألّا يحجَّ بعد هذا العامِ مشركُ، وألا يطوفَ بالبيتِ عُريانٌ، وأنَّه لن يدخلَ الجنّةَ إلَّا نفسٌ مؤمنةٌ، ومن كان له عهدٌ فهو إلى مدّةِ عهدِهِ، ومن ليس له عهدٌ فيمهلُ أربعةَ أشهرٍ".
"أو نجسًا": هذا تنبيهٌ على اشتراطِ الطهارةِ من النجاسةِ، لكن عجيبٌ أنَّه لم يذكرْ مسألةَ الحدثِ فهي أهمُّ، إلَّا أن يريدَ بكلمةِ "نجسًا" نجاسةَ الحدثِ ونجاسةَ الخبثِ، لأنَّه ليسَ بطاهرٍ.
– مداخلة: لكن ذكرَ في المقنعِ، وإن طافَ محدثًا أو نجسًا أو عريانًا لم يجزئْهُ.
– الشيخ: لا شكَّ أنَّهم يشترطونَ الطهارةَ من الحدثِ والخبثِ، وهذه الشروطُ منها ما هو محلُّ إجماعٍ كتنكيسِ الطوافِ والنيّةِ فهي شرطٌ كما في سائرِ الأعمالِ.
"لم يصح": هذه العبارةُ كلُّها فيها النصُّ على هذه الشروطِ.
– القارئ: (ثم يُصلي ركعتينِ خلفَ المقامِ)
– الشيخ: هذا من توابعِ الطوافِ وممَّا يُسَنُّ لمن طافَ بالبيتِ أن يُصلّي ركعتين عندَ المقامِ أسوةً بالنبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فإنَّه لمّا طافَ أتى المقامَ وقرأَ قولَه تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] وصلاتُه عندَ المقامِ تفسيرٌ لهذهِ الآيةِ.
– مداخلة: الشيخُ تحدّثَ عن الطهارةِ ورجّحَ اختيارَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ؟
– الشيخ: ما يخالف، ومع ذلك لا أرى تقريرَهُ للناسِ، لكن لطلابِ العلمِ لا شكَّ القولُ بعدمِ اشتراطِ الطهارةِ قويٌّ، لأنَّ الأدلّةَ على اشتراطِ الطهارةِ لا تنهضُ، وأكثرُ ما اعتمدوا عليه ما جاءَ عن ابنِ عباسٍ: "الطوافُ بالبيتِ صلاةٌ"، فهذا أثرٌ عنه، وأمرٌ آخر بأنَّه لا ينطبقُ على الطوافِ، فهل يُشترطُ فيه قراءةُ الفاتحةِ؟ لا تشترطُ، وهل فيه أركانُ الصلاةِ من ركوعٍ وسجودٍ؟ لا، فهو يفارقُ الصلاةَ في أشياءَ كثيرةٍ، والكثيرُ من الأشياءِ ما يعبّرُ عنه بالصلاةِ وإن لم يكن له جميعُ أحكامِ الصلاةِ.
– مداخلة: لكن يا شيخ ألا يحتاجُ إلى الطهارةِ والوضوءِ لصلاةِ ركعتينِ خلفَ المقامِ؟
– الشيخ: افرضْ أنَّه طافَ محدثًا ومن ثمَّ ذهبَ وتوضَّئ، وثبتَ عنه عليه الصلاةُ والسلامُ لما أرادَ دخولَ البيتِ توضّأ، لكن هل هذا للطوافِ؟ ومن حُججِهم على اشتراطِ الطهارةِ ما جاءَ في حديثِ عائشةَ: "افعلي ما يفعلُهُ الحاجُّ، أرى ألّا تطوفي بالبيتِ"، لكن هل هذا لاشتراطِ الطهارةِ أم أنَّ الحائضَ لا تدخلُ المسجدَ؟ ذكرَ شيخُ الإسلامِ في بحثِهِ بهذهِ المسألةِ والتّدليلِ عليها أنَّ هذا محلُّ نزاعٍ وأنَّه محتملٌ، فهل هو من أجلِ أنَّ الحائضَ لا تدخلُ المسجدَ أو لاعتبارِ الطهارةِ واشتراطِها بالطوافِ، وعندَ العلماءِ خلافاتٌ واسعةٌ وليست مسألةَ إجماعٍ، لكن مع هذا لا ينبغي إفتاءُ الناسِ، لكن من وقعَ منه حالةٌ وإشكالٌ يمكنُ اللجوءُ إلى هذا الاختيارِ عند الحاجةِ، لكن ابتداءً نقولُ للناسِ لا تشترطْ له الطهارةُ يجعلُ الناس لا يعظّمونَ هذه العبادةَ التعظيمَ اللائقَ واللهُ تعالى أعلمُ.
– مداخلة: هل من شرطِ صحّةِ الطوافِ الصلاةُ ركعتين؟
– الشيخ: لا، على الصحيحِ أنَّها ليست بشرطٍ.
الأسئلة:
س1: الرّمَلُ هل هو خاصٌّ للآفاقي، أم يُسنُّ للمكيّ كذلك؟
ج: قالوا للآفاقي، للقادمين.
…………………………………….
س2: امرأةٌ لم تَطُفْ طوافَ الإفاضةِ ثمَّ سافرتْ إلى بلادِها، والآن هي أصيبتْ بمرضٍ لم يُرجَى برئُه فماذا عليها؟
ج: المعروفُ أنَّه لم يتمَّ حجَّها، وهل طافتْ طوافَ الوداعِ؟ هذا يجبُ التفاهمُ مع السائلِ، أم أنَّها لم تَطفْ أصلًا لا للإفاضةِ ولا للوداعِ؟
…………………………………….
– مداخلة: هل تلاوةُ الآيةِ من السنّةِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]؟
– الشيخ: يتذكرها تذكّرًا، ولا أقولُ أنَّها مستحبّةٌ، وفعلُ الإنسانِ للعبادةِ متذكّرًا دليلُ شرعيّتها لا شكَّ أنَّه أكملُ من أن يفعَلَها بحكمِ العادةِ.
……………………………………
– مداخلة: الشوطُ الأخيرُ في الطوافِ هل يستلمُ الحجرَ؟
– الشيخ: أرى أنَّه يستلم، والشيخُ ابنُ بازٍ يرى أنَّه يستلمُ، لأنَّ الحديثَ كلّما حاذى الحجرَ استلَمَهُ، والأمرُ في هذا واسعٌ، ولا ينبغي أن يكونَ فيه جدالٌ ولا خلافٌ، والشيخُ محمّدٌ يرى أنَّ بوصولِهِ إلى الحجرِ انتهى الطوافُ ولا يستلمُ؛ لأنَّ استلامَ الحجرِ هو بدايةٌ لشوطٍ وقد كمّلَ سبعةً وانتهى، فكأنَّه لو استلمَهُ يصبحُ كأنَّه يريدُ أن يشرعَ في شوطٍ ثامنٍ.
…………………………………….
– مداخلة: بالنسبةِ للصفا والمروةِ في آخرِ شوطٍ هل يقفُ ويدعو؟
– الشيخ: نفسُ المسألةِ تمامًا، وبالنسبةِ لي أنا أدعو.
…………………………………..
س3: هل يجوزُ السعيُ بعدَ أيامِ التشريقِ؟
ج: نعم يجوزُ، لكن ينبغي أن يكونَ طوافُ الإفاضةِ والسعيُ أن تكونَ في أيامِ التشريقِ، لكن لو تأخَّرَ تهاونًا أو نسيانًا فإنَّ طوافَ السعيَ ليسَ له توقيتٌ.
…………………………………….
س4: ما معنى حديثُ: "ولا يُختلى خلاها"؟
ج: يعني لا يُحشُّ حشيشُها الرطبُ.
…………………………………….
س5: أختٌ حصلَ بينها وبينَ أحدِ إخوانِها هجرٌ وقطيعةٌ من أربعِ سنواتٍ بسببِ أمرٍ دينيٍّ وهو أنَّه قامَ بالتحرّشِ بأحدِ بناتِها وهو كبيرٌ ومتزوّجٌ، وله سوابقُ في صغرِهِ، وقد استفتَ بعضَ المشايخِ فأفتوها بهجرِهِ حتى المماتِ، وإخوانُها يلومونها ويقولون: المدّةُ كافيةٌ في الهجرِ؟
ج: لا، الهجرُ المقصودُ منه الزّجرُ، فإن كانَ ظهرَ منه الصلاحُ والاستقامةُ فتعودُ وتتركُ هجرَهُ، وإن كان ما ظهرَ منه الاستقامةُ وصلاحُ التوجّهِ فلتهجرْهُ، لأنَّه هو الجاني وجنايتُهُ منكرةٌ، أعظمُ من أنَّه لو جنى عليها فيما بينَهُ وبينها بكلامٍ أو اعتداءٍ على حقٍّ من حقوقِها، وفعلُهُ قبيحٌ ومنكرٌ.
…………………………………….
س6: جاءَ في الحديثِ: "لا تتخذوا قبري عيدًا"، وهل وردَ نصٌ على استحبابِ زيارةِ قبرِ النبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لمن كان بالمدينةِ أو زارَها؟
ج: المشهورُ جدًا أنَّ ابنَ عمرَ رضي اللهُ عنه كان إذا جاءَ على المدينةِ يمرُّ على القبورِ الثلاثةِ، ويُسلِّمُ على الرسولِ، السلامُ عليك يا رسولَ اللهِ، السلامُ عليكَ يا أبا بكرٍ، السلامُ عليك يا أبتاهُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، وأدلَّةُ زيارةِ القبورِ عامّةٌ، أمَّا الأدلّةُ الخاصّةُ، فالمعروفُ أنَّ جميعَ الأحاديثِ الواردةِ في الترغيبِ في زيارةِ قبرِهِ كلِّها يضعّفُها أهلُ العلمِ من موضوعٍ أو ضعيفٍ، لا يصحُّ فيها شيءٌ، ومنها: "من زارَ قبري بعد مماتي كأنَّما زارني في حياتي" أو ما أشبهَ ذلك، لكنَّ العجبَ أنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ رحمهُ اللهُ يقولُ: أنَّ زيارةَ قبرِ النبيّ الآنَ متعذّرةٌ لأنَّه محجوبٌ بجدرانٍ ومشبوكٌ، والزيارةُ إنَّما تكونُ بالوقوفِ على القبرِ، والذي يظهرُ أنَّ ابنَ عمرَ يأتي وما نقولُ أنَّه من جنسِ الموجودِ الآنَ بأنَّه يُسلّمُ من بعدٍ ويأتي إلى القبورِ في حجرةِ عائشةَ رضي اللهُ عنها.
…………………………………….
س7: الطوافُ بغيرِ وضوءٍ لعذرٍ هل يجوزُ؟
ج: ما هو العذرُ حتى نجيبَ.
…………………………………….
س8: كتابُ ابن القيّمِ "شفاءُ العليلِ في مسائلِ القضاءِ والقدرِ والحكمةِ والتعليلِ"، ما وجهُ إدخالِ الحكمةِ والتعليلِ على الكتابِ؟
ج: الحكمةُ والتعليلُ هي من صميمِ مسائلِ القدرِ، والشرعِ أيضًا، فمسألةُ الحكمةِ والتعليلِ هي مسألةٌ كلاميةٌ عقديّةٌ وفيها خلافٌ كبيرٌ، وأهلُ السنّةِ يثبتونَ للهِ الحكمةَ في شرعِهِ وقدرِهِ، ويثبتونَ التعليلَ في شرعِهِ وقدرِهِ، فاللهُ يخلقُ لحكمةٍ، ويشرعُ ويأمرُ وينهى لحكمةٍ، والكلامُ فيه هذا يطولُ، ففي القرآنِ أدلةٌ على حكمتِهِ وتعليلِ الأحكامِ الشرعيةِ والكونيةِ.