بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحزاب
الدَّرس: الثَّاني
*** *** ***
– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:4-5]
– الشيخ : إلى هنا بس، لا إله إلَّا الله، يقولُ سبحانه وتعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} هذه ثلاثةُ أمورٍ من أقوالِ أهل الجاهليَّة، اللهُ أبطلَها، فمن أقوالهم أنَّهم قد يصفون بعضَ الناسِ بأنَّ له قلبين، يُذكَرُ أنَّهم قالوا في رجلٍ: هذا له قلبان، واللهُ تعالى لم يجعلْ لأحدٍ قلبين بل هو قلبٌ واحدٌ، وأمَّا إذا جاءَت القلوبُ مجموعةً فهذا باعتبار إضافةِ القلبِ إلى العددِ، فإذا أُضيفَ الواحدُ إلى العددِ فإنَّه يُجمَعُ، مثل فاقطعوا أيديهما، فقد صغت قلوبكما، والخبرُ عن امرأتَين وليسَ لهما إلَّا كلُّ واحدةٍ لها قلبٌ، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}
والمقولةُ الثانيةُ أنَّ من عادة أهل الجاهليَّة الظِّهارِ، يقولُ أحدهم لامرأته: أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي، ويجعلون ذلك تحريماً، وقد أبطلَ اللهُ ذلك في هذه الآية وفي سورة المجادلةِ، {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]
يعني قولُ الرجلِ لامرأتِه: "أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي" هذا حرامٌ، وقولُ باطلٍ ومنكرٍ وزورٍ، سبحان الله، امرأتُه الَّتي يطؤُها يجعلها يقولُ: "أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي!" تشبيهٌ، "أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي" وهنا يقول: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}
والمقولةُ الثالثةُ أنَّ من عادة أهلِ الجاهليَّة أنَّهم قد يتبنَّى أحدُهم الرجلَ، يجعلُه ابناً له، ويُنسَبُ إليه وهو ليسَ منه، قد يكونُ مملوكاً فينسبُه له، وقد وقعَ هذا مع النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فإنَّ زيدَ بنِ حارثةَ اتَّخذه الرسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ابناً حتَّى صار يسمَّى زيد بن محمَّد، وهو زيدُ بنِ حارثةَ، فأبطلَ اللهُ ذلك، حتَّى أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ زوَّج النبيَّ امرأةَ زيدٍ، تأكيداً لإبطالِ هذه الفريةِ وهذه المقولةِ، وهذا فعلُ النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- لعلَّه قبلَ البعثةِ.
المقصودُ هذه الثلاثة أمور في هذه الآية الله ينفيها، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ} أدعياءكم جمعُ دعيٍّ، {أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ما جعلَهم أباءَكم، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} هذه المقولاتُ ما لها حقيقةٌ ما هي إلَّا أقوالٌ يتكلَّم بها الناسُ بأفواههم، ما لها حقيقةٌ في الواقع، فليس لأحدٍ قلبان، وليست امرأةُ الرجلِ تكون أمَّاً له أو بمنزلة أمِّه، ولا يكونُ الدعيُّ ابناً لمن ادَّعاه.
{ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} ومن الحقِّ هذا النفي لهذه الأمور الثلاثة، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} يقول: هؤلاء الَّذين ادَّعيتموهم ونسبتموهم إليكم ادعوهم لآبائِهم، قولوا: فلانُ بن فلان، زيدُ بنِ حارثةَ، لا تقولوا: زيد بن محمَّد، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} قولوا: أخي مولاي، فإخوانُكم ومواليكم، {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وهذا عفوٌ من الله سبحانه وتعالى عمَّا سلفَ، ولا جُنَاحٌ عليكم فِيمَا {أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} نعم يا محمَّد.
(تفسيرُ السَّعديِّ)
– القارئ : بسمِ اللِه الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديِّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-
– الشيخ : وستأتي قصَّةُ زيدٍ وتزويجُ اللهِ نبيَّهُ امرأته، ستأتي في أثناءِ هذه السورة، لكن سبحان الله هذه الآية مقدِّمةٌ وتمهيدٌ للقصَّةِ
– القارئ : قالَ رحمَهُ اللهُ تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} الآياتَ.
يعاتبُ تعالى عبادِهِ عن التَّكلُّمِ بما لا حقيقةَ لهُ مِن الأقوالِ، ولم يجعلْهُ اللهُ تعالى كما قالُوا، فإنَّ ذلكَ القولَ منكم كذبٌ وزورٌ، يترتَّبُ عليهِ منكراتٌ مِن الشَّرعِ. وهذهِ قاعدةٌ عامَّةٌ في التَّكلُّمِ في كلِّ شيءٍ، والإخبارِ بوقوعٍ ووجودٍ، ما لم يجعلْهُ اللهُ تعالى.
ولكنْ خصَّ هذهِ الأشياءَ المذكورةَ، لوقوعِها، وشدَّةِ الحاجةِ إلى بيانِها، فقالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} هذا لا يُوجَدُ، فإيَّاكم أنْ تقولوا عن أحدٍ: إنَّ لهُ قلبَينِ في جوفِهِ
– الشيخ : يعبِّرُ بعضُ الناسِ إذا صارَ في واحد ذكيّ هذا أبو قلبين، هذا كلامٌ باطلٌ ما يجوزُ، هذا جارٍ الآن من بعضِ الناس ِكذا، تعبيراً عن ذكائِه، يعني ذهين ذهين، هذا له قلبين، نعم أبو قلبين
– القارئ : فتكونُوا كاذبِينَ على الخلقةِ الإلهيَّةِ.
{وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} بأنْ يقولَ أحدُكم لزوجتِهِ: "أنتِ عَليَّ كظهرِ أمِّي أو كأمِّي" فما جعلَهنَّ اللهُ {أُمَّهَاتِكُمْ}
– الشيخ : إذا قالَ: كظهرِ أمِّي، فهذا ظِهارٌ صريحٌ، لكن لو قالَ: أنتِ كأمِّي، هذا ما يجوزُ؛ لأنَّه كلامٌ فيه اشتباهٌ، ولا إذا أرادَ أنَّه من بابِ أنَّه يقدِّرُها ولها منزلةٌ عظيمةٌ، يقولُ: كأمِّي، هذا لا يكونُ ظهاراً، لأنَّه ما أراد أنَّها كأمِّه في الحرمة بل في الكرامةِ، وفي هذا مبالغةٌ، وإلَّا من؟ من يكون كالأمِ؟ مهما بلغَت المرأةُ في احترام زوجِها وإكرامِه وكذا، فلا ينبغي أن يقولَ لها: أنتِ كأمِّي، الأمُّ لها منزلةٌ لا تبلغُها أيُّ امرأةٍ بالنسبة للشخص المعيَّنِ.
– القارئ : أمُّكَ مَن ولدَتْكَ، وصارَتْ أعظمَ النِّساءِ عليكَ، حرمةً وتحريمًا
– الشيخ : حرمةً وتحريماً وحقَّاً
– القارئ : وزوجتُكَ أحلُّ النِّساءِ لكَ، فكيفَ تشبِّهُ أحدَ المتناقضَينِ بالآخرِ؟
هذا أمرٌ لا يجوزُ، كما قالَ تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} والأدعياءُ، الولدُ الَّذي كانَ الرَّجلُ يدَّعيهِ، وهوَ ليسَ لهُ، أو يُدْعَى إليهِ، بسببِ تبنيهِ إيِّاهُ، كما كانَ الأمرُ في الجاهليَّةِ، وأوَّلُ الإسلامِ.
فأرادَ اللهُ تعالى أنْ يبطلَهُ ويزيلَهُ، فقدَّمَ بينَ يدي ذلكَ بيانَ قبحِهِ، وأنَّهُ باطلٌ وكذبٌ، وكلُّ باطلٍ وكذبٍ، لا يوجدُ في شرعِ اللهِ، ولا يتَّصفُ بهِ عبادُ اللهِ.
يقولُ تعالى: فاللهُ لم يجعلْ الأدعياءَ الَّذينَ تدعونَهم، أو يُدعَونَ إليكم، أبناءَكم، فإنَّ أبناءَكم في
– الشيخ : تدّعونهم؟ نعم، تدَّعونهم أو يُدعَون إليكم نعم، يُنسَبون نعم بعده.
– القارئ : فإنَّ أبناءَكم في الحقيقةِ، مَن ولدْتُموهم، وكانُوا منكم، وأمَّا هؤلاءِ الأدعياءُ مِن غيرِكم، فلا جعلَ اللهُ هذا كهذا.
{ذَلِكُمْ} القولُ، الَّذي تقولونَ في الدَّعيِّ: إنَّهُ ابنُ فلانٍ، الَّذي ادَّعاهُ، أو والدُهُ فلانٌ {قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} أي: قولٌ لا حقيقةَ لهُ ولا معنىً لهُ.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي: اليقينُ والصِّدقُ، فلذلكَ أمرَكم باتِّباعِهِ، على قولِهِ وشرعِهِ، فقولُهُ حقٌّ، وشرعُهُ حقٌّ، والأقوالُ والأفعالُ الباطلةُ، لا تُنسَبُ إليهِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وليسَتْ مِن هدايتِهِ؛ لأنَّهُ لا يهدي إلَّا إلى السَّبيلِ المستقيمِ، والطُّرقِ الصَّادقةِ.
وإنْ كانَ ذلكَ واقعًا بمشيئتِهِ، فمشيئتُهُ عامَّةٌ، لكلِّ ما وُجِدَ مِن خيرٍ وشرٍّ.
ثمَّ صرَّحَ لهم بتركِ الحالةِ الأولى، المتضمِّنةِ للقولِ الباطلِ فقالَ: {ادْعُوهُمْ} أي: الأدعياءَ {لآبَائِهِمْ} الَّذينَ ولدُوهم {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: أعدلُ، وأقومُ، وأهدى.
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ} الحقيقيِّينَ {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أي: إخوتُكم في دينِ اللهِ، ومواليكم في ذلكَ، فادعوهم بالأخوةِ الإيمانيَّةِ
– الشيخ : الرسولُ قال لزيدٍ أخيراً "أخونا ومولانا"، تطبيقٌ لقولِه: {إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}
– القارئ : فادعوهم بالأخوةِ الإيمانيَّةِ الصَّادقةِ، والموالاةِ على ذلكَ، فتركُ الدَّعوةِ إلى مَن تبنَّاهم حتماً، لا يجوزُ فعلُها.
وأمَّا دعاؤُهم لآبائِهم، فإنْ عُلِمُوا، دُعَوا إليهم، وإن لم يعلمُوا، اقتصرَ على ما يُعلَمُ منهم، وهوَ أخوَّةُ الدِّينِ والموالاةِ، فلا تظنُّوا أنَّ حالةَ عدمِ علمِكم بآبائِهم عذرٌ في دعوتِهم إلى مَن تبنَّاهم؛ لأنَّ المحذورَ لا يزولُ بذلكَ.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} بأنْ سبقَ على لسانِ أحدِكم، دعوتُهُ إلى مَن تبنَّاهُ، فهذا غيرُ مؤاخَذٍ بهِ، أو عُلِمَ أبوهُ ظاهرًا، فدعوتُموهُ إليهِ وهوَ في الباطنِ، غيرُ أبيهِ، فليسَ عليكم في ذلكَ حرجٌ، إذا كانَ خطأً، {وَلَكِنْ} يؤاخذُكم بـهِ {مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} مِن الكلامِ، بما لا يجوزُ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} غفرَ لكم ورحمَكم، حيثُ لم يعاقبْكم بما سلفَ، وسمحَ لكم بما أخطأْتُم بهِ، ورحمَكم حيثُ بيَّنَ لكم أحكامَهُ الَّتي تُصلِحُ دينَكم ودنياكم، فلهُ الحمدُ تعالى. قالَ اللهُ تعالى..
– الشيخ : إلى هنا بس، حسبُك، اللهُ المستعانُ.