الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الأحزاب/(5) من قوله تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} الآية 12 إلى قوله تعالى {قل من ذا الذي يعصمكم من الله} الآية 17

(5) من قوله تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} الآية 12 إلى قوله تعالى {قل من ذا الذي يعصمكم من الله} الآية 17

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحزاب

الدَّرس: الخامس

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب:12-17]

– الشيخ : إلى هنا، يُخبِرُ تعالى عن حالِ المنافقين والذين في قلوبِهم مرضٌ، مرضُ الشَكِّ، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، هذا ما يقولُه المنافقون تعليقاً على الحدَثِ العظيم، على هذه الشِّدَّةِ، لما رأوا الشِّدَّة وما حَصَلَ من تجمُّعِ الأحزاب حولَ المدينة ومحاصرتِهم المدينة، قال هؤلاء الأشرار الخبثاء: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، يعني: الرسولُ وعدَكُم بالنصر ووعدَكم أن يُنزِلَ عليكم النَّصر ويحصل كذا وكذا وأن يَهزَم أعداءَكم، وهؤلاء الأحزاب قد أحاطوا بكمْ، حتى يقول قائلهم: حتى إنَّ الواحد منهم لا يستطيع أن يقضيَ حاجتَه.

{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} يعني: وعدٌ غيرُ صادقٍ كالغُرور، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}

وفي مقابِلِ ذلكَ المؤمنون الصادقون كما سيأتي ذكرهم، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، هذه مُقابَلَةٌ، فريقانِ بينهما تَضَادٌّ في أحوالِهما وأقوالِهما وعاقبتِهما.

{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}، {طَائِفَةٌ} جماعةٌ من هؤلاء الخُبثاء، من هؤلاء الكاذبون الـمُكذِّبون، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}، يَا أهلَ المدينةِ، كان اسمُ المدينة: "يَثْرِب" ولكن الرسول سَمَّاها: "المدينة"، وصارت لا تُسمَّى إلا المدينة، واسمُها "طَيْبَة"، وأما يثرب: لا، ولهذا المنافقون آثرُوا الاسمَ الجاهليَّ.

{يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ}، يعني لستُمْ بدارِ إقامةٍ الآن، الأحزابُ قد طَوَّقوكم وَسَيَجْتَاحُونَكُم ويُرَحِّلُونَكُم، ما أنتمْ بدارِ مُقامة، {لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، تقاتِلون مَن؟ تقاتِلون الأحزابَ؟ وهذا أسلوبٌ من أساليب الإِرْجَافِ والتَّخذِيلِ، وهذا شأنُ المنافقين والأشرار والجبناء، هذا شأنُهم معَ المجاهدين يُخَذِّلُونَهُم ويَسْتَخِفُّونَهُم ويُرْجِفُونَ بهم.

{يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ}، مِن هؤلاء المنافقين والذين في قلوبِهم مرضٌ، {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ}، أيش؟

– طالب: مِنْهُمُ النَّبِيَّ

– الشيخ : {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ}، يستأذِنون، يستأذِنونَ؛ لأنَّهم كانَ منهم إمَّا أنَّهم يستأذنون قبلَ الخروج ويستأذنون في القعودِ، أو يستأذنون بعدما خرجوا مع المسلمين يستأذِنون بالانصرافِ، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، يعتذرون بأنَّ بيوتَهم ما هي مُحَصَّنَةٌ وعلى أهلِهم خَطَرٌ، {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، فهم يَتَوَسَّلونَ بهذا الاعتذارِ، يَتَوَسَّلونَ؛ للانصرافِ أو لعدمِ الخروجِ أصلاً، {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}

قال الله مُكَذِّبَاً لهم: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًاْ}، هم يُرِيدُونَ الفِرَار، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}، فهم يَتَحَجَّجُون ويعتذِرُون، {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، قال الله: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ}، يعني: المدينة، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا}، لو دَخلَ عليهِم الأحزابُ، ودخلوا عليهم، {ثُمَّ سُئِلُوا} أنْ يَرتدُّوا عن الإسلام ويُعلِنوا الشركَ والتكذيبَ لأعطَوا ما سُئِلُوا، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}

{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} الفرارُ عن الزَّحفِ مِن كبائر الذنوب، ومَنْ يَفِرُّ خوفاً من القَتل أو الموتِ لا يُمتعُ إلا يسيراً، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا}، إذا فَرغْتُم، {إِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}{وإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، نعم اقرأ الآيات.

– القارئ : قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي

– الشيخ : {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} يعني: الله -تعالى- أنتم في قبضةٍ الله يفعل فيكمْ ما يشاء، {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، لا إله إلا الله، {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}

 

(تفسير الشيخ السعدي)

– القارئ : الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديِّ -رحمه الله تعالى-:

وهنالكَ تَبَيَّنَ نفاقُ المنافقين، وظهرَ ما كانوا يُضمِرونَ قال -تعالى-:

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}

وَهَذِهِ عَادَةُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ الشَّدَّةِ وَالْمِحْنَةِ، لَا يَثْبُتُ إِيمَانُهُ، وَيَنْظُرُ بِعَقْلِهِ الْقَاصِرِ، إِلَى الْحَالَةِ الْحَاضِرَةِ وَيُصَدِّقُ ظَنَّهُ.

{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي من مِنْهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، بَعْدَ مَا جَزِعُوا وَقَلَّ صَبْرُهُمْ، صَارُوا أَيْضًا مِنَ المُخَذِّلين، فَلَا صَبَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا تَرَكُوا النَّاسَ مِنْ شَرِّهِمْ، فَقَالَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ يُرِيدُونَ "يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ" فَنَادَوْهُمْ بِاسْمِ الْوَطَنِ الْمُنْبِئِ عَنِ التَّسْمِيَةِ فِيهِ

– الشيخ : عندكم كذا تَسْمِيَة؟

– طالب: حاطلنا [وضع] عند التَّسْمِيَةِ قوسين

– الشيخ : ما ندري عنه.

– طالب: وفيهِ إشارةٌ إلى…

– الشيخ : فيها شيء إشكال، يعني نادَاهُم يقولُ: ما قالوا: يا إخوان، يا أيَّها المؤمنون، يا مسلِمون، الكفار أحاطوا بكمْ وعلينا خطرٌ، لا، قالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}، نادوهم، الشيخُ يقول: نادوهم باسمِ الوطن.

والوطنُ رابطةٌ عاديةٌ بين الناس، عاديةٌ، يعني ما فيه شيء يعني يكونُ الإنسان يحبُّ بلدَه أو يحبُّ جماعتَه هذه أمور عادية طبيعية، لكن المذمومُ بناءُ الإخاءِ وبناءُ الولاءِ والبراءِ عليه بس، هذا هو، هذا هو الشَّرُّ، بناءُ الأُخوَّةِ وبناءُ النُّصرة والتَّناصُرِ على البلدِ، على الوطنِ.

الوطنُ يَجمَعُ بينَ أشتاتِ الناس، يَجمعُ بين البَرِّ والفاجرِ، يَجمعُهم الوطن، والصالح والطالح كلُّهم.

فالتعصُّبُ، التعصُّبُ والتحزُّبُ باسم الوطن هذا طريقةٌ جاهليةٌ، كالتعصبِ للقبيلةِ، حتى التعصب للقبيلة بحيثُ أن يكون الإخاءُ والولاءُ والبراءُ باسمِ القبيلة، محبةُ الإنسان لقبيلتِه لا شيءَ فيها أمرٌ طبيعيٌّ، لكن كونُه ينتصر لهم بالباطلِ ويتعصبُ لهم بالباطلِ هذا هو طريقُ الجاهلية، لا إله إلا الله، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}.

 

– القارئ : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدِّينَ وَالْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ، لَيْسَ لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ قَدْرٌ،

– الشيخ : أي، يعني: ما دَعَوا باسمِ الْأُخُوَّةِ والْإِيمَانِيَّةَ والإسلامِ وكذا لا، الوطن.

– القارئ : وَأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مُجَرَّدُ الْخَوَرِ الطَّبِيعِيِّ.

{يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} أي: فِي مَوْضِعِكُمُ الَّذِي خَرَجْتُمْ إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ،

– الشيخ : يمكن أنَّهم، بدليلِ {فَارْجِعُوا} {فَارْجِعُوا}، يعني هم يُخاطِبون الذين خرجُوا مع الرسول لمواجهةِ العدو، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، ارْجِعُوا، ارْجِعُوا إلى بيتِكم ارْجِعُوا، إلى أهلِكم، وش تقابِلون هذه الجموع، هذه الجيوش! لَا قِبَلَ لكمْ بهمْ.

– القارئ : وَكَانُوا عَسْكَرُوا دُونَ الْخَنْدَقِ، وَخَارِجَ الْمَدِينَةِ

– الشيخ : يعني المسلمون عَسْكَرُوا واتَّخذُوا مَقَرَّاً دونَ الخندق، الخندقُ بينَهم وبينَ العدو.

– القارئ : {فَارْجِعُوا} إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ تَخْذُلُ عَنِ الْجِهَادِ، وَتُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ بِقِتَالِ عَدُّوِهِمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ، أَشَرُّ الطَّوَائِفِ وَأَضَرُّهَا، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى دُونَهُمْ، أَصَابَهُمُ الْجُبْنُ وَالْجَزَعُ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَنْخَزِلُوا عَنِ الصُّفُوفِ، فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْأَعْذَارِ الْبَاطِلَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أَيْ: عَلَيْهَا الْخَطَرُ، وَنَخَافُ عَلَيْهَا أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا الْأَعْدَاءُ، وَنَحْنُ غائبونَ عَنْهَا، فَأْذَنْ لَنَا نَرْجِعْ إِلَيْهَا، فَنَحْرْسُهَا، وَهُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ.

{وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ} أَيْ: مَا قَصْدُهُمْ إِلا فِرَارًا وَلَكِنْ جَعَلُوا هَذَا الْكَلَامَ، وَسِيلَةً وَعُذْرًا لَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ قَلَّ إِيمَانُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثُبُوتٌ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْمِحَنِ.

– الشيخ : الله يرزقنا وإياكم العافية، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، يعني الدُّخَلاء، الدُّخَلاء في الصفوفِ مِن قديم، المنافقون موجودون بعهدِ النَّبيِّ، ولهذا نَزَلَ القرآنُ في كشفِهم وبيانِ حقيقتِهم وذَمِّهِم وما توَعَّدهم الله به، ولا يزال في كلِّ زمانٍ منافقون وفاسقون ومَرْضى قلوبٍ، ما زالَ الناس، وهذا كلُّه ابتلاءٌ وامتحانٌ بينهم، يَبتلي اللهُ الخلقَ بعضَهم ببعضٍ، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، لو شاءَ الله لأَهْلَكَ هؤلاء الأحزاب في الطريق، حتى ما يَصِلُونَ ولا إلى المدينة، قادرٌ على أن يُهْلِكَهُم وهم في الطريق يَخْسِفَ بهم، ويُميتُهُم أو يُرسلَ عليهم عذاباً ويَهلكُون، لكنه له في ذلكَ حكمةٌ، ولهذا قال -تعالى- في وقعةِ أُحُدٍ التي صار على المسلمين فيها ما صار: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]

فالشدائدُ والحوادثُ تكشِفُ حقائقَ الناس، ويتبيَّنُ المؤمنُ الصادق، مثل قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3]، يعني القرآن فيه بيانٌ، سبحان الله! بيانٌ لحِكَمِ الله فيما يجري في هذا الوجود.

 

– القارئ : {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} المدينة {مِنْ أَقْطَارِهَا} أي: لَوْ دَخَلَ الْكُفَّارُ إِلَيْهَا مِنْ نَوَاحِيهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا -لَا كَانَ ذَلِكَ- {ثُمَّ} سُئِلَ هَؤُلَاءِ الْفِتْنَةَ أَيِ: الِانْقِلَابَ عَنْ دِينِهِمْ، وَالرُّجُوعَ إِلَى دِينِ الْمُسْتَوْلِينَ الْمُتَغَلِّبِينَ {لآتَوْهَا} أَيْ: لَأَعْطَوْهَا مُبَادِرِينَ.

{وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا تَصَلُّبٌ عَلَى الدِّينِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لِلْأَعْدَاءِ، يُعْطُونَهُمْ مَا طَلَبُوا، وَيُوَافِقُونَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، هذه

– الشيخ : هذا حالُ أكثرِ الناس، هم مع الـمُتَغَلِّبِ، ما في مبدأ، ما في أصل يَثبُتُون عليه لا، هم مع الـمُتَغَلِّبِ، ليسوا مع الـمُتَغَلِّبِ بصفة أنَّهم مقهورين، لا، بلْ هم مع الـمُتَغَلِّبِ طَائِعِين مُختَارِين، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}، يُعطُون ما طُلِبَ منهم من كلمةِ الكفرِ، يُعطُونَها ولا يَتوقَّفون

– القارئ : هذه حالُهم.

وَالْحَالُ أَنَّهُمْ {قَدْ عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَيَجِدُهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ، فَمَا ظَنُّهُمْ إِذًا بِرَبِّهِمْ؟

{قُلْ} لَهُمْ، لَائِمًا عَلَى فِرَارِهِمْ، وَمُخْبِرًا أَنَّهُمْ لَا يُفِيدُهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} فَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَالْأَسْبَابُ تَنْفَعُ إِذَا لَمْ يُعَارِضْهَا الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، فَإِذَا جَاءَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، تَلَاشَى كُلُّ سَبَبٍ، وَبَطَلَتْ كُلُّ وَسِيلَةٍ، ظَنَّهَا الْإِنْسَانُ تُنْجِيهِ.

{وَإِذًا} حِينَ فَرَرْتُمْ لِتَسْلَمُوا مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ، لِتَنْعَمُوا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّكُمْ {لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً} مَتَاعًا، لَا يُسَوَّى فِرَارُكُمْ، وَتَرْكُكُمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَتَفْوِيتُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمُ، التَّمَتُّعَ الْأَبَدِيَّ، فِي النَّعِيمِ السَّرْمَدِيِّ.

– الشيخ : يا سلام يا ربّ، الله يرزقنا وإياكم.

– القارئ : ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا لَا تُغْنِي عَنِ الْعَبْدِ شَيْئًا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِسُوءٍ، فَقَالَ: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} أَيْ: يَمْنَعُكُمْ {مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} أَيْ: شَرًّا، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الَّذِي لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ إِلَّا هُوَ، وَلَا يَدْفَعُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ

– الشيخ : وهذا معنى: (لا مَانِعَ لـِمَا أَعْطيتَ، ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ)، (لا مَانِعَ لـِمَا أَعْطيتَ، ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ)، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:107]

– القارئ : {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا} يَتَوَلَّاهُمْ، فَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ {وَلا نَصِيرًا} يَنْصُرُهُمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمُ الْمَضَارَّ، فَلْيَمْتَثِلُوا طَاعَةَ الْمُنْفَرِدِ بِالْأُمُورِ كُلِّهَا، الَّذِي نَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ، وَمَضَى قَدَرُهُ، وَلَمْ يَنْفَعْ مَعَ تَرْكِ وِلَايَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَلِيٌّ وَلَا نَاصِرٌ.

ثُمَّ تَوَعَّدَ تعالى..

– الشيخ : إلى هنا، قدّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ، يا سلام.