الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة الأحزاب/(10) من قوله تعالى {يا أيها الذين امنوا اذكروا الله} الآية 41 إلى قوله تعالى {ولا تطع الكافرين والمنافقين} الآية 48

(10) من قوله تعالى {يا أيها الذين امنوا اذكروا الله} الآية 41 إلى قوله تعالى {ولا تطع الكافرين والمنافقين} الآية 48

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة الأحزاب

الدَّرس: العاشر

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:41-48]

– الشيخ : إلى هنا، سبحانَ الله، سبحانَ الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}: هذا إرشادٌ من اللهِ لعبادِه المؤمنينَ أن يذكروهُ ذكرًا كثيرًا بقلوبِهم وألسنتِهم، ثناءً عليه، وتعظيمًا وتمجيدًا له سبحانه، وتنزيهًا له، {اذكروا الله ذكرًا كثيرًا}، وهذا مناسبٌ لما تقدَّمَ من الثناءِ على الذاكرينَ اللهَ كثيرًا والذاكرات؛ فقولُه: {اذكروا الله}: يتضمَّنُ كونوا منهم، كونوا من الذاكرين اللهَ كثيرًا، كونوا من الذاكرين اللهَ كثيرًا.

{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: والتسبيحُ هو من الذكرِ، فيظهرُ -واللهُ أعلمُ- أنَّ هذا من عطفِ الخاصِّ على العامِّ، فقولُه: "اذكروا الله": شاملٌ، يشملُ كلَّ أنواعِ الذكرِ، كلَّ أنواعِ الذكرِ. {اذكروا الله ذكرًا كثيرا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}: بكرةً: أوّلُ النهارِ، بكرةً: أوّلُ النهارِ، والأصيلُ: آخرُ النهارِ، ويدخلُ في هذا أذكارُ الصباحِ وأذكارُ المساءِ، ويدخلُ في ذلك الصلاتان: صلاةُ الفجرِ، وصلاةُ العصرِ، وقد تدخلُ صلاةُ الظهرِ؛ لأنّها من صلاةِ العشي، اللهُ أكبرُ. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف:205]، كثيرًا ما يذكرُ اللهُ، يعني كثيرًا ما يأمرُ ويرشدُ إلى ذكرِه في الصباحِ والمساءِ، في أوّلِ الليلِ، في أوّلِ النهارِ وآخرِه، لا إله إلا الله.

{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا*هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}: فاللهُ وملائكتُه يُصلّونَ على المؤمنينَ، يُصلّونَ عليهم. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}: وبصلاةِ اللهِ وملائكتِه على المؤمنين يُخرجُهم تعالى من الظلماتِ إلى النورِ، اللهُ أكبرُ. وصلاتُه تعالى على عبادِه المؤمنينَ: بذكرِه عند ملائكتِه، وثنائِه عليهم عند ملائكتِه، وكذلك الملائكةُ.

{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}: اللهُ رحيمٌ بالمؤمنين، فاللهُ رحيمٌ، هو الرحمنُ الرحيمُ، واسمُه الرّحمنُ: يدلُّ على الرحمةِ العامّةِ، والرّحيمُ: يدلُّ على الرحمةِ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. وإن كانت رحمتُه عامَّةٌ فللمؤمنينَ من رحمتِه ما يناسبُ حالَهم وإيمانَهم، وحَظُّهم من رحمةِ اللهِ بحسبِ ما معهم من الإيمانِ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}.

{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}: فاللهُ يُحيي المؤمنينَ يومَ القيامةِ، يُحيّيهم بالسلامِ، {سلام قولًا}، {سلام قولًا من ربٍّ رحيم}. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}: وتحيّةُ بعضِهم لبعضٍ وتحيةُ الملائكةِ لهم كذلك، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24]، فتحيَّتُهم من ربّهم، تحيَّتُهم من ربّهم ومن ملائكتِه تحيّتُهم سلام.

ثمَّ قال تعالى موجّهًا الكلامَ للنبيّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا}: شاهدًا على أمّتك، {كنتم خيرَ أمّةٍ} [آل عمران:110]، يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا}: للمؤمنينَ بما أعدَّ اللهُ لهم، {وَنَذِيرًا}: للمخالفين، تحذّرهم عذابَ اللهِ، تُنذرُهم بأسَ اللهِ، فهذه ثلاثُ صفاتٍ وصفَ اللهُ بها نبيَّه، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}. {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}: دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ؛ إلى عبادتِه سبحانَه وتعالى وطاعتِه في أمرِه ونهيه. {دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}: {قل هذه سبيلي}، القرآنُ يُفسّرُ بعضُه بعضًا، ويُصدّقُ بعضُه بعضًا، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].

{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}: السراجُ أعظمُ إضاءةً، وفي هذا وصفَ الشمسَ، الشمسُ سمّاها سِراجًا، فهي أعظمُ إضاءةً من القمرِ، والرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ وُصفَ بأنَّه سراجٌ، ووُصفَ بأنَّه نورٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.

ثمَّ يقولُ تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}، بشّرِ المؤمنين: يعني وصفه أولًا بأنَّ اللهَ أرسلَه بشيرًا ثمَّ أمرَه، أمرَه {وبشّر المؤمنين}، فعُلِمَ أنَّ البِشارةَ للمؤمنين، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ}، بشرّهم بأنَّ لهم، {مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}: جزاءً عظيمًا وأجرًا، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}.

{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}: ينهى اللهُ نبيّه عن طاعةِ الكفارِ، فإنَّ الكفارَ يدعونَه إلى أن يتركَ دعوتَه، يريدونَ منه ومن المؤمنينَ أن يَدَعوا ويتركوا الدينَ الذي هم عليه، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}؛ لا تطعهم في أيِّ أمرٍ مطلقًا، فإنَّ الكفارَ لا يُريدونَ بالمؤمنين، لا يُريدونَ بالمؤمنينَ إلّا الشرَّ، وهذا مصدرُ طاعةِ الكفارِ ومصدرُ كثيرٍ أو أكثرِ الشرورِ التي دخلت على المسلمين سببُها طاعةُ الكفّارِ.

{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}: كذلك المنافقونَ عدوٌّ باطنٌ، عدوٌّ داخليٌّ، المنافقونَ بين المؤمنينَ وهم قد يُشيرونَ ببعضِ الأمورِ غشًا، قد يُشيرونَ على النبيّ أو على آحادِ المؤمنين بأمرٍ هم يعلمونَ أنَّه ليس بخيرٍ، {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}: أعرضْ عنهم، فقد بلّغتَهم، قد بلّغتَهم، وقد أمرَهم بآيةٍ أخرى بجهادِهم؛ {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}، جاهدِ الكفارَ، وهذا بعدما شُرعَ القتالُ، كان جهادُ الكفارِ بالقتالِ مشروعًا، وجهادُ المنافقين يكونُ بالحجّةِ والإنكارِ والزجرِ؛ لأنّهم يُظهرونَ الإسلامَ ويعيشونَ بين الناسِ مسلمين، {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}؛ غلظةً. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}: اعتمدْ على ربّكَ، فاللهُ يكفيكَ شرَّ أعداءِك، فمن توكَّلَ على اللهِ كفاهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]

 

(تفسير السعدي)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيّنا محمّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. قال الشيخُ عبدُ الرحمن السعدي رحمهُ اللهُ تعالى في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} الآيات:

يأمرُ تعالى المؤمنينَ بذكرِه ذكرًا كثيرًا؛ من تهليلٍ وتحميدٍ وتسبيحٍ وتكبيرٍ وغيرِ ذلك، مِن كلِّ قولٍ فيه قُربةٌ إلى الله، وأقلُّ ذلك أن يُلازمَ الإنسانُ أورادَ الصباحِ والمساءِ وأدبارَ الصلواتِ الخمسِ، وعندَ العوارضِ والأسبابِ، وينبغي مداومةُ ذلكَ في جميعِ الأوقاتِ على جميعِ الأحوال.

– الشيخ : اللهُ أكبرُ، المتأمِّلُ لما جاءتْ به السنّةُ يجدُ أنَّ الذّكرَ مع الإنسانِ في كلِّ أحوالِه؛ في مدخلِه ومخرجِه ونومِه ويقظتِه، لكنْ نسألُ اللهَ أن يُلهمنا ذكرَه، اللهمَّ ألهمْنا ذكرَكَ، اللهُ أكبرُ، عند النومِ وعند اليقظةِ وعند دخولِ المنزلِ والخروجِ منه، دخولِ المسجدِ والخروجِ منه، وعند دخولِ الخلاءِ والخروجِ منه، في أحوالٍ كثيرةٍ، لا إله إلا الله، وفي الصباحِ والمساءِ، لا إله إلا الله.

 

– القارئ : فإنَّ ذلك عبادة يسبقُ بها العاملُ، وهو مستريحٌ، وداعٍ إلى محبةِ اللهِ ومعرفتِه، وعونًا على الخيرِ، وكفًا للسانِ عن الكلامِ القبيحِ. {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا}: أي أوّلَ النهارِ وآخرَه، لفضلِهما وشرفِهما وسهولةِ العملِ فيهما.

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} الآية، أي: من رحمتِه بالمؤمنين ولطفِه بهم أنْ جعلَ مِنْ صلاتِه عليهم وثنائِه، وصلاةِ ملائكتِه ودعائِهم؛ ما يُخرجُهم من ظلماتِ الذنوبِ والجهلِ إلى نورِ الإيمانِ والتوفيقِ والعلمِ والعملِ؛ فهذه أعظمُ نعمةٍ أنعمَ بها على العبادِ الطائعين، تستدعي منهمْ شكرَها، والإكثارَ مِن ذكرِ اللهِ الذي لطفَ بهمْ ورحمَهم وجعلَ حَمَلَةَ عرشِه -أفضلَ الملائكةِ  وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فيقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9]، فهذه رحمتُه ونعمتُه عليهم في الدنيا، وأمَّا رحمتُه بهم في الآخرةِ؛ فأجلُّ رحمةٍ، وأفضلُ ثوابٍ، وهو الفوزُ برضا ربّهم وتحيّته، واستماعُ كلامِه الجليلِ، ورؤيةُ وجهِه الجميلِ، وحصولُ الأجرِ الكبيرِ، الذي لا يدريه ولا يعرفُ كنهه إلّا من أعطاهم إيّاه، ولهذا قال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}.

قال اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} الآيات.

هذه الأشياءُ التي وصفَ اللهُ بها رسولَه محمّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- هي المقصودُ من رسالتِه وزبدتِها وأصولِها التي اختصَّ بها، وهي خمسةُ أشياءٍ: أحدُها: كونه {شَاهِدًا} أي: شاهدًا على أمّته بما عملوه من خيرٍ وشرٍّ، كما قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، فهو -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- شاهدُ عدلٍ مقبولٌ.

الثاني، والثالث: كونه {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وهذا يستلزمُ ذكرَ المبشَّرِ والمنذَرِ، وما يُبشّرُ به ويُنذرُ، والأعمالَ الموجبةَ لذلك.

فالمبشَّرُ هم: المؤمنونَ المتقونَ، الذين جمعوا بين الإيمانِ والعملِ الصالحِ، وتركِ المعاصي، {لهم البشرى في الحياةِ الدنيا} [يونس:64]، بكلِّ ثوابٍ دنيويٍّ ودينيٍّ، رتبَّ على الإيمانِ والتقوى، وفي الأخرى بالنَّعيمِ المقيمِ، وذلك كلُّه يستلزمُ ذكرَ تفصيلِ المذكورِ من تفاصيلِ الأعمالِ، وخصالِ التقوى، وأنواعِ الثواب.

والمنذَرُ هم: المجرمونَ الظالمونَ، أهلُ الظلمِ والجهلِ، لهم النذارةُ في الدنيا، من العقوباتِ الدنيويةِ والدينيةِ المرتبةِ على الجهلِ والظلمِ، وفي الأخرى بالعقابِ الوبيلِ والعذابِ الطويلِ. وهذه الجملةُ تفصيلُها، ما جاءَ به -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، من الكتابِ والسنةِ، المشتملِ على ذلك.

الرابع: كونه {دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}: أي أرسلَه اللهُ، يدعو الخلقَ إلى ربّهم، ويُشوّقُهم لكرامتِه، ويأمرُهم بعبادتِه التي خلقوا لها، وذلك يستلزمُ استقامتَه على ما يدعو إليه، وذكرَ تفاصيلِ ما يدعو إليه؛ بتعريفِهم لربِّهم بصفاتِه المقدسةِ، وتنزيهه عمّا لا يليقُ بجلالِه، وذكرِ أنواعِ العبوديّةِ، والدعوةِ إلى اللهِ بأقربِ طريقٍ موصلٍ إليه، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وإخلاصِ الدعوةِ إلى اللهِ، لا إلى نفسِه وتعظيمها، كما قد يعرضُ ذلك لكثيرٍ من النفوسِ في هذا المقامِ، وذلك كلّه بِإِذْنِ…

– الشيخ : لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله، يقولُ الشيخُ محمّدُ بنُ عبد الوهابِ في ذكرِ فوائدِ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]، قال: فيه التنبيهُ على الإخلاصِ؛ فإنَّ كثيرًا وإن دعا إلى اللهِ فإنَّه يدعو إلى نفسِه، يعني طلبًا للشهرةِ وطلبًا للذكرِ ورياءً وسمعةً، فهو عند كثيرٍ من الناسِ وعند أيضًا إضافةِ أنَّه يدعو إلى نفسِه، فيه التنبيهُ، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، ولهذا: الداعونَ إلى اللهِ الدعوةَ الخالصةَ يدعونَ إلى اللهِ ولو ترتّبَ على ذلك ما ترتّبَ من فواتِ حظوظ، من فواتِ حظوظِهم الحسيّةِ والمعنويّةِ، الحظوظِ العاجلةِ، فهم لا يُريدونَ على دعوتِهم أجرًا من الناسِ؛ ثناءً وتعظيمًا أو أموالًا، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، لا إله إلا الله، نعم، هذه الشيخُ يُنبّهُ على هذه المسألةِ كما نبَّهَ عليها الشيخُ في كتابِ "التوحيد".

 

– القارئ : وهذا كلُّه بِإِذْنِ اللهِ تعالى له في الدعوةِ وأمرِه وإرادتِه وقدرِه.

الخامس: كونه {سِرَاجًا مُنِيرًا}، وذلك يقتضي أنَّ الخلقَ في ظلمةٍ عظيمةٍ، لا نورَ يهتدى به في ظلماتِها، ولا علمَ يستدلُّ به في جهلاتِها حتى جاءَ اللهُ بهذا النبيّ الكريمِ؛ فأضاءَ اللهُ به تلكَ الظلماتِ، وعَلَّمَ به من الجهالات، وهدى به ضُلالًا إلى الصراطِ المستقيمِ، فأصبحَ أهلُ الاستقامةِ، قد وضحَ لهم الطريقَ فمشوا خلفَ هذا الإمامِ وعرفوا به الخيرَ والشرَّ، وأهلَ السعادةِ من أهلِ الشقاوةِ، واستناروا به لمعرفةِ معبودِهم، وعرفوه بأوصافِه الحميدةِ، وأفعالِه السديدةِ، وأحكامِه الرشيدةِ.

وقولُه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.

– الشيخ : اللهُ أكبرُ، {وداعيًا إلى الله وسراجًا منيرًا}، لا إله إلا الله، ولكنْ أكثرُ الخلقِ بقوا في ظلماتِهم، أكثرُ الخلقِ بقوا في ظلماتِهم لم يستضيئوا بهذا السراجِ، ولم ينظروا ولم يتبّعوه، سبحانَ اللهِ العظيمِ! اللهُ أكبر، اللهُ أكبر. ثمَّ الذين استناروا واتبّعوه على درجاتٍ وعلى مراتبَ، فالذين استناروا بما جاءَ به النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ بذلك عرفوا ربَّهم، وعرفوا حقوقَه عليهم، وعرفوا حقوقَ بعضِهم على بعضٍ، فإنَّ شريعةَ الإسلامِ متضمّنةٌ لهذا كلّه، ما جاءَ به النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ من الهدى ودينِ الحقِّ، فيه تعريفُ العبادِ بربّهم، وتعريفُهم بحقوقِه عليهم، وتعريفُهم بحقوقِ بعضِهم على بعضٍ، وتعريفُهم حالَ الناسِ بعد البعثِ، وتعريفُهم بالمبدأ والمعادِ؛ فأتباعُ الرسلِ هم أعلمُ الناسِ بحقائقِ الأمورِ، أمَّا الكفارُ والعياذُ باللهِ فلا يعرفونَ مبدأً ولا معادًا ولا ربًا ولا بصيرًا، إن هم إلّا كالأنعامِ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ} [محمد:12]، ما عندهم إلّا الأكلُ والاستمتاعُ، كما تأكلُ الأنعامُ -البهائمُ- بل هم أضلُّ.

 

– القارئ : وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}: ذكرَ في هذه الجملةِ المبشَّرَ؛ وهم المؤمنونَ، وعند ذكرِ الإيمانِ بمفردِه تدخلُ فيه الأعمالُ الصالحةُ، وذكرَ المبشَّرَ به؛ وهو الفضلُ الكبيرُ، أي: العظيمُ الجليلُ، الذي لا يقادر قدره، من النصرِ في الدنيا، وهدايةِ القلوبِ، وغفرانِ الذنوبِ، وكشفِ الكروبِ، وكثرةِ الأرزاقِ الدَّارَّةِ، وحصولِ النِّعمِ السارّةِ، والفوزِ برضا ربّهم وثوابِه، والنجاةِ من سخطِه وعقابِه، وهذا ممّا يُنشّطُ العاملين أن يُذكرَ لهم من ثوابِ اللهِ على أعمالِهم ما به يستعينونَ على سلوك..

– الشيخ : أعظمُ الفضلِ، الفضلُ الكبيرُ الحاصلُ لكلِّ المؤمنين هو مغفرةُ اللهِ ورضوانُه وكرامتُه في الآخرةِ، أمّا الثوابُ العاجلُ فهذا قد يحصلُ وقد لا يحصلُ لعوارضَ ولأسبابٍ جرت بها سننُ اللهِ الكونيةِ، لا إله إلا الله. وأعظمُ الثوابِ العاجلِ ما يجعلُه اللهُ في قلبِ المؤمنين، في قلوبِ المؤمنين من الرضا باللهِ، والرضا عن اللهِ، والقناعةِ، وما يكون في القلوبِ ممّا يُحبّه اللهُ من الأعمالِ؛ من التوكلِ عليه، والخوفِ منه، ومن محبّته ومحبّةِ أوليائِه، وبغضِ أعدائِه. 

 

– القارئ : وهذا ممّا ينشطُ العاملين، أن يذكرَ لهم من ثوابِ اللهِ على أعمالِهم ما به يستعينونَ على سلوكِ الصراطِ المستقيمِ، وهذا من جملةِ حكمِ الشرعِ، كما أنَّ من حكمِه أن يذكرَ في مقامِ الترهيبِ؛ العقوباتُ المرتّبةُ على ما يرهبُ منه؛ ليكون عونًا على الكفِّ عمَّا حرَّمَ اللهُ.

ولما كان ثَمَّ طائفةٌ من الناسِ مستعدةٌ للقيامِ بصدِّ الداعين إلى اللهِ من الرسلِ وأتباعِهم، وهم المنافقون؛ الذين أظهروا الموافقةَ في الإيمانِ، وهم كفرةٌ فجرةٌ في الباطنِ. والكفارُ ظاهرًا وباطنًا نهى اللهُ رسولُه عن طاعتِهم، وحذّره ذلك فقال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي: في كلِّ أمرٍ يصدُّ عن سبيلِ اللهِ، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم؛ بل لا تُطعهم {وَدَعْ أَذَاهُمْ}؛ فإنَّ ذلك جالبٌ لهم، وداعٍ إلى قبولِ الإسلامِ، وإلى كفِّ كثيرٍ..

– الشيخ : يعني لعلَّ الآيةَ هذه يعني في مثل المعاهَدين، أمَّا المحارِبين؛ فالواجبُ حربُهم مع القدرةِ، مع القدرةِ عليه، أمَّا المعاهَدين سواءٌ كانوا فيما بين المسلمين أو كانوا خارجَ إدارةِ المسلمين، فالواجبُ الحذرُ؛ الحذرُ من شرِّهم ومن مشهوراتِهم، الحذرُ من مشهوراتِهم، مع تركِ ظلمِهم.

– القارئ : فإنَّ ذلك جالبٌ لهم، وداعٍ إلى قبولِ الإسلامِ، وإلى كفِّ كثيرٍ من أذيّتِهم له ولأهلِه.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}: في إتمامِ أمرِك، وخذلانِ عدوّكِ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}: تُوكَلُ إليه الأمورُ المهمّةُ، فيقومُ بها، ويُسهلّها على عبدِه.

انتهى.