الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة سبأ/(1) من قوله تعالى {الحمد لله الذي له ما في السماوات} الآية 1 إلى قوله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم} الآية 6

(1) من قوله تعالى {الحمد لله الذي له ما في السماوات} الآية 1 إلى قوله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم} الآية 6

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة سبأ

الدَّرس: الأوَّل

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بــسـمِ اللهِ الرَّحــمــنِ الرَّحـيـمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:1-6]

– الشيخ : إلى هنا، اللهُ المستعانُ، لا إله إلَّا الله، {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هذه سورةُ سبأٍ، سُمِّيَتْ لذكرِها، {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ} [سبأ:15] سُمِّيتْ لذكرِ سبأٍ فيها، سورةُ سبأٍ، وهي مكِّيَّةٌ، افتُتِحَتْ بالحمد كالسورةِ الَّتي بعدها وسورةِ الأنعام والكهفِ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ} لهُ الحمدُ للهِ كلُّه، لهُ الحمدُ كلُّه، لأنَّه الموصوفُ بكلِّ المحامدِ بكلِّ الكمال، فهو المستحقُّ للحمدِ، لا إله إلَّا الله.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هي ملكُهُ، السمواتُ والأرضُ وما فيهنَّ وما فيهنَّ هي له، لأنَّه خالقُها ومالكُها ومدبِّرُها، وهو الحكيمُ، وله الحمدُ في الآخرةِ، كما له الحمدُ في الدُّنيا له الحمدُ في الدُّنيا والآخرةِ، {وَهُوَ الْحَكِيمُ} له الحكمُ وهو ذو الحكمةِ في تدبيره وتقديره، وهو الخبيرُ بكلِّ صغيرٍ وكبيرٍ.

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ما يلجُ: ما يدخلُ في الأرضِ، ماذا يدخلُ في الأرض؟ يدخلُ فيها، فكِّرْ وشوف، تأمَّلْ، ماذا يدخلُ في الأرض من الأشياءِ؟ لأنَّ "ما" من صيغ العمومِ عند أهلِ العلمِ، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ما يدخلُ فيها، يعني: يدخلُ فيها الحيواناتُ في جحورها ومساكنها وما أعدَّ لها، ويدخلُ فيها ما يغورُ من الماء فيها وما يدخلُ… وهكذا، بل وما يدخلُ فيها من عروقٍ، من عروقِ النباتِ، العروقُ عروقُ الأشجار والنباتِ تلجُ، تلجُ في الأرض وتدخلُ في الأرض، كلَّ ذلك يشملُه علمُه.

{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} كذلك، يخرجُ منها أشياءُ وأشياءُ، تخرجُ منها وتُخرَجُ منها وهكذا سبحان الله العظيم، النباتُ يخرجُ من الأرض أنواع النبات، وكذلكَ تخرجُ منها الحيوانات الَّتي تكون فيها تخرج، فهو يعلمُ ما يدخلُ وما يخرجُ، ما يدخلُ في الأرض وما يخرجُ من الأرضِ.

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الأملاكِ، وما ينزلُ من السماءِ من الأرزاقِ، وما ينزلُ من الأمطار، وما ينزلُ من السماء من الحيوانات الَّتي تسبحُ في الهواء ثمَّ تنزلُ.

{يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعدُ إليها، فالحركةُ مستمرَّةٌ نزولاً و… اللهُ أكبرُ، نزولاً وعروجاً وصعوداً وهبوطاً، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، وهو الرحيمُ، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} وتدابيرُه وأفعالُه مشتملةٌ على الرحمة، وهو الغفورُ لعبادِهِ، وهو كثيرُ الرحمةِ واسعُ المغفرةِ، سبحانَ اللهِ، وكثيراً ما يقرنُ اللهُ بينَ هذين الاسمين، الغفورُ الرحيمُ، لكنَّ أكثرَ الآياتِ فيها تقديمُ الغفورِ، أمَّا في هذه الآيةِ فجاءَ… يعني هي الوحيدةُ الَّتي فيها تقديمُ الرحيمِ –واللهُ أعلمُ- هي على الغفورِ، ولعلَّ -واللهُ أعلمُ- أنَّ هذا فيه مناسبتان:

أوَّلاً: اقترانُ العلمِ بالرحمةِ؛ ليتَّصلَ ذكرُ الرحمةِ بالعلمِ، يعلمُ، كما قالَت الملائكةُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]

والأمرُ الثاني: يقولُ أهلُ اللُّغة وأهلُ البيانِ: فيه رعايةُ فواصلِ الآياتِ؛ لأنَّ هذه السورةَ على هذا النحو "الخبيرُ، الغفورُ، القديرُ" يجري على هذا المنوالِ "الكبير" ففي تقديمِ الرَّحيمِ على الغفورِ، فيه يعني تتحقَّقُ فيه، تناسب بين الآيات في نسقِها وأسلوبها، وهو الحكيمُ الخبيرُ وهو الرحيمُ الغفورُ، وهكذا.

ثمَّ يذكرُ سبحانه وتعالى ما يقولُه الكفرةُ المكذِّبون للرسولِ فيما أخبرَهم به من أمرِ الساعةِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى} هذا ردٌّ عليهم، {قُلْ بَلَى} وأمرَه أن يقسمَ على ذلك، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وهذا نظيرُ قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]

{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فهو يعلمُ ما يذهبُ في الأموات و… قد علمْنا ما تنقصُ الأرضُ منهم وهكذا.

{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} والكلُّ في كتابٍ مبينٍ، وهو أم الكتاب، أمُّ الكتابِ اللوحُ المحفوظُ الَّذي كتبَ اللهُ فيه كلَّ شيءٍ، كلُّ ما هو كائنٌ نعم.

ثمَّ قال سبحانه: {وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ … إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ} ثمَّ يبيِّنُ اللهُ سبحانه وتعالى من خلقِ هذا الوجودِ ومن حكمِه بوقوعِ الساعةِ ومجيئِها وبعثِ الأمواتِ، الحكمةُ في ذلك: ليجزي، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}

ويجزي الآخرين الكافرين المعارضين لآياتِ اللهِ الَّذين يسعون في آياتِ اللهِ معاندين ومعاجزين، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} فاللهُ سبحانه وتعالى هذا… ليجزيَ الَّذين أساؤُوا بما عملوا ويجزي الَّذين أحسنوا بالحسنى {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22]

 

(تفسيرُ السَّعديِّ)

– القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ -رحمَهُ اللهُ تعالى-:

تفسيرُ سورةِ سبأٍ وهيَ مكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} الآياتَ:

الحمدُ: الثَّناءُ بالصِّفاتِ الحميدةِ، والأفعالِ الحسنةِ، فللهِ تعالى الحمدُ؛ لأنَّ جميعَ صفاتِهِ، يُحمَدُ عليها، لكونِها صفاتَ كمالٍ، وأفعالُهُ، يُحمَدُ عليها؛ لأنَّها دائرةٌ بينَ الفضلِ الَّذي يُحمَدُ عليهِ ويُشكَرُ، والعدلِ الَّذي يُحمَدُ عليهِ ويُعترَفُ بحكمتِهِ فيهِ.

وحمدَ نفسَهُ هنا، على أنَّ {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ملكاً وعبيداً، يتصرَّفُ فيهم بحمدِهِ. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ} لأنَّ في الآخرةِ، يظهرُ مِن حمدِهِ، والثَّناءِ عليهِ، ما لا يكونُ في الدُّنيا، فإذا قضى اللهُ تعالى بينَ الخلائقِ كلِّهم، ورأى النَّاسُ والخلقُ كلُّهم، ما حكمَ بهِ، وكمالَ عدلِهِ

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله

– القارئ : وكمالَ عدلِهِ وقسطِهِ، وحكمتِهِ فيهِ، حمدُوهُ كلُّهم على ذلكَ، حتَّى أهلُ العقابِ ما دخلُوا النَّارِ، إلَّا وقلوبُهم ممتلئةٌ مِن حمدِهِ، وأنَّ هذا

– الشيخ : لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله، لا إله إلَّا الله

– القارئ : وأنَّ هذا مِن جراءِ أعمالِهم، وأنَّهُ عادلٌ في حكمِهِ بعقابِهم.

وأمَّا ظهورُ حمدِهِ في دارِ النَّعيمِ والثَّوابِ، فذلكَ شيءٌ قد تواردَتْ بهِ الأخبارُ، وتوافقَ عليهِ الدَّليلُ السَّمعيُّ والعقليُّ

– الشيخ : أمَّا أهلُ الجنَّةِ ففيه مثل قوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] فهم يحمدونَه سبحانه وتعالى على فضلِه وإنعامِه، لا إله إلَّا الله، وذكرَ في قولهِ، يعني استشهدَ بما ذكرَه الشيخُ من حمدِ جميع الناسِ له في الآخرةِ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] في آخرِ سورةِ الزمر، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ} شاملٌ، إذ لم يذكرْ الفاعلَ، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} معناهُ: أنَّه يحمده على أفعاله وعلى حكمِه وأحكامِه كلُّ أحدٍ.

 

– القارئ : فإنَّهم في الجنَّةِ، يرونَ مِن توالي نعمِ اللهِ، وإدرارِ خيرِهِ، وكثرةِ بركاتِهِ، وسعةِ عطاياهُ، الَّتي لم يبقَ في قلوبِ أهلِ الجنَّةِ أمنيةٌ، ولا إرادةٌ، إلَّا وقد أُعطِيَ فوقَ ما تمنَّى وأرادَ، بل يُعطَونَ مِن الخيرِ ما لم تتعلَّقْ بهِ أمانيهم، ولم يخطرْ بقلوبِهم.

فما ظنُّكَ بحمدِهم لربِّهم في هذهِ الحالِ، معَ أنَّ في الجنَّةِ تضمحلُّ العوارضُ والقواطعُ، الَّتي تقطعُ عن معرفةِ اللهِ ومحبَّتِهِ والثَّناءِ عليهِ، ويكونُ ذلكَ أحبَّ إلى أهلِها مِن كلِّ نعيمٍ، وألذَّ عليهم مِن كلِّ لذَّةٍ، ولهذا إذا رأَوا اللهَ تعالى، وسمعُوا كلامَهُ عندَ خطابِهِ لهم، أذهلَهم ذلكَ عن كلِّ نعيمٍ، ويكونُ الذِّكرُ لهم في الجنَّةِ، كالنَّفسِ، متواصلاً في جميعِ الأوقاتِ، هذا إذا أضفْتَ ذلكَ إلى أنَّهُ يظهرُ لأهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ كلَّ وقتٍ مِن عظمةِ ربِّهم، وجلالِهِ، وجمالِهِ، وسعةِ كمالِهِ، ما يوجبُ لهم كمالَ الحمدِ، والثَّناءِ عليهِ.

{وَهُوَ الْحَكِيمُ} في ملكِهِ وتدبيرِهِ، الحكيمُ في أمرِهِ ونهيِهِ. {الْخَبِيرُ} المطَّلعُ على سرائرِ الأمورِ وخفاياها ولهذا فصَّلَ علمَهُ بقولِهِ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ} أي: مِن مطرٍ، وبذرٍ، وحيوانٍ {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِن أنواعِ النَّباتاتِ، وأصنافِ الحيواناتِ {وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ} مِن الأملاكِ والأرزاقِ والأقدارِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مِن الملائكةِ والأرواحِ وغيرِ ذلكَ.

ولمَّا ذكرَ مخلوقاتَهُ وحكمتَهُ فيها، وعلمَهُ بأحوالِها، ذكرَ مغفرتَهُ ورحمتَهُ لها، فقالَ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي: الَّذي الرَّحمةُ والمغفرةُ وصفُهُ، ولم تزلْ آثارُهما تنزلُ على العبادِ كلَّ وقتٍ بحسبِ ما قامُوا بهِ مِن مقتضياتِهما.

قالَ اللهُ تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} الآياتَ:

لمَّا بيَّنَ تعالى، عظمتَهُ، بما وصفَ بهِ نفسَهُ، وكانَ هذا موجباً لتعظيمِهِ وتقديسِهِ، والإيمانِ بهِ، ذكرَ أنَّ مِن أصنافِ النَّاسِ، طائفةٌ لم تَقْدُرْ ربَّها حقَّ قدرِهِ، ولم تعظِّمْهُ حقَّ عظمتِهِ، بل كفرُوا بهِ، وأنكرُوا قدرتَهُ على إعادةِ الأمواتِ، وقيامِ السَّاعةِ، وعارضُوا بذلكَ رسلَهُ فقالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: باللهِ وبرسلِهِ، وبما جاؤُوا بهِ، فقالُوا بسببِ كفرِهم: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي: ما هيَ، إلَّا هذهِ الحياةُ الدُّنيا، نموتُ ونحيا. فأمرَ اللهُ رسولَهُ أنْ يردَّ قولَهم ويبطلَهُ، ويقسمَ على البعثِ، وأنَّهُ سيأتيهم، واستدلَّ على ذلكَ بدليلِ مَن أقرَّ بهِ، لزمَهُ أنْ يصدِّقَ بالبعثِ ضرورةً، وهوَ علمُهُ تعالى الواسعُ العامُّ فقالَ: {عَالِمِ الْغَيْبِ} أي: الأمورِ الغائبةِ عن أبصارِنا، وعن علمِنا، فكيفَ بالشَّهادةِ؟"

ثمَّ أكَّدَ علمَهُ فقالَ: {لا يَعْزُبُ عَنهُ} أي: لا يغيبُ عن علمِهِ {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} أي: جميعَ الأشياءِ بذواتِها وأجزائِها، حتَّى أصغرُ ما يكونُ مِن الأجزاءِ، وهوَ المثاقيلُ منها.

{وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: قد أحاطَ بهِ علمُهُ، وجرى بهِ قلمُهُ، وتضمَّنَهُ الكتابُ المبينُ، الَّذي هوَ اللَّوحُ المحفوظُ، فالَّذي لا يخفى عن علمِهِ مثقالَ الذَّرَّةِ فما دونَهُ، في جميعِ الأوقاتِ، ويعلمُ ما تنقصُ الأرضِ مِن الأمواتِ، وما يبقى مِن أجسادِهم، قادرٌ على بعثِهم مِن بابِ أولى، وليسَ بعثُهم بأعجبَ مِن هذا العلمِ المحيطِ.

ثمَّ ذكرَ المقصودَ مِن البعثِ فقالَ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبِهم، صدَّقُوا اللهَ، وصدَّقُوا رسلَهُ تصديقاً جازماً، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تصديقاً لإيمانِهم. {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبِهم، بسببِ إيمانِهم وعملِهم، يندفعُ بها كلُّ شرٍّ وعقابٍ. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} بإحسانِهم، يحصلُ لهم بهِ كلُّ مطلوبٍ ومرغوبٍ، وأمنيةٍ.

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي: سعَوا فيها كفراً بها، وتعجيزاً لمَن جاءَ بها، وتعجيزاً لمن أنزلَها، كما عَجَّزُوهُ في الإعادةِ بعدَ الموتِ

– الشيخ : يعني: نسبُوا إليه العجزَ هذا معناه، عجّزُوه نسبُوا إليه العجزَ

– القارئ : في الإعادةِ بعدَ الموتِ. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أي: مؤلمٌ لأبدانِهم وقلوبِهم.

قالَ اللهُ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآيةَ:

لمَّا ذكرَ تعالى إنكارَ مَن أنكرَ البعثَ، وأنَّهم يرونَ ما أُنزِلَ على رسولِهِ ليسَ بحقٍّ، ذكرَ حالةَ الموفّقينَ مِن العبادِ، وهم أهلُ العلمِ، وأنَّهم يرونَ ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ مِن الكتابِ، وما اشتملَ عليهِ مِن الأخبارِ، هوَ الحقُّ، أي: الحقُّ منحصِرٌ فيهِ، وما خالفَهُ وناقضَهُ، فإنَّهُ باطلٌ، لأنَّهم وصلُوا مِن العلمِ إلى درجةِ اليقينِ.

ويرونَ أيضاً أنَّهُ في أوامرِهِ ونواهيهِ {يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وذلكَ أنَّهم جزمُوا بصدقِ ما أخبرَ بهِ مِن وجوهٍ كثيرةٍ: مِن جهةِ علمِهم بصدقِ مَن أخبرَ بهِ، ومِن جهةِ موافقتِهِ للأمورِ الواقعةِ، والكتبِ السَّابقةِ، ومِن جهةِ ما يشاهدونَ مِن أخبارِها، الَّتي تقعُ عياناً، ومِن جهةِ ما يشاهدونَ مِن الآياتِ العظيمةِ الدَّالَّةِ عليها في الآفاقِ وفي أنفسِهم ومِن جهةِ موافقتِها، لما دلَّتْ عليهِ أسماؤُهُ تعالى وأوصافُهُ.

ويرونَ في الأوامرِ والنَّواهي، أنَّها تهدي إلى الصِّراطِ المستقيمِ، المتضمِّنِ للأمرِ بكلِّ صفةٍ تزكِّي النَّفسَ، وتنمّي الأجرَ، وتفيدُ العاملَ وغيرَهُ، كالصِّدقِ والإخلاصِ وبرّ الوالدينِ، وصلةِ الأرحامِ، والإحسانِ إلى عمومِ الخلقِ، ونحوِ ذلكَ. وتنهى عن كلِّ صفةٍ قبيحةٍ، تدنِّسُ النَّفسَ، وتحبطُ الأجرَ، وتوجبُ الإثمَ والوزرَ، مِن الشِّركِ، والزِّنا، والرِّبا، والظُّلمِ في الدِّماءِ والأموالِ، والأعراضِ.

وهذهِ منقبةٌ لأهلِ العلمِ وفضيلةٌ، وعلامةٌ لهم، وأنَّهُ كلَّما كانَ العبدُ أعظمَ علماً وتصديقاً بأخبارِ ما جاءَ بهِ الرَّسولُ، وأعظمَ معرفةً بِحِكَمِ أوامرِهِ ونواهيهِ، كانَ مِن أهلِ العلمِ الَّذينَ جعلَهم اللهُ حجَّةً على ما جاءَ بهِ الرَّسولُ، احتجَّ اللهُ بهم على المكذِّبينَ

– الشيخ : يعني حجَّةً على يعني: دليلاً على، يعني: دليلاً على

– القارئ : احتجَّ اللهُ بهم على المكذِّبينَ المعاندينَ، كما في هذهِ الآيةِ وغيرِها. انتهى.