الرئيسية/شروحات الكتب/تفسير القرآن الكريم للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر البراك/تفسير سورة سبأ/(3) من قوله تعالى {ولقد آتينا داوود منا فضل} الآية 9 إلى قوله تعالى {فلما قضينا عليه الموت} الآية 14

(3) من قوله تعالى {ولقد آتينا داوود منا فضل} الآية 9 إلى قوله تعالى {فلما قضينا عليه الموت} الآية 14

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تفسير الشَّيخ عبدالرَّحمن بن ناصر البرَّاك / سورة سبأ

الدَّرس: الثَّالث

***     ***     ***

 

– القارئ : أعوذُ بالله من الشيطانِ الرجيمِ:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:9-14]

– الشيخ : إلى هنا، لا إلهَ إلا الله، داودُ وسليمانُ -عليهما السلام- هم مِن أنبياءِ بني إسرائيل، قَصَّ اللهُ علينا شيئاً مِن أخبارهِما -داودُ وسليمانُ- في سورة الانبياء: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} إلى قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء:78-81]

وكذلك ذكرَ قِصَّتَهُما في سورة النَّمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ*وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ} [النمل:16،15] إلى آخرِ القصة.

وهنا يقولُ سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} يَدخلُ في ذلكَ النُّبوةُ، أولُ ما يَدخلُ في ذلكَ النُّبوةُ، آتاهُ النبوةَ، جعلَه نبيًا، وجعلَه خليفةً في الأرض يحكمُ بين الناسِ بالحقِّ.

وذكرَ أيضاً داودَ وسليمانَ في قصةِ "ص".

إذاً فلهما -عليهما السلام- لهما شأنٌ، وأخبارُهُما فيها علمٌ، ولهذا اللهُ -تعالى- ذكرَهُما وذكرَ من شأنَهُما {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} وسخَّر الجبالَ معَ داودَ، الجبالُ والطيرُ تُسَبِّحُ معَه {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ*إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ*وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ*وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} وهما نبيانِ ومَلِكَانِ،  هما مَلِكَانِ، جَمَعَ اللهُ لهما بين الـمُلْكِ والنبوةِ.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} الله -تعالى- سَخَّرَ وأَمَرَ الجبالَ والطيرَ تُسبِّحُ معه، وفي هذا فضيلة له -عليه السلام- يَدُلُّ ذلكَ على كَثرةِ تسبيحِهِ، وحُسْنِ صوتِهِ بالتسبيحِ، كما يُقالُ: تَتَنَاغَمُ مع تسبيحِهِ، ولَه صَوتٌ حَسَنٌ كما قالَ النبي -عليه الصلاة والسلام- لأبي موسى: (لَقَدْ أُوْتِيَ هذا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاودَ) مِنْ حُسْنِ صوتِهِ.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ*أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} سبحانَ اللهِ! إذًا هو صانعٌ، ماذا يصنعُ؟ يصنعُ الدُّروعَ التي يَلْبَسُهَا المقاتِلُ؛ لِيَتَّقِي بها السلاحَ والطَعَنَاتِ والضَّرَبَات {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} الدِّرْعُ السَّابِغُ: هو الدِّرْعُ الذي يُغَطِّي كلَّ البَدَنِ {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

ثم قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} يعني: سَخَّرْنَا لسليمانَ الرِّيحَ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} في السورةِ الأخرى في "ص" سألَ رَبَّهُ أنْ يُؤْتِيَهُ مُلْكَاً لا يَنبغي لأحدٍ مِن بعدِهِ {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} تقطعُ في الغَدْوةِ في الصباحِ مسافةَ شهرٍ، وكذلكَ في المساءِ مسافةَ شهرٍ غُدُوها شهرٌ، الغُدُوُّ: هو الذهابُ أو السيرُ في الصباحِ، والرواحُ: هو السيرُ في المساءِ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}

وكذلك سَخَّرَ له عَيْنَ الْقِطْرِ {أَسَلْنَا} يعني جعلنا {عَيْنَ الْقِطْرِ} تسيلُ، كما أَلَانَ الحديدَ لداودَ، أَلَانَ حتى يتصرَّفَ فيه يعني يصبحُ كالعجينةِ يَعملُ منها الدُّروعَ، كأنَّه لا يحتاجُ -والله أعلم- إلى نارٍ تُصرُّ الحديدَ، لا. وهكذا سليمانُ سَخَّرَ له عَيْنَ الْقِطْرِ. قال المفسرون: الْقِطْرِ: هو النحاسُ كذلك يتصرَّفُ فيهِ.

وسخرَ اللهُ لسليمانَ الجِنَّ يُصَرِّفُهُم ويُدبِّرُهُم وهمْ طائعونَ لأمرِهِ لا يستطيعونَ الامتناعَ مما يأمرُهُم بِه، قال الله: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} فهم مُكلَّفُون تكليفًا شرعيًا مُسَخَّرُونَ تسخيرًا كونيًا لسليمانَ -عليه السلام-، هذا أمرٌ عَجَبٌ! سبحان الله!

ويَعْمَلُونَ لَه أشياء {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ} الجِفَان هي الصِّحَاف، الصِّحَاف التي يُجعَلُ فيها الطعام، وصِحَافٌ عظيمةٌ {كَالْجَوَابِ} وَقُدُورٍ كبيرةٍ رَاسِيَاتٍ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} هذا هو الغاية، المطلوبُ مِن العِبادِ إذا انعمَ الله عليهمْ نِعَم، المطلوبُ منهم الشكر.

{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ*فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ} لما ماتَ سليمانُ ما درى الجنُّ أنه ماتَ، وكانوا يَعملون يَكَدُّونَ يَكْدَحونَ يُجهِدُونَ؛ خوفاً منْ سليمانَ، وماتَ سليمانُ وما دَرَوا {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} بالنَّصْبِ {مِنْسَأَتَهُ} "مِنْ" ليستْ حرفَ جَرِّ، "مِنْ" هذهِ جزءُ الكلمةِ، يُقالُ لها الـمِنْسَأةُ وهي العَصَا.

 {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ} يعني: سَقَطَ {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} يعني: عرفوا أنَّهم لا يَعرفونَ الغيبَ وكانوا يَظُنُّونَ أنَّهم يَعلمونَ الغيبَ، والله أعلم.

 

(تفسير السعدي):

– القارئ : بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم، الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين. قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديّ -رحمَه اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ -تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} الآيات

أَيْ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى عَبْدِنَا وَرَسُولِنَا دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {وَآتَيْنَاهُ} فَضْلًا مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِ: مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِ -تَعَالَى- الْجَمَادَاتِ

– الشيخ : الْجَمَادَاتِ: الجبال

– القارئ : كَالْجِبَالِ، وَالْحَيَوَانَاتِ: مِنَ الطُّيُورِ، أَنْ تُؤَوِّبَ مَعَهُ، وَتُرَجِّعَ التَّسْبِيحَ بِحَمْدِ رَبِّهَا، مُجَاوَبَةً لَهُ،

– الشيخ : "مُجَاوَبَةً" تتجاوبُ معَه، إذا سبَّحَ تُرَدِّدُ الجبالُ والطيرُ معَه، سبحانَ اللهِ العظيم!

– القارئ : وَفِي هَذَا مِنَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، أَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُنْهِضًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَلَى التَّسْبِيحِ إِذَا رَأَوْا هَذِهِ الْجَمَادَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، تَتَجَاوَبُ بِتَسْبِيحِ رَبِّهَا، وَتَمْجِيدِهِ، وَتَكْبِيرِهِ، وَتَحْمِيدِهِ، كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُهَيِّجُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-.

الشيخ : إذا سمِعَ الإنسانُ الناسَ في الحجِّ يُلَبُّونَ تتحرَّكُ نفسُه للتلبيةِ فيُلبي، إذا سمِعَ الإنسانُ الناسَ يُكبِّرون ويذكرونَ الله كذلكَ تتحرَّكُ نفسُ المؤمن فتطمحُ النفسُ إلى المـُشاركة في هذا الخير .

– القارئ : وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ طَرَبًا بِصَوْتِ دَاوُدَ

– الشيخ : أنه طَرَبٌ لصوت داود

– القارئ : أنه طَرَبٌ بصوتِ داودَ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَعْطَاهُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا فَاقَ بِهِ غَيْرَهُ، وَكَانَ إِذَا رَجَّعَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ الرَّخِيمِ الشَّجِيِّ الْمُطْرِبِ، طَرِبَ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، حَتَّى الطُّيُورُ وَالْجِبَالُ، وَسَبَّحَتْ بِحَمْدِ رَبِّهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَعَلَّهُ لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ تَسْبِيحِهَا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ ذَلِكَ، وَتُسَبِّحُ تَبَعًا لَهُ.

وَمِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِ، أَنْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ، لِيَعْمَلَ الدُّرُوعَ السَّابِغَاتَ، وَعَلَّمَهُ -تَعَالَى- كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ، بِأَنْ يُقَدِّرَهُ فِي السَّرْدِ، أَيْ: يُقَدِّرُهُ حَلَقًا، وَيَصْنَعُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ،

قال -تعالى-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} وَلَمَّا ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَمَرَهُ

– الشيخ : ولعلَّ صناعةَ داودَ للدروعِ بدايةُ، هي بدايةُ هذا النوعِ مِن عُدَّةِ الحرب، الدروعُ من عُدَّة الحرب، يَتَّقِي بها المقاتلُ والفارسُ يَتَّقِي بها الضَّرباتِ وطَعَنَاتِ الرِّماحِ وضَرَبَاتِ السِّهام.

 

– القارئ : وَلَمَّا ذَكَرَ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ أَمَرَهُ بِشُكْرِهِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا صَالِحًا، وَيُرَاقِبُوا اللَّهَ -تَعَالَى- فِيهِ، بِإِصْلَاحِهِ وَحِفْظِهِ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ،

– الشيخ : الله أكبر {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}

– القارئ : بِأَعْمَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ.

قال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} الآيات.

لَمَّا ذَكَرَ فَضْلَهُ عَلَى دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَكَرَ فَضْلَهُ عَلَى ابْنِهِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ وَتَحْمِلُهُ وَتَحْمِلُ جَمِيعَ مَا مَعَهُ، وَتَقْطَعُ الْمَسَافَةَ الْبَعِيدَةَ جِدًّا فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، فَتَسِيرُ فِي الْيَوْمِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ.

{غُدُوُّهَا شَهْرٌ} أَيْ: أَوَّلُ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ {وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} مِنَ الزَّوَالِ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ.

{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أَيْ: سَخَّرْنَا لَهُ عَيْنَ النُّحَاسِ، وَسَهَّلْنَا لَهُ الْأَسْبَابَ، فِي اسْتِخْرَاجِ مَا يَسْتَخْرِجُ مِنْهَا مِنَ الْأَوَانِي وَغَيْرِهَا.

وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ -أَيْضًا- الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْتَعْصُوا عَنْ أَمْرِهِ، {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} وَأَعْمَالُهُمْ كُلُّ مَا شَاءَ سُلَيْمَانُ عَمِلُوهُ.

{مِنْ مَحَارِيبَ} وَهُوَ كُلُّ بِنَاءٍ يُعْقَدُ وَتُحْكَمُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ، فَهَذَا فِيهِ ذِكْرُ الْأَبْنِيَةِ الْفَخْمَةِ، {وَتَمَاثِيلَ} أَيْ: صُوَرَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، مِنْ إِتْقَانِ صَنْعَتِهِمْ، وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ

– الشيخ : ولعلَّ هذا -والله أعلم- مما يجوزُ في شرعِ سليمان يعني صنعُ التماثيل، أو أنَّ ذلكَ خاصٌّ بهمْ فيما تعملُهُ الجِنُّ {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}

أمَّا في شريعتِنا فلا يجوزُ صنعُ التماثيلِ التي على تماثيلِ الأحياءِ والحيواناتِ.

 

– القارئ : وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَمَلِهِمْ لِسُلَيْمَانَ {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أَيْ: كَالْبِرَكِ الْكِبَارِ، يَعْمَلُونَهَا لِسُلَيْمَانَ لِلطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، {وَ}يَعْمَلُونَ لَهُ {قُدُورًا رَاسِيَاتٍْ لَا تُزَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا مِنْ عِظَمِهَا.

– الشيخ : كبيرة، قدورٌ كبيرةٌ، تُطبَخُ فيها اللُّحوم الكثيرة، مُلْكٌ، مُلْكٌ عندَه -عليه السلام-

– القارئ : فَلَمَّا ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ أَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا فَقَالَ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ} وَهُمْ دَاوُدُ، وَأَوْلَادُهُ، وَأَهْلُهُ، لِأَنَّ الْمِنَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَالِحِ عَائِدٌ لِكُلِّهِمْ. {شُكْرًا} لِلَّهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ، وَمُقَابَلَةً لِمَا أَوْلَاهُمْ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا اللَّهَ -تَعَالَى- عَلَى مَا أَوْلَاهُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَدَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ.

وَالشُّكْرُ: اعْتِرَافُ الْقَلْبِ بِمِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلَقِّيهَا افْتِقَارًا إِلَيْهَا، وَصَرْفُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَوْنُهَا عَنْ صَرْفِهَا فِي الْمَعْصِيَةِ.

فَلَمْ يَزَلِ الشَّيَاطِينُ يَعْمَلُونَ لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كُلَّ بِنَاءٍ، وَكَانُوا قَدْ مَوَّهُوا عَلَى الْإِنْسِ، وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَيَطَّلِعُونَ عَلَى الْمَكْنُونَاتِ، فَأَرَادَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنْ يُرِيَ الْعِبَادَ كَذِبَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى، فَمَكَثُوا يَعْمَلُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَقَضَى اللَّهُ الْمَوْتَ عَلَى سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، وَهِيَ الْمِنْسَأَةُ، فَصَارُوا إِذَا مَرُّوا بِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا، ظَنُّوهُ حَيًّا، وَهَابُوهُ، فَغَدَوْا عَلَى عَمَلِهِمْ

– الشيخ : يقولُ المفسرون: كانَ يُصلِّي مُتَّكِئَاً على العصا، فَقَضَى اللهُ عليه الموتُ وهو على هذه الحالِ، فَبَقِي قائماً، والجِنُّ يَرَونَه يظنونه قائماً الآن، فهم يَكُدُّونَ ويَكدَحُونَ؛ خائفينَ، ما دَرَوا، حتى سقطَ لـَمَّا أكلتِ الدابةُ العصا انكسرَ العصا فسقطَ -عليه السلام- هكذا، والله أعلم.

– القارئ : فَغَدَوْا عَلَى عَمَلِهِمْ كَذَلِكَ سَنَةً كَامِلَةً عَلَى مَا قِيلَ،

– الشيخ : "عَلَى مَا قِيلَ" اللهُ أعلمُ بالمدَّةِ يمكن شهر، يمكن أكثر، يمكن أقلّ.

– القارئ : حَتَّى سُلِّطَتْ دَابَّةُ الْأَرْضِ عَلَى عَصَاهُ، فَلَمْ تَزَلْ تَرْعَاهُ، حَتَّى بَادَتْ وَسَقَطَتْ

– الشيخ : دَابَّةُ الْأَرْضِ تُسمَّى الأَرَضَة يعني حشرةٌ أو دودةٌ، سبحان الله! تعملُ في الخشبِ وتُفرِزُ فيها مادةً من عندِها، أو تنقلُ شيئًا باستمرارٍ حتى تَفسُدَ الخشبةَ الصلبةَ القويةَ فتصبحَ هَشَّةً ضعيفةً، فالعصا هذه عَمِلَت فيها الدَّابَّةُ حتى فَسَدَتِ العصا وصارتْ نَخِرَةً فانكسرتِ العصا.

 – القارئ : فَسَقَطَ سُلَيْمَانُ -عليهِ السَّلامُ- وَتَفَرَّقَتِ الشَّيَاطِينُ وَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ أَنَّ الْجِنَّ {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}

– الشيخ : اصبرْ اصبرْ، لا إله إلا الله، ما هو اللي تَبَيَّنَ الْجِنُّ، الجِنُّ أنفسُهم عرَفوا أنفسَهم {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} الذين تَبَيَّنَ لهمْ، هم تَبَيَّنَوا أنَّهم واهمونَ أو كاذبونَ {تَبَيَّنَتِ} الآيةُ صريحةٌ {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} يعني المعنى عرفتِ الجنُّ {أنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.

 

– القارئ : وَهُوَ الْعَمَلُ الشَّاقُّ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا مَوْتَ سُلَيْمَانَ، الَّذِي هُمْ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَيْهِ، لِيَسْلَمُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ. انتهى.

– الشيخ : الله المستعان، سبحان الله! سبحان الله! شوف تفسير ابن كثير على الآية {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} الآية واضحة.. لا إله إلا الله، قَدَّرَ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ، لا إله إلا الله. {فَلَمَّا خَرَّ} أَيْ: سَقَطَ.

– القارئ : قالَ الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله تعالى-: يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكَيْفَ عَمَّى اللَّهُ مَوْتَهُ عَلَى الْجَانِّ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّهُ مَكَثَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ

– الشيخ : سَنَةً

– القارئ : -وَهِيَ مِنْسَأته- كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ -مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَكَلَتْهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ، وَهِيَ الْأَرَضَةُ، ضَعُفَتْ

– الشيخ : تعرف الدُّويبة هذه تُسمَّى إلى الآن عندنا تُسمُّى الأَرَضَة وهي الأرَضَة.

– القارئ : وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} وَالْإِنْسُ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ،

– الشيخ : {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} هذا هو المنصوصُ في القرآنِ، قالَ الشيخُ: والإنسُ أيضًا تَبَيَّنُوا، صحيح، لكن الآيةُ فيها {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} يعني: عَرفوا أنفسَهُم.

– القارئ : كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ ذلك.

– الشيخ : كانوا هم يَتَوَهَّمُونَ في أنفسِهم وَيُوهِمُونَ الإنسَ، يعني: يَتَوَهَّمُونَ وَيُـمَوِّهِونَ على الناسِ، لكن التَّبيُّن هذا الصريحُ المنصوصُ في القرآن التَّبيُّن إنما كان للجِنِّ حَصَلَ للجنِّ. بس يكفي.